عن الكتّاب المفجوعين أو العباقرة المدَمَّرين

دوستيوفسكي
دوستيوفسكي
TT

عن الكتّاب المفجوعين أو العباقرة المدَمَّرين

دوستيوفسكي
دوستيوفسكي

لا أعرف لماذا تشدني كتب السيرة التي تروي حياة العظماء إلى مثل هذا الحد. عندما أبدأ في واحد منها لا أستطيع تركه قبل الوصول إلى نهاياته. وكم أتمنى لو أن النهاية لم تنته؛ لو أن الكتاب لم يصل إلى الصفحة الأخيرة. هناك أشخاص محترفون وبارعون في كتابة سير المشاهير. نذكر من بينهم الفرنسي هنري ترويا، لكنه ليس الوحيد لحسن الحظ. على أي حال أحب أن أغطس في هذا النوع من الكتب لكي أنسى حالي والعالم كله بضجيجه وعجيجه من حولي. هذا ما فعلته مؤخراً في هذا الصيف الطويل الحار، حيث أعيش عزلة مطلقة من أروع ما يكون.

على هذا النحو انخرطت في قراءة سير المجروحين أو المفجوعين أو المدمرين من كبار الكتاب العالميين من أمثال شارل بودلير، وأنطونين آرتو، ودوستويفسكي، وكافكا، وغي دوموباسان، وجيرار دونيرفال، ونيتشه، ونوفاليس، وإدغار آلان بو، وفيرلين، وفيرجينيا وولف، وستيفان زفايغ... إلخ بالطبع لن أستطيع التحدث عنهم كلهم في هذه العجالة، وإنما سأكتفي بالتوقف عند محطتين فقط. وبداية أقول إن هؤلاء الكتاب المفجوعين، هؤلاء العباقرة المدمرين، هم وحدهم الذين يهمونني الآن وعلى ضوئهم أهتدي.

أنطونين آرتو (1896 - 1948)

البداية كانت سعيدةً بالنسبة لهذا الكاتب المنحوس الذي سيلخص في شخصه لاحقاً كل آلام العصر وفواجعه. فقد ولد في مدينة مرسيليا في أحضان عائلة غنية أحبته وراعته وأحاطته بكل أنواع العناية. فكان من المتوقع أن يكون إنساناً ناجحاً ومتفوقاً في الحياة. ألم يقل لنا علم النفس إن الطفولات السعيدة تنتج رجالاً سعيدين واثقين من أنفسهم؟ لكن العكس هو الذي حصل. لأنه أصيب منذ سن الرابعة بمرض عصبي عجيب ونادر لا يصيب إلا واحداً في المليون. وابتدأ الكابوس. ولم تنجح كل أنواع العلاج في إنقاذه. فراح يصارع الأشباح النفسية المرعبة الهاجمة عليه أو هكذا يتوهم. ولكن رغم ذلك فقد نبغ في الشعر والمسرح. كل شيء يحصل كما لو أن الطبيعة تحرمك من شيء بيد لكي تعطيك شيئاً آخر باليد الأخرى. تقول لنا الأخبار: كل حياته كانت سلسلة من الفواجع والأمراض والصدمات النفسية. لقد سجنوه في المصحات العقلية طيلة قسم كبير من حياته، ومع ذلك استطاع أن يبدع في الشعر والمسرح، وكان يشعر بأن هذا الإبداع هو الحل الوحيد المخلص الذي قد ينقذه من أزماته النفسية المتفاقمة. ونحن عندما ننظر إليه من الخارج قد ترعبنا آلامه النفسية المبرحة ولكننا نحب إبداعه، جنونه الخلاق... لقد دخل في الأدب كما يدخل آخرون في سلك الكهنوت والدين المسيحي: أي الأدب كعبادة ليس إلا. وهنا نلتقي بمارسيل بروست الذي يقول: «الحياة الحقيقية، الحياة المكتشفة أخيراً والمضاءة، الحياة الوحيدة التي تستحق أن تُعاش، هي حياة الأدب، والأدب وحده». وبالفعل فما معنى الحياة لولا تلك الروائع الأدبية العالمية التي نستمتع بها أيما استمتاع في شتى اللغات؟

لقد اعترف أنطونين آرتو في إحدى اللحظات قائلاً هذا الكلام المهم: أعاني من مرض نفساني وعصابي رهيب. أنا «تحت نفسي» لا فوقها، أنا شخص مدمر. أنا تحت رحمة الأقدار. هذا كل ما أعرفه، ولكني أقبل بقدري ومصيري لكيلا أموت كلياً. ثم لكي أكتب بعض الصفحات والشهادات العابرات.

لكن آرتو لم يمت من جنونه كما قد نتصور. ولم ينتحر إطلاقاً رغم عذاباته الشخصية وهيجاناته الجنونية إنما مات من مرض عضال. لكأنه ما كانت تكفيه كل هذه العذابات حتى ينضاف إليها مرض السرطان! شيء عجيب فعلاً: هذا الشخص لا حظ له في الحياة. إنها حياة مشكلة من سلسلة متلاحقة من الكوارث والنكبات، لكنها مضاءة من وقت لآخر بومضات عبقرية أتحفتنا ببعض نصوص القرن. حقاً لقد دفع أنطونين آرتو ثمن إبداعه غالياً. ومن بينها كتابه الرائع عن قرينه في الإبداع والعذاب النفسي والجنون الأقصى الرسام الهولندي الشهير فان غوخ. فقد كرس له كتاباً من أروع ما يكون بعنوان «فان غوخ المنحور من قبل المجتمع»، وليس المنتحر على عكس ما زعموا وأشاعوا. كان يتضور جوعاً والآن تباع لوحاته بملايين الدولارات... المجتمع هو الذي نحر فان غوخ أو قتله مثلما قتل أنطونين آرتو ذاته ومثلما قتل بودلير أيضاً. المجتمع قد يجننك إذا ما «حط عينه عليك»، واعتبرك شخصاً شاذاً خارجاً عن المألوف ومسلك القطيع. يقول آرتو في كتابه هذه العبارة اللافتة: لم يكتب أحد ولم يبدع إلا لكي يخرج من جحيم المجتمع وعذابه الداخلي القاتل.

دوستويفسكي (1821 - 1881)

ننتقل إلى مجنون آخر لا يقل عبقريةً وعظمةً عن أنطونين آرتو إن لم يزد أضعافاً مضاعفة: إنه فيدور دوستويفسكي. في السابعة عشرة من عمره كتب رسالة إلى أخيه ميخائيل يقول فيها: «عندي مشروع كبير: أن أصبح مجنوناً. ليتدبر الناس أمرهم، ليعالجوني إذا ما استطاعوا، ليحاولوا أن يعيدوا إلى العقل». لماذا كتب دوستويفسكي هذا الكلام في مثل هذه السن المبكرة؟ هل كان يرهص بما سيحصل له بعد عشر سنوات فقط عندما حُكم عليه بالإعدام ثم عفى عنه القيصر في آخر لحظة قبيل إطلاق النار بثوانٍ؟ من يعيش تلك اللحظة لا يمكن أن ينساها: لحظة اللحظات. هل كان يدرك بشكل واع أو لا واع بأنهم سيرسلونه إلى مكان التعذيب في سيبيريا حيث سيقضي أربع سنوات من الجحيم اليومي والأشغال الشاقة؟ هل كان يحدس أنه سيكتب روايات خارقة يبلى الزمن ولا تبلى: كالجريمة والعقاب، والمهووسين الممسوسين، والمذلولين المهانين، والأخوة كرامازوف؟ إلخ. من المعلوم أنه أصيب بعد سيبيريا بداء الصرع أو ما يدعى بمرض النقطة. وهو مرض كان يطرحه أرضاً عندما تجيئه اللحظة فيرغي ويزبد ويختلج ويعتذر لزوجته بعد أن تنتهي النوبة... ولكنه لم يصبح مجنوناً فقط وإنما أكبر عبقري في تاريخ الآداب الروسية ربما باستثناء تولستوي. بل حتى تولستوي يتضاءل أمامه.

قراءة مهمة في سيرة الكاتبين أنطونين آرتو ودوستويفسكي حيث يتخذهما الكاتب نموذجاً لسيرة المجروحينrn أو المفجوعين أو المدمرين rnمن كبار الكتاب العالميين

عندما نغطس في سيرته الذاتية ومؤلفاته العظيمة، الضخمة، فإننا نقتنع فوراً بجنونه العبقري. لا يمكن أن يكتب مثل هذه الروايات شخص طبيعي. لكننا نقتنع أيضاً بنزعته الإنسانية العميقة التي لا مثيل لها. وهي نزعة إنسانية تتجلى في تصويره الرائع لعذابات الناس الفقراء والبسطاء والمفجوعين في الحياة. إنه يعيش معهم، ينصهر فيهم إلى حد الذوبان. إنه واحد منهم. كان دوستويفسكي في أعماقه إنساناً طيباً من أعمق وأنبل ما يكون. لم يكن كاتباً عبقرياً فقط وإنما كان إنساناً أيضاً قبل كل شيء. هنا تكمن عظمة دوستويفسكي. كان يحترق ويتلوع عندما يرى امرأة فقيرة أو طفلاً جائعاً في شوارع مدينة سان بطرسبورغ. وكان يتمنى لو يستطيع إنقاذ كل فقراء العالم.

البعض يعتبر أن رواية «الجريمة والعقاب» هي أعظم رواية في تاريخ الآداب الروسية وربما غير الروسية. لقد كتب دوستويفسكي هنا رائعة أدبية مطلقة تخترق القرون. إنها رواية تدوخك تماماً بكل بساطة. أكاد أقول إنها رواية «بوليسية» لا مثيل لها في الآداب العالمية. صحيح أن دوستويفسكي أمضى حياته في حالة تجاذب بين الله والشيطان، بين قمة الأعالي وأسفل سافلين، ولكن الله انتصر في نهاية المطاف على الشيطان. والدليل على ذلك روايته العبقرية: الأخوة كرامازوف. أخيراً وصل دوستويفسكي وانتصر على شياطينه الداخلية.

في 8 يناير (كانون الثاني) من عام 1880 ألقى دوستويفسكي خطابه الشهير بمناسبة إزاحة الستار عن تمثال بوشكين في قلب موسكو. وقد ختمه بالقول: «لقد مات الشاعر في أوج قواه ونضجه وإمكاناته وحمل معه إلى القبر سراً كبيراً. وها نحن الآن مدعوون لأن نسبر هذا السر بدونه». وبعد أن انتهى من إلقاء الخطاب هجم عليه الجمهور الغفير لكي يقبلوا يديه وركبتيه. وراحوا يصرخون في نوع من الهيجان لا يكاد يوصف: هذا نبي، هذا هو النبي، هذا نبي روسيا ومجسد عبقريتها. وتساقطوا على قدميه إجلالاً وتبجيلاً وهم يشهقون وينتحبون. وكسف كل أدباء روسيا الحاضرين بمن فيهم تورغنييف. أما تولستوي فلم يتجرأ على الحضور خوفاً منه. وحسناً فعل.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.