كيف تؤدي المحادثات عبر الإنترنت في باكستان إلى السجن بتهمة التجديف؟

وسيلة بأيدي جماعات إسلاموية لحشد الدعم الشعبي

أفراد عائلات الأشخاص المتهمين بالتجديف عبر الإنترنت خلال مؤتمر صحافي بإسلام آباد في شهر أكتوبر (غيتي)
أفراد عائلات الأشخاص المتهمين بالتجديف عبر الإنترنت خلال مؤتمر صحافي بإسلام آباد في شهر أكتوبر (غيتي)
TT

كيف تؤدي المحادثات عبر الإنترنت في باكستان إلى السجن بتهمة التجديف؟

أفراد عائلات الأشخاص المتهمين بالتجديف عبر الإنترنت خلال مؤتمر صحافي بإسلام آباد في شهر أكتوبر (غيتي)
أفراد عائلات الأشخاص المتهمين بالتجديف عبر الإنترنت خلال مؤتمر صحافي بإسلام آباد في شهر أكتوبر (غيتي)

إنها جريمة نكراء في عيون كثير من الباكستانيين، إلى حدّ أن أدلة الإثبات لا تكون مطلوبة دائماً لإدانة المتهم. وبمجرد انتشار شائعاتٍ عن وقوع هذه الجريمة، تشتعل مظاهرات عنيفة، ويلاحق بعض الأفراد المتهمين، ويُشاد بهم على أنهم أبطال، لما فعلوه.

جماعة إسلامية تحتجّ على اعتقال امرأة بتهمة التجديف عام 2023 في لاهور بباكستان (أ.ب)

والجريمة المشار إليها هنا هي التجديف على الإسلام. وفي باكستان، يُمكن أن تصل العقوبة إلى الإعدام، مع أن البلاد لم يسبق أن أعدمت شخصاً بسببها.

مهمة أقرب إلى المستحيل

ورغم ذلك، فإن تحديد ماهية جريمة التجديف يبدو مهمة أقرب إلى المستحيل، داخل مجتمعٍ يكبت النقاش حول هذا الأمر، باستثناء الإدانة الصريحة. وقد تسببت اتهامات التجديف، في بعض الأحيان، في تحريض وتأليب حشود قاتلة. وبالفعل، سقط سياسيون ومحامون تحدوا قوانين التجديف، قتلى، حسب تقرير لـ«نيويورك تايمز» الأحد.

عام 2023، شددت باكستان العقوبات على انتهاكات قوانين مكافحة التجديف، التي يعود تاريخ النسخ المبكرة منها إلى حقبة الحكم البريطاني. ومنذ ذلك الحين، ازدادت معدلات الاعتقالات بشكل حاد -من بضع عشرات سنوياً إلى مئات- لا سيما بتهمة التجديف على الإسلام عبر شبكة الإنترنت.

مشتبه به بالتجديف في كراتشي أكتوبر (إ.ب.أ)

من جهتهم، اشتكى كثير من المتهمين من أنهم وقعوا في فخ عناصر رديئة على الإنترنت، سعت لابتزازهم أو تضخيم عدد الاعتقالات بتهمة التجديف. في السياق ذاته، أعرب خبراء معنيون بحقوق الإنسان عن اعتقادهم بأن موجة اتهامات التجديف المتصاعدة -سواء أكانت مصطنعة أم لا- تعد وسيلة أكيدة في أيدي جماعات إسلاموية، لحشد الدعم الشعبي وجذب التمويل بذريعة الدفاع عن الحرمات الدينية.

وكشفت مقابلات أُجريت مع عائلات المتهمين وخبراء قانونيين ومدافعين عن حقوق الإنسان وبعض المسؤولين، بالإضافة إلى مراجعات التقارير الحكومية، عن وجود نمط من الانتهاكات. وأشار هؤلاء إلى إن قوانين التجديف الصارمة تتعرض لإساءة الاستغلال، بغية استهداف الفئات الضعيفة.

من جهتها، كانت شهيدة بيبي، التي تعيش في العاصمة إسلام آباد، تستعد لإنهاء صلاتها في إحدى ليالي عام 2023 عندما طرق أربعة رجال بابها. في البداية، زعموا أنهم أصدقاء ابنها، لكن الأسئلة التي ألقوها عليها جعلها تشعر بالتوتر.

بعد بعض الجدل، قالت السيدة بيبي: «اعترف أحدهم أخيراً بالحقيقة: كانوا ضباطاً من وكالة التحقيقات الفيدرالية، التي كانت آنذاك السلطة الرئيسية في باكستان للتحقيق في الجرائم الإلكترونية»، وكان ابنها قد أُلقي القبض عليه للتوِّ بتهمة التجديف على الإنترنت.

وقالت بيبي في مقابلة حديثة بصوت مرتجف: «شعرتُ كأن الأرض انزلقت من تحت قدميّ».

جاءت الرواية التي سردها ابنها، في وقت لاحق من خلف القضبان، مع نمط يقول خبراء في مجال حقوق الإنسان إنه أصبح شائعاً.

في العادة، تبدأ القصة بمحادثة عبر الإنترنت تبدو بريئة.

في حالة ابن بيبي، كان الأمر في إحدى مجموعات «واتساب» الكثيرة للباحثين عن عمل، التي انضم إليها. وقالت بيبي إن امرأة راسلته بشكل خاص، وعرضت عليه ما بدت أنها فرصة واعدة.

وقالت بيبي إن ابنها أخبرها: «كانت لطيفة وتتحدث معي بانتظام».

وبعد فترة، حدث أمر غريب. خلال محادثتهما التي كانت تبدو مهنية، أرسلت إليه المرأة صورة جنسية فاضحة مُرفقة بآيات قرآنية. انزعج ابنها، وسألها. تجاهلت المرأة الأمر وعدّته خطأً، وادّعت أنها غير متأكدة مما أرسلته. أصرت على إرسال نسخة من الرسالة لتتمكن من التحقق منها.

كان ابن بيبي متشككاً في الأمر، كما أخبر والدته في وقت لاحق، لكنه كان بحاجة ماسة إلى وظيفة. ولذلك، وافق على طلب المرأة بعد تردد.

بعد بضعة أيام، دعته المرأة لمقابلتها قرب محطة حافلات، ووعدته بأخذه إلى مكتب صاحب العمل، على حد قول بيبي. إلا أنه بدلاً من ذلك، فوجئ بأربعة رجال في انتظاره. واعتدوا عليه بالضرب، واستولوا على هاتفه، واحتجزوه.

وأضافت بيبي أن تلك الصورة الوحيدة التي أُرسلت إلى هاتف ابنها، أصبحت أساساً لتهمة التجديف.

مركز شرطة باكستاني تعرض لأضرار بعد احتجاجات ضد شخص متهم بإهانة القرآن الكريم خلال نوفمبر في بيشاور (إ.ب.أ)

ولم يتسنَّ التحقق من رواية السيدة بيبي بشكل مستقل، إذ لم تُنشر الأدلة في قضية ابنها، علاوة على أن النظام القضائي في باكستان لا يتسم بالشفافية. من جهتهم، رفض مسؤولون حكوميون التعليق على القضية، مشيرين إلى حساسية النقاش حول التجديف.

من ناحيتها، اطلعت صحيفة «نيويورك تايمز» على وثائق محكمة تتضمن نصوصاً لعدة محادثات عبر «واتساب» بين أشخاص متهمين بالتجديف، وأولئك الذين يبدو أنهم أوقعوا بهم في الفخ. وتضمنت النصوص الحوار بين ابن بيبي والمرأة.

اليوم، يقبع ابن بيبي، البالغ 26 عاماً، في السجن منذ أكثر من عامين في انتظار الحكم في قضيته. ويعد واحداً من مئات الأشخاص، الذين احتُجزوا بتهمة التجديف الإلكتروني خلال تلك الفترة. (نظراً لخطر تعرضهم إلى عنف، حرصت الصحيفة على عدم ذكر اسم ابن بيبي أو غيره من المسجونين بتهم التجديف).

اعتقالات بتهمة التجديف

ووثَّق تقريرٌ نشرته هيئةٌ حكوميةٌ لحقوق الإنسان في أكتوبر (تشرين الأول)، الارتفاعَ الحادَّ في الاعتقالات بتهمة التجديف الإلكتروني، وحدّد 11 حالة عام 2020، و9 عام 2021، و64 حالة عام 2022. بعد ذلك، جرى تعديل العقوبات على التجديف، لأسباب منها الغضب الشعبيّ إزاء أمثلة مُتصوَّرة على هذه الجريمة. وعليه، ارتفعت الاعتقالات بشكل حاد، لتصل إلى 213 حالةً عام 2023، ثم وصلت حداً هائلاً بلغ 767 حالةً خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024.

في الغالب، يقضي المحتجزون بتهمة التجديف في السجن أشهراً، قبل أن تصل قضاياهم إلى المحاكمة. داخل قاعات المحاكم، لا تقوم الدولة بمتابعة معظم قضايا التجديف، بل مجموعات خاصة، يقودها عادةً محامون وتدعمها شبكات من المتطوعين، الذين يراقبون وسائل التواصل الاجتماعي بحثاً عن المخالفين المحتملين.

من جهته، قال بيتر جاكوب، المدير التنفيذي لمركز العدالة الاجتماعية في باكستان، منظمة حقوقية، إن الجهود الحثيثة لرصد القضايا وإدانتها، تعكس «تسييساً متزايداً لقوانين التجديف».

وأضاف: «لقد جعلوا من معاقبة أي فعل إهانة محتمل لما يقدسونه، قضيتهم الأولى».

في المقابل، نفت جماعات مثل اللجنة القانونية المعنية بمحاربة التجديف في باكستان، التي تابعت عشرات قضايا التجديف على الإنترنت، أن تكون التهم مُلفّقة في بعض الأحيان. وأكدت أن هناك زيادة غير مسبوقة في قضايا التجديف الحقيقية على الإنترنت.

في هذا السياق، قال راو عبد الرحيم، المحامي الذي يمثل الجماعة، في خطاب ألقاه حديثاً: «لم نشهد من قبل مثل هذه الإهانة الدنيئة للإسلام والقرآن الكريم والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) وشخصيات أخرى مُبجّلة».

يذكر أنه في مارس (آذار)، قضت محكمة محلية في روالبندي، مدينة في إقليم البنجاب، على خمسة رجال بالإعدام بتهمة التجديف على الإنترنت. ورغم عدم تنفيذ الأحكام، فإنه حتى مجرد الاتهامات بالتورط في هذه الجريمة قد أدت أحياناً إلى عنف مميت.

وحسب مركز العدالة الاجتماعية الباكستاني، قُتل ما لا يقل عن 10 أشخاص متهمين بالتجديف العام الماضي، في أعمال عنف جماعية أو عنف من قِبل لجان أهلية.

علاوة على ذلك، فإنه يمكن أن تُشكل اتهامات التجديف وسيلة ضغط قوية في مخططات الابتزاز. وكشف تقرير للشرطة صدر العام الماضي، بعنوان «مجموعة أعمال التجديف»، عن شبكة إجرامية حصلت على رشى من خلال تهديد الناس بتهم تجديف ملفقة، غالباً بتواطؤ من مسؤولين في وكالة التحقيقات الفيدرالية.

ورداً على ذلك، أعادت الحكومة قريباً هيكلة جناح الجرائم الإلكترونية التابع لوكالة التحقيقات الفيدرالية، وأنشأت قسماً منفصلاً -الوكالة الوطنية للتحقيق في الجرائم الإلكترونية- يركز حصرياً على التحقيق في الجرائم الرقمية، بما في ذلك التجديف عبر الإنترنت.

في يوليو (تموز)، منح تعديلٌ آخَر بيبي الأمل في أن تنتهي مشكلات ابنها القانونية قريباً، بعد أن دعت محكمة باكستانية، رداً على التماس قدمته عائلات عدة أشخاص اعتُقلوا بتهم التجديف، إلى تشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في احتمال إساءة استخدام قانون التجديف. ولوهلة، شعرت بيبي بالأمل يراودها.

إلا أنه بعد أسبوع فقط، علّقت محكمة أعلى الأمر. ومن جديد، شعرت بيبي كأن الأرض قد انزلقت تحتها. وقالت: «لا أطمح سوى لعودة ابني البريء إلى المنزل».


مقالات ذات صلة

أفريقيا الكابتن إبراهيم تراوري خلال ترؤسه اجتماع الحكومة أمس الخميس (وكالة أنباء بوركينا فاسو)

بوركينا فاسو تعيد عقوبة الإعدام لمواجهة توسع الإرهاب

قررت السلطات العسكرية في بوركينا فاسو، الخميس، إعادة العمل بعقوبة الإعدام التي أُلغيت عام 2018، خصوصاً فيما يتعلق بتهمة الإرهاب.

الشيخ محمد (نواكشوط)
تحليل إخباري عناصر من مجموعة مسلحة مرتبطة بتنظيم «القاعدة» في النيجر (أرشيفية - الشرق الأوسط)

تحليل إخباري كيف وسّع تنظيم «القاعدة» نفوذه في غرب أفريقيا؟

أعلن تنظيم «القاعدة» أنه شنّ خلال الشهر الماضي أكثر من 70 عملية في دول الساحل وغرب أفريقيا ما أسفر عن سقوط أكثر من 139 قتيلاً.

الشيخ محمد (نواكشوط)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بجانب نوري المالكي خلال مناسبة دينية في بغداد (إعلام حكومي)

العراق يصنف «سهواً» حلفاء إيران «إرهابيين»... وارتباك داخل «التنسيقي»

في غضون ساعات، تراجع العراق عن وضع «حزب الله» وجماعة «الحوثي» على قائمة إرهاب، بعد ارتباك وذهول بين أوساط حكومية وسياسية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ ضباط من فرقة الخدمة السرية يرتدون الزي الرسمي يقومون بدورية في ساحة لافاييت المقابلة للبيت الأبيض في العاصمة واشنطن يوم 27 نوفمبر 2025 (أ.ف.ب)

«إف بي آي»: صلات محتملة بين منفّذ «هجوم الحرس الوطني» وجماعة متشددة

يحقق «مكتب التحقيقات الفيدرالي» الأميركي بصلات محتملة بين منفّذ هجوم الحرس الوطني بواشنطن الأفغاني رحمن الله لاكانوال، وطائفة دعوية غامضة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

اشتباكات بين قوات باكستان و«طالبان» أفغانستان عند الحدود

خلال تشييع أفراد من الشرطة الباكستانية في 3 ديسمبر 2025 قُتلوا في هجمات تعرضت لها منطقة قريبة من الحدود الأفغانية (أ.ف.ب)
خلال تشييع أفراد من الشرطة الباكستانية في 3 ديسمبر 2025 قُتلوا في هجمات تعرضت لها منطقة قريبة من الحدود الأفغانية (أ.ف.ب)
TT

اشتباكات بين قوات باكستان و«طالبان» أفغانستان عند الحدود

خلال تشييع أفراد من الشرطة الباكستانية في 3 ديسمبر 2025 قُتلوا في هجمات تعرضت لها منطقة قريبة من الحدود الأفغانية (أ.ف.ب)
خلال تشييع أفراد من الشرطة الباكستانية في 3 ديسمبر 2025 قُتلوا في هجمات تعرضت لها منطقة قريبة من الحدود الأفغانية (أ.ف.ب)

أفاد مسؤولون في إسلام آباد وكابل بأن تبادلاً كثيفاً لإطلاق النار اندلع بين القوات الحدودية الباكستانية والأفغانية، الجمعة، بعد نحو شهرين من سقوط عدد كبير من القتلى في أسوأ اشتباكات عابرة للحدود منذ عقود. وتحدثت تقارير غير مؤكدة عن وقوع إصابات على جانبي الحدود.

وقال مسؤول باكستاني لوكالة الأنباء الألمانية إن الأعمال العدائية الأخيرة التي اشتملت على إطلاق قذائف مدفعية وأسلحة أخرى وقعت بين مقاطعة بلوشستان الباكستانية ومنطقة قندهار الأفغانية.

وصرّح مسؤول من قوات حرس الحدود الباكستانية التي تراقب الحدود: «استمر إطلاق النار لمدة ساعتين. وكان مكثفاً وشرساً».

وقال متحدث باسم حكومة «طالبان» الأفغانية إن قواتهم ردّت على إطلاق النار الذي بدأته باكستان. بينما قال مسؤولون باكستانيون إن مقاتلي «طالبان» هم الذين بدأوا إطلاق النار على المدنيين عبر الحدود.

وتأتي الاشتباكات بعد أشهر من مناوشات دامية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التي أثارتها غارات جوية باكستانية على أهداف داخل أفغانستان، بينها العاصمة كابل، استهدفت زعيم ميليشيا يُزعم أنها وراء هجمات عابرة للحدود.

وتم التوصل إلى هدنة هشّة توسطت فيها قطر، ولا تزال سارية منذ ذلك الحين.

 

 


مودي وبوتين يعلنان اتفاقية تعاون اقتصادي تصل إلى 100 مليار دولار

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتحدثان خلال الجلسة العامة لـ«منتدى الأعمال الروسي الهندي» في نيودلهي (د.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتحدثان خلال الجلسة العامة لـ«منتدى الأعمال الروسي الهندي» في نيودلهي (د.ب.أ)
TT

مودي وبوتين يعلنان اتفاقية تعاون اقتصادي تصل إلى 100 مليار دولار

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتحدثان خلال الجلسة العامة لـ«منتدى الأعمال الروسي الهندي» في نيودلهي (د.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتحدثان خلال الجلسة العامة لـ«منتدى الأعمال الروسي الهندي» في نيودلهي (د.ب.أ)

أكّد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال زيارته الرسمية إلى الهند، استمرار بلاده في تزويد نيودلهي بالنفط رغم العقوبات الأميركية، بينما أعلن رئيس الوزراء ناريندرا مودي اتفاقاً ثنائياً واسعاً لتعزيز التعاون الاقتصادي؛ بهدف رفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030.

وأوضح مودي، خلال مؤتمر صحافي عقب اجتماعه مع بوتين، أن الجانبين يعملان على اتفاقية للتجارة الحرة بين الهند والاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تقوده موسكو، ويضم كلاً من أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان.

بدوره، قال بوتين، لمودي خلال المؤتمر الصحافي، إن «روسيا مزوّد موثوق للنفط والغاز والفحم وكل ما يلزم لتطوير قطاع الطاقة في الهند»، مضيفاً: «نحن مستعدون لمواصلة توريد النفط دون انقطاع لاقتصاد الهند سريع النمو».

ومن دون الإشارة مباشرة إلى النفط الروسي، شكر مودي ضيفه على «دعمه الراسخ للهند»، مشدداً على أن «أمن الطاقة ركيزة أساسية وقوية» في الشراكة بين البلدين.

وتتعرَّض نيودلهي منذ أشهر لضغوط من الولايات المتحدة التي تتهمها بالمساهمة في تمويل المجهود الحربي الروسي عبر شراء النفط الخام الروسي بأسعار مخفضة. وفي أواخر أغسطس (آب)، فرض الرئيس الأميركي دونالد ترمب رسوماً جمركية إضافية بنسبة 50 في المائة على الصادرات الهندية، في وقت كانت تُجرى فيه محادثات ثنائية حول اتفاقية تجارة حرة. وأكد ترمب لاحقاً أنه حصل على تعهّد من مودي بوقف واردات النفط الروسي التي تُشكِّل نحو 36 في المائة من النفط المكرر في الهند.

وبحسب منصة «كبلر» للمعلومات التجارية، تراجعت المشتريات الهندية من الخام الروسي، رغم عدم صدور تأكيد رسمي من نيودلهي، بينما أعلنت مجموعات هندية عدة أنها ستتوقف عن الاعتماد على الواردات المقبلة من موسكو.

وكان مودي قد استقبل بوتين شخصياً، مساء الخميس، في مطار نيودلهي، واستضافه على مأدبة عشاء خاصة. ومنذ بداية الزيارة، تبادل الجانبان عبارات الإطراء وأشادا بمتانة العلاقات التاريخية بين البلدين.

ووصف مودي ضيفه أمام الصحافيين بأنه «صديق حقيقي»، معرباً عن تفاؤله بإمكان إيجاد تسوية للنزاع في أوكرانيا، ومؤكداً أنه «علينا جميعاً العودة إلى طريق السلام».

وردَّ بوتين بشكر جهود مودي «الرامية إلى إيجاد تسوية لهذا الوضع»، مشيداً بالعلاقات «العميقة تاريخياً» بين البلدين وبـ«الثقة الكبرى في التعاون العسكري والتقني» بينهما.

ويسعى البلدان إلى إعادة التوازن في المبادلات التجارية التي بلغت مستوى قياسياً وصل إلى 68.7 مليار دولار خلال عامَي 2024 – 2025، رغم أنها تُظهر حالياً اختلالاً كبيراً لصالح روسيا. وما زالت الهند تمتنع عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا بشكل صريح، مع حفاظها في الوقت ذاته على علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة.

وكان مودي قد عبّر لأول مرة عام 2022 خلال لقاء في أوزبكستان عن موقفه حيال الأزمة، حين دعا إلى وقف الحرب «في أسرع وقت ممكن»، مؤكداً لاحقاً تمسكه بنظام عالمي «متعدد الأقطاب» ومقاومة الضغوط الغربية لقطع العلاقات مع موسكو.

واستغلت روسيا والهند الزيارة لمناقشة التعاون في المجال العسكري. وقال الدبلوماسي الهندي الكبير فيكرام ميسري إن وزيرَي الدفاع في البلدين عقدا اجتماعاً، من دون التوقيع على أي اتفاق جديد. ورغم توجه نيودلهي مؤخراً إلى مورِّدين آخرين مثل فرنسا، وزيادة اعتمادها على التصنيع المحلي، فإن موسكو لا تزال من أبرز مورِّدي السلاح للهند.

وبعد الاشتباكات التي شهدتها الحدود الهندية - الباكستانية في مايو (أيار)، أبدت نيودلهي اهتماماً بالحصول على منظومات دفاع جوي روسية متقدمة من طراز «إس - 400». وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف قبل الزيارة: «لا شك أنه سيتم بحث هذا الموضوع خلال الزيارة». كما أشارت تقارير صحافية هندية إلى اهتمام الجيش الهندي بالمقاتلات الروسية من طراز «سوخوي - 57».

ومن المقرر أن يغادر بوتين الهند عائداً إلى موسكو، مساء الجمعة.


خريطة طريق لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين موسكو ونيودلهي

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتحدثان خلال قمة منظمة شنغهاي (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتحدثان خلال قمة منظمة شنغهاي (رويترز)
TT

خريطة طريق لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين موسكو ونيودلهي

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتحدثان خلال قمة منظمة شنغهاي (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يتحدثان خلال قمة منظمة شنغهاي (رويترز)

عكست نتائج القمة الروسية الهندية إصرار موسكو ونيودلهي على إطلاق مرحلة جديدة لتعزيز التعاون في كل المجالات، بما في ذلك في قطاعي الطاقة والدفاع وفي المجالات النووية والتقنية. وتجنبت الوثائق التي وقَّعها الزعيمان الروسي فلاديمير بوتين والهندي ناريندرا مودي الإشارة إلى الضغوط الأميركية على الهند لتقليص التعاون مع روسيا، لكنها رسمت ملامح «خريطة طريق» لتوسيع الشراكة بين البلدين خلال السنوات المقبلة.

وبعد جولات من المحادثات التي شارك فيها ممثلون عن قطاعات مختلفة في البلدين، شارك الزعيمان في أعمال المنتدى الروسي الهندي للتعاون، ووقَّعا عشرات الوثائق المشتركة.

ووصف بوتين نتائج المحادثات بأنها وضعت أساساً لتوسيع التعاون الاقتصادي التجاري بين البلدين. بينما أعلن رئيس الوزراء الهندي برنامجاً للتعاون الاقتصادي حتى عام 2030، سيساعد على تنويع التجارة والاستثمارات، وتحقيق التوازن بينهما.

جانب من حقل استقبال بوتين في نيودلهي أمس (إ.ب.أ)

وشملت الوثائق الجديدة التي تضاف إلى اتفاقية «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» المبرمة قبل 25 سنة، اتفاقية للتعاون في مجال الصحة والتعليم الطبي والعلوم، واتفاقية لتنظيم حماية المستهلك، وتعزيز الإشراف على حقوق المستهلكين في البلدين.

كما وقَّع الزعيمان اتفاقية لمكافحة الهجرة غير الشرعية، وتعزيز فرص العمل لمواطني كل دولة لدى الدولة الأخرى، وكان هذا مطلباً هندياً لتوسيع مجالات العمالة الوافدة من الهند. وركزت اتفاقية أخرى على توسيع التعاون في منطقة القطب الشمالي، وتم رفدها بمذكرتي تفاهم للتعاون في مجال الملاحة في المياه القطبية.

ومن ضمن الاتفاقات الأخرى كان هناك بروتوكول بين الهيئة الفيدرالية للجمارك الروسية والهيئة الجمركية الهندية. واتفاق لتعزيز الخدمات البريدية. وبدا أن هذه تشكل الجوانب المعلنة من الاتفاقات الجديدة التي وصل عددها بحسب مصادر الكرملين إلى 29 وثيقة.

مودي لدى استقباله بوتين في نيودلهي أمس (إ.ب.أ)

إجراءات تبسط التنقل بين البلدين

كما أصدر الرئيسان بياناً مشتركاً حدد أولويات التعاون الثنائي. بعد مشاركتهما في منتدى الأعمال الروسي الهندي. وشدد البيان على إطلاق موسكو ونيودلهي إجراءات العمل على تبسيط التنقل لمواطني البلدين من خلال نظام تأشيرات ميسر. وأشار إلى تعزيز التعاون في إمدادات الطاقة، وتوسيع الصادرات الهندية إلى روسيا، وحدد أولويات تطوير التعاون الدفاعي في إعادة تركيز الشراكة العسكرية والانتقال إلى إنتاج منصات دفاعية متقدمة وتطوير أبحاث علمية.

كما نص على تسريع المشاورات بشأن بناء محطة طاقة نووية جديدة بتصميم روسي في الهند. واتفق الزعيمان على تطوير أنظمة دفع بالعملات الوطنية، وناقشا إنشاء شركات للأسمدة.

رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يلتقي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدى وصول الزعيم الروسي إلى قاعدة بالام الجوية في نيودلهي في 4 ديسمبر 2025 وهو اليوم الأول من زيارته الرسمية التي تستغرق يومين إلى الهند (أ.ف.ب)

ووفقاً للبيان المشترك، فقد ناقش الطرفان، وأشادا عالياً بالتعاون الواسع النطاق في مجال الطاقة بوصفه عنصراً أساسياً في الشراكة الاستراتيجية الخاصة والمتميزة بينهما. وأشار الطرفان إلى التعاون الحالي والمستقبلي بين الشركات الروسية والهندية في مجالات النفط ومنتجاته، والتكنولوجيات المتعلقة بالتكرير والبتروكيماويات، وخدمات الحفر، وتكنولوجيا الاستخراج والبنية التحتية ذات الصلة، والبنية التحتية المرتبطة بالغاز الطبيعي المسال وغاز البترول المسال، والمشاريع المختلفة القائمة في البلدين، وتكنولوجيا الغاز تحت الأرض للفحم، والمشاريع النووية، وما إلى ذلك. كما شدّد الطرفان على ضرورة حلّ القضايا المتعلقة بالمشاريع الاستثمارية في قطاع الطاقة بشكل عاجل، واتفقا على معالجة مختلف التحديات التي يواجهها المستثمرون في هذا القطاع.

تعاون في مجال الطاقة النووية

كما اتفق الطرفان على تعميق التعاون في إنشاء ممرات نقل مستقرة وفعالة، مع التركيز بشكل خاص على توسيع الروابط اللوجيستية لتحسين الترابط، وزيادة قدرة البنية التحتية، دعماً لتطوير «الممر النقل الدولي الشمال – الجنوب»، وممر تشيناي – فلاديفوستوك، والطريق البحري الشمالي. ورحّب الطرفان بتوقيع مذكرة تفاهم بشأن إعداد المتخصصين للعمل على السفن العاملة في المياه القطبية.

أشار الطرفان إلى التعاون المثمر بين إدارات السكك الحديدية في روسيا والهند، الهادف إلى إقامة شراكات في مجال تبادل التكنولوجيا المتبادل المنفعة.

وأكدا استعدادهما لتكثيف التعاون التجاري والاستثماري في منطقة الشرق الأقصى الروسي والمنطقة القطبية الشمالية للاتحاد الروسي. ويشكل «برنامج التعاون الروسي - الهندي في المجالات التجارية - الاقتصادية والاستثمارية في الشرق الأقصى الروسي للفترة 2024–2029»، فضلاً عن «مبادئ التعاون في المنطقة القطبية الشمالية للاتحاد الروسي»، الأساس الضروري لمزيد من التعاون بين الهند والأقاليم الروسية في الشرق الأقصى، خصوصاً في مجالات الزراعة والطاقة واستغلال الثروات المعدنية واستخدام العمالة وتعدين الألماس ومعالجته والصناعات الدوائية والنقل البحري.

لافتة ترحيبية ببوتين في أحد شوارع نيودلهي يوم 4 ديسمبر (رويترز)

وأكد الطرفان عزمهما على توسيع التعاون في مجال الطاقة النووية، بما في ذلك دورة الوقود النووي، وضمان دورة حياة تشغيل محطة الطاقة النووية «كودانكولام»، والتطبيقات غير الطاقوية للتكنولوجيا النووية، فضلاً عن بلورة جدول أعمال جديد للتعاون في المجالات المتعلقة بالاستخدام السلمي للطاقة الذرية والتكنولوجيات العالية المرتبطة بها.

وأشار الطرفان إلى أهمية التعاون في استخدام الطاقة الذرية في الأغراض السلمية كجزء جوهري من الشراكة الاستراتيجية، خصوصاً مع الأخذ في الحسبان خطط حكومة جمهورية الهند لزيادة توليد الطاقة النووية في البلاد إلى 100 غيغاواط بحلول عام 2047. ورحّب الطرفان بالتقدم المحرز في مشروع محطة «كودانكولام»، بما في ذلك بناء الوحدات المتبقية، واتفقا على الالتزام بجدول تسليم المعدات والوقود.

لاحظ الطرفان أهمية مواصلة النقاش حول تخصيص موقع ثانٍ في الهند لبناء محطة طاقة نووية.

وسوف يبذل الجانب الهندي كل الجهود لتخصيص الموقع رسمياً وفقاً للاتفاقيات الموقعة سابقاً. مع الإشارة إلى أهمية التعاون في الفضاء، رحّب الطرفان بتوسيع التعاون بين مؤسسة «روسكوسموس» الروسية ومنظمة الأبحاث الفضائية الهندية في استخدام الفضاء للأغراض السلمية، بما في ذلك برامج الفضاء المأهولة والملاحة الفضائية واستكشاف الكواكب. وأشار الطرفان إلى التقدم المحرز في التعاون المتبادل المنفعة في مجال تطوير وإنتاج وتشغيل محركات الصواريخ.

منظمة شنغهاي والنظام العالمي

الرئيسان الصيني شي جينبينغ (يمين) والروسي فلاديمير بوتين وبينهما رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في لقائهم بمدينة تيانجين الصينية في سبتمبر (أ.ب)

في الشق السياسي، أشار الطرفان إلى الدور المتنامي لمنظمة شنغهاي للتعاون في تشكيل النظام العالمي الجديد. وأكد دعم روسيا ترشيح الهند للعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي الموسع. كما تم توقيع حزمة كبيرة من الاتفاقيات الحكومية والوزارية والتجارية. ويهدف العديد منها إلى توسيع التعاون الاقتصادي بين روسيا والهند.

وأعلن بوتين في ختام المحادثات أن روسيا سوف تظل مورداً موثوقاً به للطاقة لنيودلهي، مؤكداً أن الأسعار التفضيلية التي تمنحها روسيا للهند سوف تظل قائمة. من دون أن يتطرق إلى التهديدات الأميركية برفع التعرفقة الجمركية على الهند في حال واصلت مشتريات موارد الطاقة من روسيا.

وقال بوتين إن حجم التجارة الروسية الهندية بلغ هذا العام 64 مليار دولار، مشيراً إلى أن خريطة الطريق الجديدة لتعزيز التعاون سوف تسهم في رفع هذا الرقم إلى 100 مليار حتى حلول عام 2030.

ورأى بوتين أن العلاقات القوية بين قطاع الأعمال في البلدين تشكل أساساً متيناً لتطوير التعاون بين موسكو ونيودلهي. وزاد أن روسيا مستعدة لشراكة واسعة مع الهند في مجال الذكاء الاصطناعي، مشيراً في الوقت نفسه إلى توجه لتعزيز التعاون الصناعي. وتحدث الرئيس الروسي عن تحديث البنية التحتية لطريق بحر الشمال ومشروع الممر الشمالي الجنوبي.

مؤكداً أن سهولة الوصول إلى وسائل النقل والاتصالات اللوجيستية تحظى بأهمية خاصة، و«يجري العمل بالفعل على قدم وساق في هذا الاتجاه. ويجري العمل على مشروع إنشاء ممر بين الشمال والجنوب - من روسيا وبيلاروسيا إلى ساحل المحيط الهندي».

مودي، بدوره، تحدث عن شراكة مع الشركات الروسية في إنتاج المركبات الكهربائية ومكوناتها. وأعرب عن قناعة بأن التعاون في هذا المجال لن يلبي احتياجات البلدين فحسب، بل سيسهم أيضاً في تنمية دول الجنوب العالمي، كما اقترح تطوير علاجات جديدة للسرطان بشكل مشترك. وتطرق إلى إمدادات الطاقة، مؤكداً الاستعداد لضمان إمدادات الوقود دون انقطاع للاقتصاد الهندي سريع النمو.

وبات معلوماً أن الطرفين ناقشا خلال الزيارة توسيع التعاون في مجال الطاقة الذرية.

وقال مودي إن موسكو ونيودلهي تتجهان للتعاون في مجال بناء المفاعلات المعيارية الصغيرة ومحطات الطاقة النووية العائمة، بالإضافة إلى استخدام التكنولوجيا النووية في الطب. وأكد أن محطة كودانكولام للطاقة النووية سوف تقدم مساهمة كبيرة في إمدادات الطاقة الهندية.

وأشاد مودي بالشراكة الاستراتيجية الممتدة على مدى ربع قرن مع روسيا، مؤكداً أنها صمدت وتعمقت رغم جميع التحديات والتغيرات العالمية. ووجَّه مودي الشكر للرئيس الروسي على صداقته وعمله المتفاني، مؤكداً أن «حكمة بوتين وخبرته كانتا حاسمتين في تعزيز هذه العلاقات».

وفي إطار التعاون المستقبلي، أشار مودي إلى أن الشراكة في منطقة القطب الشمالي ستحقق منفعة مشتركة، وستسهم في خلق فرص عمل للشباب الهندي.