ما بعد قمة واشنطن: الذكاء الاصطناعي يُبدع… والسعودية تُخطط للمستقبل

يسهم في تصميم التجارب العلمية وتحليل النتائج وصياغة الاكتشاف

ما بعد قمة واشنطن: الذكاء الاصطناعي يُبدع… والسعودية تُخطط للمستقبل
TT

ما بعد قمة واشنطن: الذكاء الاصطناعي يُبدع… والسعودية تُخطط للمستقبل

ما بعد قمة واشنطن: الذكاء الاصطناعي يُبدع… والسعودية تُخطط للمستقبل

في قلب العاصمة الأميركية واشنطن، حيث تتقاطع خيوط السياسة بالتكنولوجيا، التأم العالم في قمة «كسب سباق الذكاء الاصطناعي» (Winning the AI Race). لكن ووسط الضجيج المعتاد لكواليس القمم الكبرى التي عرضت مناقشتها عبر الإنترنت، لم يكن للعلماء مجرد دور المُراقب أو المحلل، بل كانوا في طليعة المشهد.

قمة علمية

في الجلسات المخصصة لما يُعرف بـ«الذكاء الاصطناعي + العلوم» (AI + Science)، بدا واضحاً أن العالم لم يعد يناقش متى سيؤثر الذكاء الاصطناعي في العلوم، بل كيف يعيد كتابتها من جديد. لم تعد الخوارزميات مجرد أدوات خلف الشاشات، بل تحوّلت عقولاً مُساعدة تبتكر، وتقترح، وتتنبأ، وتُعيد تعريف علاقة الإنسان بالمجهول.

كانت الجلسات العلمية أشبه بماكينات تفكير جماعي، تتسابق فيها المعادلات والنماذج اللغوية مع الكواشف الجزيئية والمجاهر الكونية. هناك، لم يكن الحاضر مجرّد لحظة عابرة، بل مختبراً مفتوحاً يُصاغ فيه شكل المستقبل.

من نماذج البروتينات إلى مسارات العلاج الجيني

وما بين نماذج توليد البروتينات واكتشاف مواد طاقة جديدة وتحديد مسارات العلاج الجيني المعقّد، برز سؤال مفصلي: هل أصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً في اختراع العلم ذاته؟ وهل نحن على أعتاب عصر جديد لا تُكتب فيه الأوراق البحثية فقط بواسطة العلماء، بل يُسهم الذكاء الاصطناعي نفسه في تصميم التجربة، وتحليل النتائج، وصياغة الاكتشاف.

في تلك اللحظة، لم يكن السؤال أميركياً فقط، بل عالمياً. وهنا، برزت السعودية مشاركاً فاعلاً، لا مراقباً من بعيد. فقد أشار كثير من المتحدثين إلى أن المملكة، التي وضعت الذكاء الاصطناعي في قلب «رؤيتها الطموحة 2030»، باتت تشكّل منصة علمية ناشئة قادرة على احتضان مثل هذه الطفرات العلمية – ليس فقط بالاستهلاك، بل بالإنتاج والتوجيه والتشريع.

من أداة ذكية إلى عقل معرفي

في الجلسات التي شهدتها قمة واشنطن، لم يكن الذكاء الاصطناعي مجرد موضوع نقاش، بل كان الحاضر الأذكى في القاعة، إذ تحدّث روّاد العلم من الصف الأول، مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، والمؤسسة الوطنية للعلوم (NSF)، وشركة OpenAI صاحبة أشهر نماذج اللغة التوليدية (GPT)، لكنّ القيمة الحقيقية لم تكن في الأسماء، بل في التحوّلات التي كشفوا عنها.

لقد تغيّر المشهد بالكامل

لم نعد أمام برامج تنتظر أوامرنا، بل أمام «عقل معرفي» يصوغ الأسئلة قبل أن نفكر فيها، ويبتكر التجارب قبل أن نطلبها، ويقترح الحلول لأسئلة لم نطرحها بعد.

في أحد العروض، عُرض نموذج ذكي قادر على تصميم مواد جديدة للاستخدام في الفضاء والطاقة المتجددة، ليس عبر المحاولة والخطأ، بل عبر استنتاجات رياضية فورية من ملايين التركيبات الكيميائية. وفي عرض آخر، شاهد الحضور كيف أصبح من الممكن فك شيفرات الجينوم البشري وربط الطفرات الجينية بالأدوية الفردية في دقائق، باستخدام خوارزميات قادرة على تجاوز ما يُمكن لفريق بحثي كامل إنجازه في أشهر.

تحليل النماذج الرياضية للجاذبية والمادة المظلمة

أما الأكثر إدهاشاً، فكان دخول الذكاء الاصطناعي إلى ميادين ما وراء المجهول: تحليل الظواهر الكمومية، مثل الجاذبية والمادة المظلمة باستخدام نماذج رياضية غير مألوفة، تُبنى ذاتياً من خلال التعلم العميق. لم تعد الفيزياء حكراً على الفرضيات القديمة... بل انفتحت على عقل اصطناعي لا يخضع للتقاليد المعرفية البشرية؛ ما قد يفتح أبواباً على اكتشافات لم نكن نحلم بها.

لقد تحوّل الذكاء الاصطناعي من خادم علمي إلى شريك في إنتاج المعرفة، بل وربما، كما وصفه أحد الباحثين، «أكثر العقول فضولاً على كوكب الأرض... حتى لو لم يكن بشراً».

السعودية على خط المعادلة... وبخطى واثقة

قد يظن البعض أن خريطة الذكاء الاصطناعي العلمي تُرسم فقط في وادي السيليكون أو على طاولات كمبردج، لكن الحقيقة أن السعودية دخلت المعادلة العلمية بخطى واثقة، لا مستهلكاً متأخراً، بل مُصمّماً لقواعد اللعبة الجديدة.

فالتحول الجاري في المملكة اليوم لم يعد مجرد «رقمنة» للخدمات أو «تحديث» للأنظمة، بل قفزة معرفية تُعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والبيانات، بين الخوارزمية والمستشفى، بين الجينوم والمنهج الدراسي.

ويأتي ذلك عبر أربعة مسارات استراتيجية متكاملة:

1. مراكز ذكية للطب والجينوم. تم تأسيس مراكز وطنية متقدمة تُعدّ من الأحدث في الشرق الأوسط، تركّز على الطب التنبؤي والبيانات الجينية، وتستخدم نماذج تعلُّم عميق قادرة على التنبؤ باحتمال الإصابة بالأمراض قبل سنوات من ظهور الأعراض.

ولا تحلل هذه المراكز الفحوص، بل تتوقع المسارات الصحية للمريض، وتوجّه خطط الوقاية والعلاج بناءً على بيئته الجينية وأنماط حياته. إنه علم المستقبل... يُمارس اليوم على أرض المملكة.

2. شراكات دولية استراتيجية. في مشهد غير مسبوق، وقّعت المملكة اتفاقيات بحثية مع كبرى جامعات العالم مثل أكسفورد (Oxford) ومعهد MIT، لتبادل المعرفة وتطوير خوارزميات طبية مشتركة.

وهذه ليست شراكات رمزية، بل فرق بحث سعودية تشارك فعلياً في تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي العلمية العالمية، وتُسهم في إنشاء قواعد بيانات طبية مخصصة للمجتمعات العربية، وهو أمر غائب تماماً عن معظم الجهود الغربية.

3. تعليم المستقبل... يُدرَّس الآن. انطلاقاً من «رؤية 2030»، تم إدراج الذكاء الاصطناعي ضمن مناهج التعليم العام والجامعي، خصوصاً في مجالات STEM (العلوم، التقنية، الهندسة، الرياضيات).

لا يُدرّس الطالب السعودي اليوم عن نيوتن فقط، بل يتعلم كيف تُصمم خوارزمية تتنبأ بقوة الجاذبية في بيئة فضائية مختلفة، أو كيف يمكن لنموذج لغوي أن يشرح قوانين الكم بأسلوب شخصي.

4. منظومة حوكمة وأخلاقيات رائدة. ولأن العلم بلا ضوابط قد ينقلب عبئاً؛ بادرت السعودية لتكون أول دولة عربية تطلق «منصة أخلاقيات الذكاء الاصطناعي الطبي» عام 2023، بالتعاون مع هيئة التخصصات الصحية؛ لضمان أن يظل الابتكار خادماً للإنسان... لا العكس.

5. التأثير في المعايير العالمية. لم تعد السعودية مجرد متلقٍّ للمعايير الدولية، بل أصبحت عضواً فاعلاً ومؤثراً في اللجان العالمية لوضع معايير الذكاء الاصطناعي، مثل اللجنة المشتركة ISO/IEC JTC 1، التي تُعد المرجع الأول لتقنين التقنيات الرقمية عالمياً.

دعوة إلى علماء العرب: هل نحن مستعدون؟

أمام هذه التحولات المتسارعة، لا يمكن للعقل العربي أن يظل في مقعد المتفرّج. فالسؤال لم يعد: هل نلحق بالركب؟ بل: هل نحن مستعدون لنكون جزءاً من القيادة؟

هل آن الأوان أن نكفّ عن الاكتفاء باستهلاك النماذج الغربية، ونبدأ في بناء أدوات علمية تتحدث لغتنا، وتفهم بيئتنا، وتحلل بياناتنا الجينية والمجتمعية؟ هل نستطيع أن نُعيد تعريف مختبراتنا وجامعاتنا لتصبح مراكز إبداع ذكائي عربي، لا تُقلّد بل تُبدع؟

جامعات لا تُخرّج باحثين فقط، بل تنتج خوارزميات، وتصمّم مجهراً ذكياً يتفاعل مع لغتنا، ومساعداً بحثياً يقرأ الشعر العربي بقدر ما يفهم تسلسل الجينات!

إن الفرصة متاحة الآن... لا بعد عشر سنوات.

ولدينا في العالم العربي من العقول، والموارد، والهمم، ما يكفي لبناء نسختنا الخاصة من ثورة الذكاء الاصطناعي العلمي.

لكن يبقى السؤال معلقاً فوق سبّورة كل قاعة في جامعاتنا: هل نحن مستعدون... أن نكون جزءاً من الحل؟ أم ننتظر أن يُكتب مستقبلنا بخوارزميات الآخرين؟

الختام: ذكاء يُولّد العلم

في زمن يُعاد فيه تعريف من هو «العالِم»، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة في يد الباحث، بل أصبح شريكاً فكرياً يكتب المعادلات، يقترح النظريات، بل ويوجّه دفة الاكتشاف العلمي نفسه.

نحن نعيش لحظة يتحوّل فيها «الذكاء» من صفة بشرية إلى قوة معرفية هجينة، تتكوّن من الإنسان والخوارزمية معاً. لحظة يُولد فيها العلم من تفاعلٍ لا سابقة له بين الإبداع البشري والدقة الحوسبية.

وفي هذه اللحظة المفصلية، لم تعد السعودية على الهامش. بل تقف اليوم في قلب السباق، تُنظّم، وتُشرّع، وتُبدع، وتُعلّم. ولذا؛ فإن السؤال الحقيقي لم يعد: هل سنلحق بركب الذكاء الاصطناعي؟ بل أصبح: هل سنرسم نحن وجهته... باللغة العربية، وبالعقل العربي، ومن أرضٍ تحمل رؤية لا تعرف المستحيل؟ وكما قال ابن رشد: «العقل نورٌ يُضيء في ذات الإنسان، وليس حكراً على أمة دون أخرى».


مقالات ذات صلة

من الطاقة إلى الرقاقة: تحالف سعودي - أميركي نحو عصر تقني جديد

تحليل إخباري الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرحبا بالأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض (أ.ف.ب) play-circle

من الطاقة إلى الرقاقة: تحالف سعودي - أميركي نحو عصر تقني جديد

تحالف سعودي - أميركي ينتقل من النفط إلى الرقائق والذكاء الاصطناعي، مستفيداً من الطاقة منخفضة التكلفة لنقل التقنية وتوطين الحوسبة وبناء اقتصاد المستقبل.

د. يوسف القوس
الاقتصاد لافتة تحمل عبارة «الذكاء الاصطناعي» خلال المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي في شنغهاي (أرشيفية - رويترز)

الذكاء الاصطناعي يرسخ مكانته في صميم استراتيجيات الاستثمار لعام 2026

مع دخول الأسواق العالمية عصر «الاقتصاد المعرفي»، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد قطاع تقني عابر أو ظاهرة مؤقتة، بل أصبح محركاً رئيسياً يُعيد تشكيل النظام المالي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ…

د. عميد خالد عبد الحميد (لندن)
الاقتصاد علم الصين فوق لوحة إلكترونية تحمل شعار «صنع في الصين» (رويترز)

الذكاء الاصطناعي الصيني يجذب المستثمرين وسط مخاوف «فقاعة وول ستريت»

يزيد المستثمرون العالميون من رهاناتهم على شركات الذكاء الاصطناعي الصينية، متوقعين نجاح نماذج عدة قادمة على غرار «ديب سيك».

«الشرق الأوسط» (نيويورك-هونغ كونغ)
تكنولوجيا ألعاب الأطفال المدعومة بالذكاء الاصطناعي... تخرج عن السيطرة

ألعاب الأطفال المدعومة بالذكاء الاصطناعي... تخرج عن السيطرة

خبراء يدعون إلى مقاطعة شرائها

كريس ستوكل - والكر (واشنطن)

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.