من عمق جبال الباحة والطائف، ومن بين الشعاب المكسوّة بالأعشاب البرية، تنطلق رحلة صانع عطور سعودي، لا يستعين ببوصلة ولا دليل، بل بأنفه... «الأنف السعودي» الذي تشبّع برائحة الأرض وتربّى على التمييز بين عبق الأعشاب والنباتات التي اختزلت في ذاكرته ملامح الطفولة والمكان.
وفي حديث له مع لـ«الشرق الأوسط» يقول خبير تقطير النباتات العطرية ونحت وتحليل أنواع العود عزام آل حمدان: «الرائحة ليست مجرد نكهة عابرة... إنها ذاكرة. نبتة اللافندر التي أعرف موسمها، وطريقة قطفها كما تعلمتها من عمّي ذات صيف».
من هذه الطبيعة الوعرة، يجمع عزّام من مزارع مخفية وممرات جبلية ضيّقة نباتات اللافندر، والبعيثران، والريحان، والورد الطائفي، ليعيدها إلى معمله الصغير (دار عزام) في جدة التاريخية، ومن هناك تتحوّل هذه النباتات العطرية إلى زيوت خام، تُقطّر برفق، وتحفظ في زجاجات شفّافة لتتحول إلى ما يمكن أن يوصف بـ«ذاكرة سائلة».

«الأنف السعودي»... حاسة متجذّرة في البيئة
لا يرى عزّام نفسه مجرد صانع عطور، بل إنه حارس لهوية (شمّية) سعودية تتشكل تدريجياً، عن ذلك يقول عزام: «الأنف السعودي لا يُدرّس في معاهد باريس... بل يتكوّن منذ الصغر في المجالس التي تفوح منها رائحة الريحان، ومن البراري التي نعرف نباتاتها بالشمّ لا بالنظر». ويؤمن بأن الجمال في البساطة، وأن كل نبتة تحمل رائحتها الكاملة دون الحاجة لخلطات معقّدة. يتابع عزام: «أنا لا أركّب العطور... بل أطلق للنبتة صوتها، أريد أن يشم المتعطر الزهور كما لو كان في الجبل».

مواسم الزهور... لحظات خاطفة لا تتكرّر
تفرض الطبيعة جدولها الزمني الصارم. فبعض الزهور لا تمنح عطْرها إلا لأيام، وبحسب عزام: «موسم الورد الطائفي لا يتجاوز 40 يوماً، وإذا تأخرت، تفوّت الفرصة بالكامل. لذلك نحن لا نعمل على مخزونات مجففة... كل زجاجة عطر لديّ تبدأ من نبات طازج». هذه الفلسفة تتطلّب دقّة عالية في المتابعة الميدانية، وخبرة متوارثة في معرفة توقيت الإزهار، وجودة النبتة، والطريقة المثلى لاستخلاص زيتها. ومن بين النباتات العطرية التي يرتبط عزّام بعلاقة خاصة معها (الروزماري)، التي يصفها بـ«النبض البارد» لعطور جدة التاريخية، يقول آل حمدان: «الروزماري له خاصية عجيبة... فكل مرة أتعطر به، يسألني الناس: ما هذه الرائحة؟ فيها نضارة لا تشبه أي زيت عطري آخر».

ورغم أن الروزماري يُستخدم عالمياً في الطبخ والعلاج، فإن عزّام يقدّمه بوصفه عطراً فواحاً قائماً بذاته، ويستخلص عبر عملية تقطير دقيقة تحت درجات حرارة منخفضة تحفظ خصائصه الطبيعية.
عطر الهوية... زجاجة من الأرض
لا يرى عزّام أن العطور المستوردة قادرة على منافسة ما تنتجه البيئة السعودية من زهور خام، يقول: «لسنا بحاجة لزيوت فرنسية كي نكوّن هويتنا. الجبال والمزارع هنا، والأنوف التي تشمّ وتختبر، هي أنوف سعودية تعرف ما تريده»، وبالنسبة له: «الزجاجة ليست منتجاً للتجارة، بل حاوية للذاكرة، ووسيلة لحفظ رائحة البلاد في زمن تتشابه فيه الروائح»، وختم وهو يمسك بزجاجة مقطر بداخلها ورد طائفي: «هذا ليس عطراً... بل مرآة لموسم زهر، ورائحة جبال، وهوية تُستنشق».


