متابعة سريعة لما طرحته دور المجوهرات الكبيرة في الآونة الأخيرة تُشير إلى أن الغالبية اختارت العودة إلى قديمها. أسماء مهمة مثل «كارتييه» و«شوميه» و«بوشرون» و«شوبارد» و«فان كليف آند آربلز» وغيرها تعرف جيداً أن في أرشيفها تسكن حكايات مثيرة. نعم قد يتجاوز عمرها قروناً، إلا أنها لا تزال صامدة تتحدّى الزمن بجمالها وصفائها، لا سيما تلك التي تربطها بالطبيعة؛ لهذا لم تكن صدفة أن يُطلق معظمها، إن لم نقل كلها، مجموعات رفيعة تُحاكي بتفاصيلها عالم الحيوانات والبرية. الجديد أنها فضّلت صياغتها بواقعية أكبر، في حين تبنّى البعض جانبها الجامح والمتوحش.

«كارتييه» أطلقت على مجموعتها «طبيعة متوحشة»، وكأنها تُبرِر هذه الواقعية في التصميم والصياغة. ترى أن هذا حق من حقوقها بحكم تاريخها الممتد لأكثر من 150 عاماً، وفنيتها في صياغة الأفاعي والنمور منذ زمن. كذلك دار «شوميه» التي أكّدت في مجموعتها الأخيرة «جواهر من الطبيعة»، تلك العلاقة التي تربطها بالبرية منذ نحو 250 عاماً، وبأن مؤسسها كان يُوقِع مُراسلاته في ذلك الزمن بعبارة «صائغ الطبيعة».
لم تستثنِ دار «بوشرون» نفسها من هذا الحق، وقالت إنه يمكن تتبع إرثها «الطبيعي» إلى عهد فريدريك بوشرون في 1858. والحق يقال إنه كان أول من شدّه جانبها البرّي. لم يحاول ترويضه أو صياغته بأسلوب شاعري، بل بالعكس، فضَّل محاكاته كما هو، الأمر الذي خلَّف لنا قطع مجوهرات تُجسّد أوراق اللبلاب والشوك والسراخس، بل حتى الذباب والنحل الطنّان. كان يرى الجمال حتى في الأشياء التي يراها الآخرون قبيحة.
المهم أن هذا الجانب البرِّي والجامح للطبيعة هو الذي سلّطت عليه بيوت المجوهرات الكبيرة الضوء هذا العام، وتفنن حرفيوها في إبرازه بشكل فني وواقعي بأبعاده الثلاثية:
«كارتييه» ورحلتها إلى «طبيعة متوحشة»

تقول جاكلين كاراشي، المديرة الإبداعية لقسم المجوهرات الفاخرة في دار «كارتييه» إن مجموعة «الطبيعة المتوحشة» (Nature Sauvage): «تُقدم نظرة جديدة عن عالم الحيوانات». وتتابع: «أشكالها قد تفاجئ الناظر بتأرجحها بين الخيال والواقعية، وتلاعبها الفني بالأحجام المتضادة لخلق خدع بصرية، إلا أنها مثيرة وفنية بكل المقاييس». وتشرح جاكلين أيضاً أنه تم الحرص على ألا تتكرر أشكال الحيوانات لتجنب السقوط في فخ النمطية. أمر فهمه حرفيوها ونفذوه بنجاح من خلال وضع لمسات معاصرة واضحة.
تتكون المجموعة من 87 قطعة، تشمل قلائد وبروشات وخواتم وأقراطاً، كان الفهد المرقط بطلاً من أبطالها الكُثر، مثل طائر الفلامنغو، والسلاحف والثعابين وغيرها. هناك مثلاً سلحفاة تكاد تفر من قلادة متدلية لتتحول إلى بروش، وطائر نعّام وردي يطل برأسه من بين شجيرات القصب المصنوعة من الزمرد، وثعبان ينفصل ليُشكل قلادة تتحول فيها حراشفه إلى لوحة درامية معاصرة، وما شابه من القصص المصوغة بالأحجار الثمينة. حتى الحمار الوحشي اكتسب رقيّاً وجمالاً وهو يلتقط في فكّه ماسة بقطع زمردي وحجر روبيليت، وتتخلله خطوط من العقيق اليماني وأجزاء مخرمة مرصعة جوانبها بالألماس.

أما أيقونتها «البانثير» فاكتسبت شقاوة ومرحاً في سوار وخاتم ضمن قطعة واحدة متحركة. استعرضت «كارتييه» في هذا «البانثير» مهارتها بخلق أشكال مدببة، وترصيع الفرو بالألماس والمرقط بأحجار الياقوت الأزرق والعيون بالزمرد. والنتيجة أنه يبدو مرناً كأنه يلعب ويقفز بشكل واقعي.
تُشير الدار إلى أن عملية إنتاج أي مجموعة من مجموعاتها الفاخرة تستغرق نحو 3 سنوات، من مرحلة التفكير والاستلهام إلى التنفيذ ثم التسويق. في هذه المجموعة، تطلّب تنفيذ 80 قطعة ما يقارب 70.000 ساعة، علماً بأن ما تم طرحه حتى الآن ما هو إلا فصل من فصول لا تزال الدار تنسج خيوطها لتصوغها في قصص جديدة، فهي تنوي طرح 185 قطعة أخرى في الأعوام المقبلة القليلة.
الطبيعة بعيون «بوشرون»

منذ خطواته الأولى في عالم المجوهرات، نسج فريدريك بوشرون علاقة عشق مع الطبيعة. كان مختلفاً عمن سبقوه ممن صاغوها بأساليب شاعرية للتمويه على جانبها المتوحش أو ترويضه. وبالنسبة له، كلما كانت هذه الطبيعة برِّية وعُذرية، زاد فضوله لاستكشاف تفاصيلها الخفية، يصوغها في قطع مقنعة تحوّلت مع الوقت إلى أيقونات تفخر بها الدار حتى الآن، مثل البرسيم، والأقحوان، والورود البرية، والشوك، فضلاً عن الفراشات والخنافس واليَعاسيب ونبتة اللبلاب. مثلاً لم ينظر إلى هذه الأخيرة بعيون باقي الصاغة، الذين يرونها مجرد نبتة طفيلية ويصفونها بـ«خنّاقة الأشجار». رأى فيها جمالاً عفوياً يرمز إلى الحب العميق والمتشابك.

في هذا العام، التقطت كلير شوان، المديرة الإبداعية لـ«بوشرون» إرثه، ونسجت منه إبداعات برؤية وأبعاد معاصرة. أطلقت على المجموعة عنوان «طبيعة جامحة» (Untamed Nature) تشمل 28 قطعة فنية، كل واحدة منها تتمرّد على الحدود التي رسمها الإنسان لمحيطه البيئي، سواء كانت زهوراً برية أو أشواكاً أو فراشات أو نبات البرسيم أو أوراق اللبلاب. هذه الأخيرة مثلاً ظهرت في بروش ينبض بالحياة، ويسهل فصل أغصانه ليتحوّل إلى عقد أنيق، أو إلى قطعة تزين الشعر. البراعة التقنية التي يتميز بها، تجلّت في تثبيت أوراق اللبلاب بأحجام مختلفة وأشكال متباينة، من خلال آليات دقيقة تمنح القطعة حركة طبيعية تُحاكي نسمات الرياح.

هناك أيضاً عقد مستوحى من التوت البرِّي الأحمر، استغرق العمل عليه 1.060 ساعة ليأتي متعدّد الاستخدام بفضل نظام دقيق من المفاصل المتحركة، تُمكِّن من فصل بعض السيقان لتكوين بروش كبير، أو بروشات صغيرة أخرى. تشرح الدار أن التحدي الذي واجهه حرفيوها هو كيفية إعادة ابتكار الالتفاف الطبيعي لأوراق الورد، كونها غنية بالتفاصيل. في النهاية تطلَّب الأمر صياغة نحو 84 ورقة يدوياً بأشكال مختلفة لتعزيز الإحساس بالواقعية، ثم ترصيعها بالألماس على شريط معدني بالعرض نفسه، مُثبت بمخالب دقيقة للغاية.
جواهر من الطبيعة

«شوميه» أيضاً أظهرت مهارتها وفنيّتها في مجموعتها الجديدة «جواهر من الطبيعة». غنيٌّ عن القول، إن أرشيفها غنيٌّ برسمات لقطع أيقونية نظراً لتاريخها الممتد على 250 عاماً تقريباً. قسمت المجموعة المكونة من 54 قطعة، إلى 3 فصول؛ الأول يُسلط الضوء على الأنواع البريّة التي تصمد في وجه الطبيعة المتقلبة، والنباتات المزروعة، والثاني يكشف عن طبيعة زائلة تشمل الزهور والفراشات، أما الثالث فيتناول الطبيعة المتجددة بلا نهاية.

وبوصفه صدىً لشغف جوزفين في علم النبات، ولتجذّرها في ذخيرة «شوميه» الأسلوبيّة، يتمّ تسليط الضوء على هذا التراث بشكل مُتكرّر كما في طقم «وايلد روز» (Wild Rose) المُستوحى من تاج صممه جوزيف شوميه في عام 1922 على شكل وردة برِّية مرصعة بألماسات صفراء، وبراعم مغلقة مصنوعة من اللؤلؤ. النسخة الجديدة عبارة عن طقم مُرصّع هو الآخر بألماسات صفراء تطلّب تنفيذ قلادته وحدها نحو 1500 ساعة من العمل.
في طقم «أوت آند فيلد ستار» (Oat and Field Star) فإن النجم الأول هو الشوفان. يتمايل هنا مع الأزهار في عقد فاخر استغرق تركيبه أكثر من 1300 ساعة عمل، إلى جانب بروش قابل للتحويل يُمكن ارتداؤه مثل قطعة تُزيِن الشعر.
ولا يختلف الأمر في طقم «كلوفر آند فيرن» (Clover and Ferns) الذي يتراقص فيه البرسيم والسرخس على أحجار الزمرد الكولومبي والألماس الأبيض، في عقد قابل للتحول.

تجدر الإشارة إلى أن البرسيم مثل النحل، يحتلّ مكانة بارزة في تُراث «شوميه». في الفصل الثالث من هذه الحكاية تبرز النحلة، التي لا يُمكن لـ«شوميه» أن تتخلّى عنها، فهي تعويذتها ورمزها الأبدي منذ أن اختارها الإمبراطور نابليون الأول رمزاً لسلطته.
في 7 بروشات مصممة بنقش قرص العسل، تظهر النحلة وهي تنتقل من زهرة إلى زهرة، ومن مجموعة إلى أخرى، تبحث عن مكانها بين الأحجار الكريمة الزاهية. الجميل فيها أيضاً أنها قابلة للتحويل، لتواكب متطلبات العصر، وتُذكرنا بذلك التلاحم بين الطبيعة والإنسان، وبأهميتها في النظام البيئي.
















