نماذج الذكاء الاصطناعي تكشف عن رؤى جديدة في دراسات الدماغ

ترسم خرائطه وتحسن وسائل الكشف عن الأمراض فيه

نماذج الذكاء الاصطناعي تكشف عن رؤى جديدة في دراسات الدماغ
TT

نماذج الذكاء الاصطناعي تكشف عن رؤى جديدة في دراسات الدماغ

نماذج الذكاء الاصطناعي تكشف عن رؤى جديدة في دراسات الدماغ

لا تُظهر فحوصات الدماغ التقليدية سوى جزء من الصورة. فهي لا تستطيع التقاط كيفية تواصل مناطق الدماغ المختلفة بشكل كامل، وهذا هو عامل أساسي في الكشف المبكر عن الأمراض العصبية.

حوار علمي

يعمل الدكتور راهول بيسواس، طبيب الأعصاب في جامعة كاليفورنيا-سان فرنسيسكو، على تغيير ذلك باستخدام أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي ترسم خرائط لهذه الروابط العصبية الخفية.

يكشف بحثه الرائد كيف يُعطّل مرض ألزهايمر تواصل الدماغ في مناطق غير متوقعة، مُتحدياً بذلك الافتراضات القديمة حول هذا المرض. والآن، من خلال شركته «كانيفا للاستشارات»، يُركز الدكتور بيسواس على تحويل هذا العلم إلى أدوات تشخيص عملية يُمكنها تحديد اضطرابات الدماغ قبل ظهور أعراضها بوقت طويل.

تحدثت «فاست كومباني» مع بيسواس حول كيفية إحداث الذكاء الاصطناعي ثورة في صحة الدماغ، بدءاً من الكشف المبكر عن الأمراض، ووصولاً إلى العلاجات المُخصصة، والتقنيات اليومية. تم تعديل المحادثة لاختصارها، وتوضيحها.

* كيف تكشف نماذج الذكاء الاصطناعي عن رؤى جديدة حول الدماغ لم تكن ممكنة باستخدام أساليب علم الأعصاب التقليدية؟

-يمنحنا الذكاء الاصطناعي رؤية أوضح بكثير لكيفية عمل الدماغ، ليس فقط مكان حدوث النشاط، بل أيضاً كيفية تفاعل المناطق، وتأثيرها على بعضها البعض، وتغيرها بمرور الوقت.

غالباً ما درس علم الأعصاب التقليدي مناطق الدماغ بمعزل عن بعضها البعض. لكن الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل مجموعات بيانات ضخمة ومعقدة -مثل تسجيلات أو مسوحات الدماغ الكاملة- وكشف أنماط دقيقة في جميع أنحاء النظام. على سبيل المثال، يمكنه اكتشاف شبكة من المناطق التي تتعاون باستمرار أثناء تكوين الذاكرة، والتي قد تُغفل في التحليلات التقليدية. باختصار، يساعدنا الذكاء الاصطناعي على الانتقال من فهم اللقطات إلى فهم الأنظمة، كاشفاً عن العلاقات الخفية، وعلامات الإنذار المبكر للخلل الوظيفي.

تطبيقات حالية واعدة

* ما التطبيقات الحالية الواعدة للذكاء الاصطناعي في مجال صحة الدماغ، مثل الكشف المبكر عن الأمراض التنكسية العصبية أو استراتيجيات العلاج الشخصية؟

-من الاستخدامات المثيرة للذكاء الاصطناعي الكشف المبكر عن اضطرابات الدماغ. يمكن للذكاء الاصطناعي فحص مسوحات الدماغ، أو حتى السجلات الصحية الروتينية لاكتشاف العلامات الدقيقة للمرض قبل ظهور الأعراض بوقت طويل.

+رصد مرض ألزهايمر. على سبيل المثال، اكتشف نظام تعلم آلي مرض ألزهايمر بدقة تزيد عن 90 في المائة في فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي، أي قبل سنوات من التشخيص التقليدي. إن اكتشاف هذه التغيرات مبكراً يعني أن الأطباء يمكنهم التدخل مبكراً.

+العلاج الشخصي. ومن المجالات الواعدة الأخرى العلاج الشخصي. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساعد في تصميم علاج يناسب دماغ كل فرد. من خلال تحليل البيانات العصبية والوراثية الفريدة لكل شخص، قد تتنبأ خوارزمية بدواء الاكتئاب الأنسب له، مما يقلل من استخدام مبدأ التجربة والخطأ المعتاد في إيجاد علاج فعال.

نهج نمذجة شبكة الدماغ

* ماذا ستقدم مراقبة الدماغ هذه عملياً للمرضى؟

-لنأخذ، على سبيل المثال، نهج نمذجة شبكة الدماغ. باعتبار أنه جزء من زيارته، يخضع المريض لفحص التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. وتقوم التطبيقات الذكية بإدخاله مباشرة في الخوارزمية للحصول على نموذج الشبكة. ويكمن جمال هذا في أنك تحصل على شبكة دماغ المريض نفسه مباشرةً من بياناته. لذا يمكنك رؤية كيف تتغير شبكة الدماغ في كل زيارة.

إنها مخصصة لذلك المريض. ومع مرور الوقت، يمكنك حقاً ملاحظة كيف تتغير اتصالات الشبكة المختلفة. هل تقترب أعراضه من أعراض مرض ألزهايمر أو غيره من الأمراض العصبية؟ أم أنه بخير؟ وإذا كانت الأعراض على مستوى أي مرض، فسيتم التنبيه.

وكما في حالة لو أجرينا فحص دم في كل زيارة، فإذا تجاوز مستوى أحد مؤشرات الدم الحد الطبيعي، فسترى علامة حمراء تُشير إلى «انتباه! هذا أعلى من المعدل الطبيعي». لذا، قد يحدث شيء مشابه لشبكات الدماغ، لأن الشبكات تُعتبر مؤشرات حيوية فعّالة للتنبؤ بالأمراض.

مراقبة صحة الدماغ

* كيف يُمكن للتحليلات التنبئية القائمة على الذكاء الاصطناعي والتقنيات القابلة للارتداء أن تُغير طريقة مراقبتنا لصحة الدماغ والحفاظ عليها في حياتنا اليومية؟

-سيجعل الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التقنيات القابلة للارتداء، مراقبة صحة الدماغ مستمرة، واستباقية. تتتبع هواتفنا الذكية وساعاتنا الذكية بالفعل النوم، ومعدل ضربات القلب، والحركة. ومن خلال إضافة تحليلات الذكاء الاصطناعي، يُمكن لهذه الأجهزة أيضاً مراقبة التغيرات الطفيفة التي تُشير إلى التدهور المعرفي، أو مشكلات الصحة العقلية.

على سبيل المثال، قد يُلاحظ أحد التطبيقات تباطؤ سرعة كتابتك، أو تغير أنماط نومك، ويُشير إلى ذلك على أنه إنذار مُبكر مُحتمل. في الأساس، ستصبح فحوصات صحة الدماغ جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية -أشبه بـ«ضوء فحص المحرك» لدماغك- بدلاً من أن تكون أمراً يقتصر على عيادة الطبيب.

* كيف يختلف نهجك عن تحليل شبكات الدماغ التقليدي؟

-تقول الطرق الساذجة إن منطقتين دماغيتين مترابطتان، وبالتالي تعتبر ذلك صلة. ولكن ربما تأثرت هاتان المنطقتان الدماغيتان بمنطقة دماغية رئيسة واحدة. منطقة دماغية واحدة «ج» كانت تؤثر على كلٍّ من «أ» و«ب» معاً. لذا بدا أن «أ» و«ب» متصلتان، ولكن كان الأمر أشبه باتصال زائف. لذا، تحاول الطرق السببية أن تكون أكثر تحديداً، إذ إنها تحاول في الواقع القول: «مهلاً، منطقتا الدماغ «أ» و«ب» لم تكونا متصلتين. منطقة الدماغ «ج» هي التي كانت تؤثر على «أ» و«ب» في الوقت نفسه».

نماذج سببية

* أنت تُنشئ نماذج شبكية سببية للدماغ. ما الاكتشافات المذهلة التي كشف عنها هذا النهج حول كيفية تدفق المعلومات عبر الدوائر العصبية؟

-باستخدام النماذج السببية (التي تُظهر جهة ما تؤثر على جهة ما أخرى في الدماغ)، اكتشفنا بعض الأمور غير المتوقعة حول كيفية انتقال الإشارات. في مرض ألزهايمر، على سبيل المثال، لاحظنا انقطاعاً واسع النطاق في الاتصالات عبر مناطق متعددة -وليس فقط مراكز الذاكرة التي يتوقعها الناس. كانت الروابط عبر أجزاء من الفصين الجبهي والصدغي، وحتى المخيخ، أضعف بكثير لدى مرضى ألزهايمر. كان هذا مفاجئاً، لأن المخيخ لا يرتبط عادةً بمرض ألزهايمر، ويشير إلى أن المرض يُعطّل شبكات أوسع مما كنا ندرك. لاحظنا أيضاً أن الدماغ يحاول إعادة توجيه الإشارات عند ضعف مسار رئيس، مما يُشير إلى مرونة ذاتية، حيث تحاول المسارات الثانوية تعويض النقص.

آثار الاكتشافات العملية

* ما الآثار العملية لهذه الاكتشافات الآن أو في المستقبل القريب؟

-لهذه النتائج آثار عملية واضحة. قد يكون أحدها تحسين التشخيص: إذا علمنا أن شبكة معينة تضعف عادةً في مرحلة مبكرة من مرض ألزهايمر، فقد يستخدم الأطباء ذلك باعتباره علامة حيوية. يمكن لمسح الدماغ التحقق من قوة تلك الشبكة لدى شخص يعاني من أعراض خفيفة للمساعدة في تشخيص الحالة، أو حتى التنبؤ بها في وقت أقرب.

ومن الآثار الأخرى العلاج المُستهدف. من خلال تحديد محاور أو مسارات الدماغ التي تتعطل، يمكن للعلاجات التركيز على تلك المحاور، أو المسارات. وعلى سبيل المثال، إجراء تحفيز دماغي موجه، أو تمرين إدراكي لتقوية دائرة عصبية محددة. باختصار، يتيح لنا فهم هذه الشبكات السببية البدء في معالجة اضطرابات الشبكة الجذرية، وليس فقط الأعراض السطحية.

* لقد طبقتَ تحليلك لشبكة الدماغ على مرض ألزهايمر. ما الآثار السريرية المحتملة التي تتوقعها من هذا العمل خلال السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة؟

-في

السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة، أتوقع بعض الآثار السريرية المهمة:

+ يمكن استخدام علامات شبكة الدماغ للكشف عن مرض ألزهايمر في وقت أبكر بكثير. قد يكشف فحص مُحلل بالذكاء الاصطناعي عن تعطل الشبكة المميز للمرض قبل سنوات من ظهور الأعراض الملحوظة، مما يُتيح التدخل المبكر.

+قد يراقب الأطباء أيضاً اتصال الدماغ لدى المرضى بمرور الوقت باعتباره علامة حيوية جديدة. إذا كان العلاج فعالاً، فسنرى تباطؤاً في تراجع شبكة المريض أو استقراراً. يمكن أن تساعد هذه الملاحظات في تعديل العلاجات بسرعة.

+ وأخيراً، قد تُصمّم العلاجات لتناسب نقاط ضعف الشبكة المحددة لدى كل شخص. على سبيل المثال، إذا كانت الشبكة الجبهية لشخص ما هي الأكثر تأثراً، فيمكن للأطباء تركيز الأدوية أو التمارين المعرفية على تقوية وظيفة تلك المنطقة. هذا النهج الموجه بالشبكة يعني رعاية أكثر تخصيصاً، وفعالية.

أدوات مساعدة رقمية

* بعيداً عن الطب، كيف يمكن لأبحاثك حول شبكات الدماغ السببية أن تؤثر على التكنولوجيا التي نستخدمها يومياً؟

-ما نتعلمه عن شبكات الدماغ يُمكن أن يُلهم مباشرةً تقنيات يومية أكثر ذكاءً. أحد الأمثلة على ذلك هو برمجيات الذكاء الاصطناعي: من خلال ملاحظة كيفية تحول أنماط التأثير بين مناطق الدماغ عبر الحالات العقلية المختلفة -وهو أمر تُساعد نماذج شبكتنا السببية في الكشف عنه- يُمكن للمطورين استلهام أفكارهم من مساعدين رقميين يتكيفون بشكل أفضل مع السياقات، أو المهام المتغيرة، تماماً كما يفعل الدماغ.

مجال آخر هو واجهات الدماغ والحاسوب -وهي تقنية تُتيح للمستخدمين التحكم في الأجهزة من خلال الإشارات العصبية. من خلال فهم كيفية تأثير مناطق الدماغ سببياً على بعضها البعض أثناء مهام مُحددة -رؤى من نماذج شبكتنا السببية- يُمكن للمهندسين تصميم واجهات أكثر استجابة تتوافق مع التدفق الطبيعي للمعلومات في الدماغ. باختصار، تُوفر دراسة شبكات الدماغ لمصممي التكنولوجيا مُخططاً لإنشاء أنظمة تُشبه الدماغ، وأكثر كفاءةً وسهولةً في الاستخدام.

الدماغ ليس كمبيوتراً بل شبكة ديناميكية

* ما المفاهيم الخاطئة الشائعة لدى الناس حول كيفية معالجة الدماغ للمعلومات؟ وكيف يُعالج بحثك هذه المفاهيم؟

-يعتقد الكثيرون أن الدماغ يعمل مثل جهاز كمبيوتر بسيط. تدخل المُدخلات، وتُجرى المعالجة في مكان واحد، ثم تخرج المُخرجات. لكن في الواقع، يُعدّ الدماغ شبكة ديناميكية من المناطق المترابطة التي تؤثر على بعضها البعض باستمرار. يُظهر بحثنا أنه حتى القرار البسيط يُمكن أن يشمل مناطق متعددة في سلاسل سببية مُعقدة. لا يتعلق الأمر بمنطقة دماغية واحدة تؤدي وظيفة واحدة، بل يتعلق بتكيف الشبكات، وإعادة توجيهها، وتفاعلها بطرق تعتمد على السياق.

أسئلة علمية جديدة

* كيف يُمكّن الذكاء الاصطناعي للبحث في أنواع جديدة من الأسئلة العلمية ومناهج البحث في علم الأعصاب؟ والتي كانت مستحيلة أو غير عملية سابقاً؟

-مع الأدوات التقليدية، اقتصرنا على دراسة التأثيرات المحلية -مثل كيفية استجابة منطقة دماغية واحدة لمُحفز ما. لكن الذكاء الاصطناعي يُتيح لنا طرح أسئلة أوسع نطاقاً على مستوى النظام: كيف تنتشر الإشارات عبر الدماغ بمرور الوقت؟ كيف تُعيد الشبكات تنظيم نفسها في حالة المرض؟ أو تحت الضغط؟ كان من الصعب اختبار هذه الأسئلة سابقاً بسبب تعقيد البيانات، ولكن الآن مع الذكاء الاصطناعي، وخاصةً النمذجة السببية والحوسبة واسعة النطاق، يُمكننا تتبع هذه الديناميكيات، واختبارها بدقة.

* إذا كان بإمكانك تقديم نصيحة لقادة الرعاية الصحية أو صانعي السياسات بشأن أولوية واحدة لضمان تحقيق الذكاء الاصطناعي لوعده بصحة الدماغ، فماذا ستكون؟

- بناء قاعدة متينة من البيانات، والتحقق منها. هذا يعني تشجيع المشاركة الآمنة لبيانات صحة الدماغ عالية الجودة بين المؤسسات، بحيث يمكن تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على معلومات متنوعة وتمثيلية (للأفراد). وهذا يعني أيضاً إجراء اختبارات دقيقة لأدوات الذكاء الاصطناعي -مثل التجارب السريرية للخوارزميات- قبل استخدامها في العيادات. مع بيانات أكثر ثراءً، وتحقق دقيق، يمكننا ضمان أن الذكاء الاصطناعي يُحقق تحسينات آمنة وفعالة في صحة الدماغ، وليس مجرد دعاية.

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»


مقالات ذات صلة

من الطاقة إلى الرقاقة: تحالف سعودي - أميركي نحو عصر تقني جديد

تحليل إخباري الرئيس الأميركي دونالد ترمب مرحبا بالأمير محمد بن سلمان في البيت الأبيض (أ.ف.ب) play-circle

من الطاقة إلى الرقاقة: تحالف سعودي - أميركي نحو عصر تقني جديد

تحالف سعودي - أميركي ينتقل من النفط إلى الرقائق والذكاء الاصطناعي، مستفيداً من الطاقة منخفضة التكلفة لنقل التقنية وتوطين الحوسبة وبناء اقتصاد المستقبل.

د. يوسف القوس
الاقتصاد لافتة تحمل عبارة «الذكاء الاصطناعي» خلال المؤتمر العالمي للذكاء الاصطناعي في شنغهاي (أرشيفية - رويترز)

الذكاء الاصطناعي يرسخ مكانته في صميم استراتيجيات الاستثمار لعام 2026

مع دخول الأسواق العالمية عصر «الاقتصاد المعرفي»، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد قطاع تقني عابر أو ظاهرة مؤقتة، بل أصبح محركاً رئيسياً يُعيد تشكيل النظام المالي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ…

د. عميد خالد عبد الحميد (لندن)
الاقتصاد علم الصين فوق لوحة إلكترونية تحمل شعار «صنع في الصين» (رويترز)

الذكاء الاصطناعي الصيني يجذب المستثمرين وسط مخاوف «فقاعة وول ستريت»

يزيد المستثمرون العالميون من رهاناتهم على شركات الذكاء الاصطناعي الصينية، متوقعين نجاح نماذج عدة قادمة على غرار «ديب سيك».

«الشرق الأوسط» (نيويورك-هونغ كونغ)
تكنولوجيا ألعاب الأطفال المدعومة بالذكاء الاصطناعي... تخرج عن السيطرة

ألعاب الأطفال المدعومة بالذكاء الاصطناعي... تخرج عن السيطرة

خبراء يدعون إلى مقاطعة شرائها

كريس ستوكل - والكر (واشنطن)

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟
TT

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

خرائط الجينات البشرية: لماذا لا تُمثل كل البشر؟

يعتمد العلماء منذ سنوات طويلة على خرائط الجينات البشرية لفهم كيفية عمل الجسم وتفسير أسباب الأمراض، بل أيضاً لتطوير علاجات دقيقة لها.

بيانات وراثية أوروبية

لكنّ دراسة علمية حديثة كشفت أن هذه الخرائط رغم أهميتها لا تُمثل البشرية جمعاء بعدالة؛ لأنها بُنيت في الأساس على بيانات وراثية لأشخاص من أصول أوروبية، ما أدّى إلى تجاهل جزء كبير من التنوع الجيني العالمي.

وتُشير الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Communications» في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2025 إلى أن هذا الخلل العلمي ليس تفصيلاً بسيطاً، بل قد يؤثر مباشرة في فهمنا للأمراض، وكيف تختلف بين الشعوب، ولماذا تظهر بعض الحالات الصحية بشكل أكثر شيوعاً أو بشدة أكبر لدى مجموعات سكانية دون غيرها.

ما هي خرائط الجينات؟

خرائط الجينات بمثابة دليل إرشادي يوضح مواقع الجينات في الحمض النووي «دي إن إيه» (DNA)، ويشرح كيف تُستخدم هذه الجينات داخل الخلايا لإنتاج البروتينات، وهي الجزيئات المسؤولة عن معظم وظائف الجسم. لكن الجين الواحد لا يعمل دائماً بالطريقة نفسها، إذ يمكنه إنتاج أكثر من نسخة من التعليمات الجينية تُعرف بجزيئات الحمض النووي الريبي «RNA»، من خلال عملية تُسمى «التضفير» (splicing). وقد تؤدي هذه النسخ المختلفة إلى بروتينات متباينة، ومن ثم إلى اختلافات في وظائف الخلايا والاستجابة للأمراض.

ما التضفير الجيني؟

عند قراءة الخلية للتعليمات الوراثية لا تستخدم النص الخام كما هو، فبعد نسخ الجين إلى الحمض النووي الريبي «RNA» تقوم الخلية بعملية تُسمى التضفير؛ حيث تُزال الأجزاء غير الضرورية، وتُربط الأجزاء المفيدة فقط لتكوين رسالة جينية جاهزة لصنع البروتين.

الأهم من ذلك أن الخلية قد تُغيّر طريقة الربط أحياناً في عملية تُعرف بـالتضفير البديل، ما يسمح للجين الواحد بإنتاج عدة بروتينات مختلفة، وهذه الآلية تفسر التنوع الكبير في وظائف الخلايا، كما تُساعد العلماء على فهم سبب اختلاف الأمراض واستجابتها للعلاج بين الأفراد والشعوب.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الأساسية، حسب الدراسة، أن معظم خرائط الجينات الحالية اعتمدت على عينات وراثية من أشخاص ذوي أصول أوروبية. ورغم أن البشر يتشابهون جينياً بنسبة تقارب 99.9 في المائة فإن النسبة المتبقية تعكس تاريخاً طويلاً من التطور والاختلافات التي نشأت بسبب العزلة الجغرافية والبيئية.

ويضيف المؤلف المشارك الرئيسي الدكتور روديريك غويغو من مركز «تنظيم الجينوم» بمعهد «برشلونة للعلوم والتكنولوجيا» بإسبانيا، أنه وبسبب هذا التركيز الأوروبي لم تُسجَّل الكثير من النسخ الجينية الموجودة لدى سكان أفريقيا وآسيا والأميركتين، ونتيجة ذلك ظلّت أجزاء مهمة من النشاط الجيني البشري غير مرئية للعلماء.

ماذا اكتشف الباحثون؟

واستخدم فريق البحث تقنية متطورة تُعرف باسم «تسلسل الحمض النووي الريبي طويل القراءة»، وهي تقنية تسمح بقراءة جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» كاملة، وليس على شكل أجزاء صغيرة كما في الطرق الأقدم.

وقام الباحثون بتحليل خلايا دم من 43 شخصاً ينتمون إلى مجموعات سكانية متنوعة حول العالم. وكانت النتيجة مفاجئة؛ حيث جرى اكتشاف نحو 41 ألف نسخة من جزيئات الحمض النووي الريبي «RNA» لم تكن مدرجة في خرائط الجينات الرسمية. والأهم من ذلك أن نسبة كبيرة من هذه النسخ يمكن أن تنتج أشكالاً جديدة أو مختلفة من البروتينات لم يكن العلماء على علم بوجودها من قبل.

وتبيّن أن هذه النسخ الجديدة تظهر بشكل أكبر لدى الأشخاص من أصول غير أوروبية، في حين كانت معظم النسخ لدى الأوروبيين معروفة مسبقاً، ما يؤكد وجود تحيّز علمي غير مقصود في قواعد البيانات الجينية.

لماذا يهمنا هذا الاكتشاف؟

وتكمن أهمية هذه النتائج في ارتباط بعض النسخ الجينية المكتشفة حديثاً بجينات معروفة لها علاقة بأمراض مثل الربو والذئبة الحمراء والتهاب المفاصل الروماتويدي واضطرابات الكولسترول. وهذا لا يعني بالضرورة أن هذه النسخ تسبب الأمراض، لكنه يعني أن العلماء قد يكونون قد أغفلوا إشارات جينية مهمة تُساعد على فهم اختلاف المرض بين الشعوب.

فإذا كانت الخرائط الجينية لا تتضمن كل النسخ الموجودة فعلياً فإن الأبحاث الطبية التي تعتمد عليها قد تكون ناقصة، وقد لا تُفسر بدقة لماذا يستجيب بعض المرضى للعلاج في حين لا يستجيب آخرون.

نحو طب أكثر عدالة

تُشير الدراسة إلى أن الاعتماد على «جينوم مرجعي واحد» لجميع البشر لم يعد كافياً، فعندما استخدم الباحثون خرائط جينية شخصية لكل فرد ظهرت نسخ إضافية لم تكن مرئية من قبل، خصوصاً لدى ذوي الأصول الأفريقية.

ولهذا يدعو العلماء إلى العمل على إنشاء ما يُعرف بـ«البانترانسكريبتوم البشري» (pantranscriptome) وهو مشروع طموح يهدف إلى جمع كل نسخ الحمض النووي الريبي «RNA» المستخدمة في مختلف أنسجة الجسم وعبر مراحل العمر ولدى جميع الشعوب.

الخطوة التالية

ويعترف الباحثون بأن دراستهم ما زالت محدودة، إذ شملت نوعاً واحداً من الخلايا وعدداً صغيراً نسبياً من الأشخاص. ومع ذلك فإن حجم الاكتشافات يُشير إلى أن ما نعرفه اليوم قد لا يكون سوى «قمة جبل الجليد».

ويؤكد العلماء أن بناء خرائط جينية أكثر شمولاً لن يكون مجرد إنجاز علمي بل خطوة أساسية نحو طب جينومي أكثر دقة وعدالة يراعي التنوع الحقيقي للبشرية، ويضمن أن يستفيد الجميع من التقدم العلمي، لا فئة واحدة فقط.


بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
TT

بين عدالة الخوارزمية وضمير الطبيب

الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض
الإفصاح... أساس الثقة بين الطبيب والمريض

لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم.

تساؤلات أخلاقية

ومع هذا الدخول الصامت، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟

هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم.

حين يُصبح القرار مشتركاً... مَن المسؤول؟

في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بالذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ:

- خوارزمية تقترح.

- طبيب يراجع أو يثق.

- مريض لا يرى إلا النتيجة.

فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً... من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟

هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.

قرار واحد... ووجوه مختلفة: سؤال العدالة الخوارزمية

عدالة الخوارزمية... هل هي محايدة حقّاً؟

يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة... وخاطئاً لأخرى.

وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟

العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.

حق المريض في المعرفة... إلى أي حدّ؟

أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.

لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟

الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.

الطبيب بين الثقة والكسل المعرفي

مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية.

الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات. والخطر الحقيقي ليس أن تُخطئ الخوارزمية، بل أن يتوقف الطبيب عن مساءلتها.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي لا تُطالب الأطباء برفض التقنية، بل تطالبهم بشيء أبسط وأعمق: أن يبقى الضمير يقظاً، والعقل ناقداً، وألا يُسلِّم القرار الطبي النهائي إلا بعد فهمه، لا بعد نسخه.

حين يتقدّم القرار الآلي... مَن يقود الضمير؟

الشفافية... حين لا نفهم كيف وصل القرار

واحدة من أعقد المعضلات الأخلاقية اليوم هي ما يُعرف بـ«الصندوق الأسود»، فكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تصل إلى قرارات دقيقة إحصائياً، لكنها تعجز عن شرح كيف ولماذا وصلت إلى هذه النتيجة.

فكيف يُحاسَب قرار لا يمكن تفسيره؟ وكيف يُناقَش تشخيص لا نعرف مساره المنطقي؟ وهل يجوز أخلاقياً أن نُخضع مريضاً لعلاج، لأن «الخوارزمية قالت ذلك»، دون تفسير قابل للفهم البشري؟

الطب لا يعيش على الدقة وحدها، بل على الشرح والثقة. والمريض لا يطلب دائماً نسبة مئوية، بل يريد أن يفهم. ولهذا، فإن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الطب تدفع اليوم بقوة نحو ما يُسمّى «الذكاء القابل للتفسير»، لا لأنه أجمل علمياً، بل لأنه أكثر إنسانية.

المساءلة القانونية... فراغ يتّسع

إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة.

هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.

فمن دون مساءلة واضحة، قد يُغري الذكاء الاصطناعي بعض الأنظمة الصحية بتوسيع استخدامه بلا ضوابط، أو تحميل الطبيب وحده مسؤولية قرار لم يصنعه منفرداً، ولهذا، فإن النقاش الأخلاقي اليوم لم يعد ترفاً أكاديمياً، بل ضرورة تشريعية: قوانين تُحدِّد المسؤولية، وتحمي المريض، وتُعيد رسم حدود الثقة بين الإنسان والتقنية.

الخلاصة: حين تسبق الخوارزمية... يجب أن يتقدّم الضمير

الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا.

فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.

وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني... بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً.


دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
TT

دراسة جينية: الإنسان الحديث وصل إلى أستراليا قبل نحو 60 ألف عام

سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة
سكان أستراليا الأصليون ينحدرون من سلالة أفريقية مهاجرة

لطالما كان توقيت وصول الإنسان الحديث إلى أستراليا وكيفية حدوث ذلك واحداً من الأسئلة المثيرة في تاريخ البشرية. وتشير دراسة جينية جديدة إلى أن البشر وصلوا إلى القارة القديمة المعروفة باسم «ساهول» قبل نحو 60 ألف عام، وقد سلكوا في ذلك مسارَيْن مختلفَيْن عبر البحر، في واحدة من أقدم الأدلة المعروفة على الملاحة البحرية المتعمدة.

وقد نُشرت نتائج الدراسة في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 بمجلة «Science Advances»، إذ دعّمت ما يُعرف بفرضية «التسلسل الزمني الطويل» التي تفترض أن أولى موجات الاستيطان البشري في أستراليا حدثت قبل ما بين 60 و65 ألف سنة، وليس في فترة لاحقة، كما افترضت بعض النظريات السابقة.

قارة قديمة ونقاش طويل

كانت «ساهول» (Sahul) قارة واحدة تضم ما يُعرف اليوم بأستراليا وغينيا الجديدة وتسمانيا. ومع ارتفاع مستويات البحار بعد العصر الجليدي الأخير قبل نحو 9 آلاف عام انفصلت هذه اليابسة إلى القارات والجزر الحالية.

وعلى مدى عقود اختلف العلماء حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى هذه المنطقة، ففي حين افترضت بعض الدراسات وصولاً متأخراً نسبياً قبل نحو 47 إلى 51 ألف عام، قدمت الدراسة الجديدة أدلة قوية على استيطان أقدم بكثير.

ويقول عالم الآثار كريستوفر كلاركسون، من جامعة غريفيث في أستراليا الذي لم يشارك في الدراسة، إن هذه أول دراسة شاملة تربط بين علم الآثار والوراثة والمناخ والملاحة البحرية، وتقدم حجة قوية للغاية حول توقيت وصول البشر الأوائل إلى أستراليا.

تتبع الأصول عبر خط الأم

وقد اعتمد الباحثون على نوع خاص من الحمض النووي (دي إن إيه) DNA يُعرف بالحمض النووي للميتوكوندريا، الذي يُورث غالباً من الأم فقط. وتُعد هذه المادة الوراثية أداة مهمة لتتبع السلالات البشرية عبر آلاف الأجيال.

وحلل الفريق الجينومات الميتوكوندرية لنحو ألف شخص معظمهم من السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة إلى جانب نحو 1500 جينوم منشور سابقاً. ومن خلال تتبع الطفرات الوراثية الصغيرة تمكّن الباحثون من إعادة بناء سلالات بشرية قديمة تعود إلى نحو 60 ألف عام.

مساران للهجرة نحو «ساهول»

ومن أبرز نتائج الدراسة أن البشر الأوائل لم يصلوا إلى «ساهول» عبر طريق واحد فقط بل عبر مسارَين مختلفين في الفترة الزمنية نفسها تقريباً.

كما يرجّح الباحثون أن إحدى المجموعتَين سلكت مساراً شمالياً عبر ما يُعرف اليوم بالفلبين وشرق إندونيسيا، في حين جاءت مجموعة أخرى عبر مسار جنوبي انطلقت فيه من جنوب شرق آسيا القارية مع عبور مساحات من البحر المفتوح.

وتشير النتائج إلى أن معظم السلالات الحية اليوم بين السكان الأصليين لأستراليا وغينيا الجديدة تعود إلى أسلاف اتبعوا المسار الشمالي.

ويقول عالم الآثار، آدم بروم، من جامعة غريفيث الأسترالية الذي لم يشارك أيضاً في الدراسة، إن هذه النتائج تقدم دعماً قوياً لفكرة أن المسار الشمالي كان المفتاح في الاستيطان الأول لأستراليا، مشيراً إلى اكتشافات حديثة لفنون كهوف قديمة جداً في إندونيسيا تدعم هذا الطرح.

أصل أفريقي واحد

وعلى الرغم من اختلاف المسارات تشير الدراسة إلى أن المجموعتَين تنحدران من سلالة بشرية واحدة خرجت من أفريقيا قبل نحو 70 إلى 80 ألف عام. ويُعتقد أن هذا الانقسام حدث في جنوب أو جنوب شرق آسيا قبل 10 إلى 20 ألف عام من الوصول إلى «ساهول».

ويؤكد الباحث المشارك في كلية العلوم التطبيقية بجامعة هدرسفيلد في المملكة المتحدة، مارتن ريتشاردز، أن السكان الأصليين لأستراليا وسكان غينيا الجديدة يمتلكون أقدم سلالة بشرية متصلة خارج أفريقيا دون انقطاع.

دليل مبكر على الملاحة البحرية

ولا تقتصر أهمية الدراسة على الجانب الجيني فحسب، بل تسلط الضوء أيضاً على القدرات التقنية للإنسان القديم، فالوصول إلى «ساهول» تطلّب عبور مسافات طويلة من البحر المفتوح حتى في فترات انخفاض مستوى سطح البحر.

وتقول الباحثة المشاركة هيلين فار، من مركز علم الآثار البحرية بقسم الآثار في جامعة ساوثهامبتون بالمملكة المتحدة، إن هذه الرحلات لم تكن نتيجة انجراف عشوائي بل دليل على استخدام القوارب والقيام برحلات بحرية محددة ومقصودة قبل نحو 60 ألف عام.

إعادة رسم تاريخ الهجرة البشرية

وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن الإنسان الحديث كان أكثر قدرة على التخطيط والتنقل والاستكشاف عما كان يُعتقد سابقاً، وأن استيطان أستراليا لم يكن حدثاً واحداً بسيطاً بل عملية معقدة شاركت فيها مجموعات متعددة ومسارات مختلفة.

ومع استمرار تطور تقنيات تحليل الحمض النووي واكتشاف مواقع أثرية جديدة يتوقع العلماء أن تتضح صورة أكثر دقة عن بدايات انتشار الإنسان الحديث حول العالم، لتؤكد أن أستراليا كانت من أوائل محطات هذه الرحلة البشرية الكبرى.