لا يستعرض الرسام اللبناني نيقولا بعقليني، في معرضه «ذاكرة الماء»، مشهديات ساحلية أو بورتريهات نسوية مألوفة. فمن خلاله، يغوص في صُلب العلاقة الوجودية بين الكائن والماء، بين الذاكرة والاندثار، وبين الجسد والغياب. يمكن الشعور بكلّ لوحة من أعماله كما لو أنها نسمة مالحة على البشرة، وتلقّيها مثل ارتطام رقيق لموجة على صخرة لا تكفّ عن نداء الأمواج.

بعقليني، العائد من خلفيّة علمية وطبّية إلى ألوان الحياة المائية، يرسم ليبوح بما يذوب من الواقع. يُصغي لما يتفلَّت من الشكل، ويُمسكه على أطراف الفرشاة: ظلُّ الجسد، الصمت الذي يتلو البكاء، الحنين الذي لا تعريف نهائياً له. في «ذاكرة الماء»، نلمس أثر المشهد ولا نكتفي برؤيته.
لوحاته ناعمة وشفّافة كأنها على وشك التلاشي. نساؤه لا يمشين على السطح؛ يطُفن في الماء، يسبحن فيه أو ينفصلن عنه من دون أن يُفارقنه. أجسادهن مائلة، ساكنة، مُشعّة، لكنها ليست كاملة، كأنّ شيئاً منها انسحب إلى العمق. هنَّ حاضرات كما الغياب: كثيفات، مُتقلّبات، لا يمكن الإمساك بهنّ. يقول بعقليني لـ«الشرق الأوسط»: «أرسمُ النساء كما أشعر بهنّ، مُعلَّقات بين الوجود والغياب، جذورهنّ مغروسة في الأرض، وأجسادهنّ تنزلق مع التيار». هذا القول مفتاح لفَهْم فلسفته التشكيلية برمّتها.
في لوحاته، تتحوّل المرأة إلى كائن وسيط بين عالمَيْن: عالم الثبات وعالم الانسياب. فهي، مثل الماء الذي يغمرها، ليست كتلة مُكتملة، وإنما حالة مستمرّة من التشكّل. جذورها العميقة في الأرض تُذكّر بانتماءاتها الأولى، بتاريخها الشخصي، وبثقل التجارب والذاكرة. لكنها، في اللحظة ذاتها، جسدٌ يميل مع التيار، يتفتَّت قليلاً، يتفلَّت من الحدود الصارمة، كأنها تستسلم لزمن لا يمكن القبض عليه.

هذه الحالة المُعلَّقة لا تُعبّر عن ضعف. قوتها من نوع آخر: القوة التي تقبل التبدُّل! المرأة عند بعقليني ليست صورة مثالية مُحصّنة ضد التغيُّرات. هي كائن قادر على التأقلم والصمود في مواجهة الجَرْف. حضورها في اللوحة أثرٌ يُشبه ما يتركه الموج على الرمل قبل أن يمحوه المدّ التالي.
بهذا المعنى، تُصبح كل امرأة في أعماله مرآة لأسئلة أكبر حول معنى الوجود نفسه. كيف نعيش مُتجذّرين في العالم، ونحن في الوقت نفسه عرضة لتياراته القاسية؟ كيف نحافظ على ملامحنا وسط محوٍ دائم؟ النساء في لوحاته يحملن احتمال الإجابة، بقدرتهنّ على الاحتفاظ بجوهرهنّ حتى حين يتلاشى جزء منهن في العمق.
والمرأة، مثل الماء، تختزل التناقضَيْن معاً: تُنقذ وتُدمّر، تحتضن وتتخلّى، تذوب وتبقى. بعقليني لا يرسم ملامحهنّ بقدر ما يرسم هذا التوازن الدقيق بين التمسُّك والانفلات، وبين ما يُرى وما يتبخَّر.

والماء، في نظر الفنان، أبعد من خلفيّة: إنه روح. يُحاكيه قبل أن يرسمه. ويتعامل مع الألوان المائية كما يتعامل مع الذاكرة: بصبر وحذر. فهي، مثل ذاكرته؛ تُقاوم التثبيت، تنساب، تَفْلُت، تُفاجئ، وتترك أثرها حتى بعد أن تجفّ. يقول: «اخترتُ الألوان المائية لأنها لا تخضع. في كلّ ضربة فرشاة صدى وتخلٍ وبحث عن شيء ربما لم يعُد هنا، لكنه لا يزال يُحَسّ. فـ(ذاكرة الماء) معرض يعبُر من الحنين إلى القوة الناعمة لِما يبقى فينا، حتى حين يمضي».
ويُكمل: «الماء بالنسبة إليّ ليس عنصراً فقط. أراه شاهداً. يحمل القصص، يحتفظ بالزمن بطريقة مختلفة، يُذيب الحواف، يُلين الذكرى، ويعكس الحقيقة والوهم معاً. إنه مرآة للروح: جميل، متقلّب، جريح، وحيّ». من هنا، يحظى الرسم بمَهمّة تتجاوز التوثيق البصري نحو محاولة صياغة ما لا يُرى. فالبحر، كما يقول، يُتمتم لنا أشياء تعجز الكلمات عن التعبير عنها. وهذه هي الحياة.

ولا يرسم بعقليني النساء كما هنّ، وإنما كما يُحدِثن في الماء من سكينة. يُفتّش عن الاتّزان المُرهَف بين الصلابة والرقّة، وبين السكون والعمق. الموج إيقاعٌ لريشته: يعود إلى الإحساس ذاته مراراً، كما تعود الموجة إلى الشاطئ، لتُعيد قول الشيء نفسه من دون أن تكرّره.

في «ذاكرة الماء» (استضافته (نو شيف إنْ ذا كتشن) بمنطقة الصيفي البيروتية)، عرض نيقولا بعقليني عالماً آيلاً إلى الزوال، ومع ذلك أمكن الاحتفاء به بالكرامة عوض الحسرة. عالمٌ يكمُن في الظلال، في الملح، في الوجه المُتجعِّد، وفي اليد المبلّلة.
ولا يدعو المعرض للحسم، مُفضّلاً الإقامة الدائمة في المنطقة الرمادية بين الحضور والغياب، بين البحر والمرأة، ووهج الذكريات.


