غالباً ما نسمع القول المأثور: الأضداد تتجاذب، لكن العلم يكشف عن صورة مختلفة تماماً. فالأبحاث الحديثة تشير إلى أن الكثير من الناس ينجذبون إلى شركاء يشبهونهم بدرجة لافتة. وهذه الظاهرة المعروفة علمياً باسم التزاوج الانتقائي ليست حكراً على البشر بل رُصدت أيضاً في مملكة الحيوان، فالأسماك مثلاً تميل إلى التزاوج مع أفراد تشاركها سمات معينة وهو ما يوحي بأن التشابه يلعب دوراً مهماً في اختيار الشريك.
وحتى الثقافة الشعبية التقطت هذه الفكرة. فعلى منصات التواصل الاجتماعي انتشرت لعبة «الأشقاء أم المواعدة؟»، حيث يحاول المتابعون التفرقة بين ثنائي متشابه في الملامح هل هما إخوة أم عاشقان؟ المدهش أن كثيراً من الأزواج ينتهي بهم الأمر ليَبدوا كأنهم من العائلة نفسها.
لكن ما السبب وراء هذا التشابه اللافت؟ هل هو مجرد ذوق شخصي أم أن الأمر أعمق من ذلك؟
اللغز الوراثي: تفضيلات تُورَّث عبر الأجيال
ويفترض بحث جديد أجرته كايتلين هاربر وبريندان زيتش من جامعة «كوينزلاند» الأسترالية ونُشر في مجلة «Psychological Science» في 22 أغسطس (آب) 2025 أن التفسير يكمن في الوراثة. فاختيارنا لشريك يشبهنا قد يكون نتيجة حلقة وراثية تجمع بين الصفات الجسدية والتفضيلات المرتبطة بها.
ولتبسيط الفكرة يمكن أن نتخيل صفة الطول. فإذا كان شخص ما قد ورث طوله من أحد والديه وفي الوقت نفسه ورث من الوالد الآخر ميلاً للانجذاب إلى الشركاء الطوال، فإن النتيجة أنه سيعيش طويل القامة ويرغب في الارتباط بشريك طويل القامة أيضاً. ومع مرور الأجيال يتكرر هذا النمط حتى يصبح شائعاً، وهو ما يُعرف بالتزاوج الانتقائي.
وتوضح الباحثة كايتلين هاربر: «لقد كانت كل الأجزاء موجودة منذ فترة طويلة لكن لم تُربط بهذه الصورة من قبل. وباستخدام النمذجة الحاسوبية استطعنا أن نرى أن التزاوج الانتقائي ينشأ بشكل طبيعي دون الحاجة إلى فرضيات معقدة».
من البيولوجيا إلى علم النفس
في علم الأحياء التطوري يُعرف أن السمات الجسدية والسلوكية تنتقل عبر الوراثة. لكن الجديد هو توظيف هذه الآلية لتفسير اختيارات الشريك البشري، إذ كان يُعتقد سابقاً أن التزاوج الانتقائي ناتج عن عوامل اجتماعية أو بيئية أوعن تفضيلات واعية. غير أن هذا البحث يوضح أن الوراثة وحدها كافية لخلق هذا النمط حتى في غياب المؤثرات الثقافية.
محاكاة الحب عبر 100 جيل
ولاختبار النظرية صمم الباحثون نموذجاً حاسوبياً يحاكي تزاوج مجموعات سكانية على مدى أكثر من مائة جيل. وقد امتلك الأفراد في هذا النموذج صفات وراثية (مثل الطول أو لون العينين) إلى جانب تفضيلات وراثية لهذه الصفات عند اختيار الشريك.
وكانت النتيجة واضحة، حيث ظهرت ارتباطات قوية بين الصفات والتفضيلات بمرور الوقت، مما أدى إلى تزاوج انتقائي واضح. وحتى مع إدخال عشر سمات وتفضيلات مختلفة ظل النمط قائماً. وعندما أضاف الباحثون عوامل ضغط تطوري مثل تفاوت أعداد الأطفال بين الأجيال ضعفت الارتباطات قليلاً لكنها لم تختفِ.
أكثر من مجرد سلوك بشري
وتكمن قوة هذا التفسير في بساطته. فهو لا يتطلب فرضيات معقدة عن التعلم الاجتماعي أو الوعي بالاختيارات. بل بدلاً من ذلك يكفي أن نتصور أن السمات والتفضيلات تنتقل وراثياً معاً لتفسير ظاهرة حيّرت العلماء لعقود.
وكما تقول هاربر: «لأن الآلية عامة جداً يمكن تطبيقها أيضاً على الحيوانات حيث لا يصلح الكثير من التفسيرات المطروحة للبشر».
التأثير في المجتمع والتطور
ولا يقتصر أثر التزاوج الانتقائي على الأفراد، بل يمكن أن يُعيد تشكيل التركيب الوراثي لمجتمعات بأكملها. فعندما يختار الناس شركاء يشبهونهم تتشكل ما يشبه «مجموعات فرعية» داخل المجتمع تتميز بسمات مشتركة. وهو ما قد يؤثر ليس فقط في الصفات الجسدية، مثل الطول أو لون العينين، بل أيضاً في السمات النفسية والاجتماعية.
وعلى المدى الطويل قد يؤدي هذا إلى تقليل التنوع الجيني أو تعزيز خصائص معينة داخل مجموعات سكانية، وهو ما يحمل آثاراً بعيدة على مسار التطور البشري.
تفسيرات تطورية أوسع
كما يرى العلماء أن هذه النتائج تتكامل مع النظريات التطورية التي تفسر تفضيلات الشريك عبر الانتقاء الجنسي. ويعمل الانتقاء الجنسي بطريقتين هما التنافس داخل الجنس الواحد (intrasexual selection) حيث يتنافس الأفراد، خصوصاً الذكور على جذب الشريك. والأخرى هي الاختيار بين الجنسين (intersexual selection)، حيث ينجذب الأفراد إلى سمات معينة في الجنس الآخر، لأنها تعزز فرص البقاء والتكاثر.
وعلى سبيل المثال تشير الدراسات إلى أن الرجال غالباً ما يبحثون عن علامات الخصوبة لدى النساء، فيما تميل النساء إلى اختيار الرجال القادرين على توفير الحماية والموارد. وهذه التفضيلات ليست عشوائية بل هي استراتيجيات تطورت عبر الزمن لضمان استمرار النوع.
ماذا يعني ذلك لنا اليوم؟
في زمن تتنوع فيه طرق التعارف؛ من اللقاءات التقليدية إلى تطبيقات المواعدة، يظل تأثير الوراثة حاضراً بصمت. فالخيارات التي نعتقد أنها قائمة على الذوق أو المصادفة قد تكون انعكاساً لبرمجة وراثية خفية.
في النهاية حينما تلاحظ أنك وشريكك تتشابهان في الملامح أو السمات قد لا يكون ذلك مجرد قدر أو مصادفة. فربما تكون جيناتك هي التي دفعتك من دون وعي لاختيار شخص يعكسك بطريقة ما.

