الحب في زمن الاحتلال

رواية عراقية تسرد الخراب الذي حل بالأمكنة والبيئة والناس

الحب في زمن الاحتلال
TT

الحب في زمن الاحتلال

الحب في زمن الاحتلال

تسرد رواية «الحب في ضراوة الاحتلال» (ببلومانيا للنشر والتوزيع، 2024) للروائي فاضل خضير، عودة المهاجر (سامر) إلى وطنه عشية الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وتتناول الخراب الذي حل بالأمكنة والبيئة والناس نتيجة ما قامت به القوات المحتلة، وذلك من خلال عين هذه الشخصية بوصفها عين كاميرا تلتقط تفاصيل ما أحدثه الاحتلال. السارد، سامر، يجد نفسه طارئاً خارج زمن الحدث. لا يستطيع أن يكون فاعلاً في هذه الأجواء، محدثاً نفسه: «مع الاستمرار في السير رحت أفقد كثيراً من تصوراتي للأماكن حتى شعرت بالغربة من هول المتغيرات، أصبحت وكأني قد فقدت ذاكرتي أو ثمة هوس داهمني (ص 9)»، لكنه يصر على استثمار وجوده الطارئ في وطنه، للتعرف على ظروف أصدقائه والبحث عن حبه الأول (رقية) التي تذكره بـ«أيام العشق العذري».

لقد غاب سامر عن وطنه فترة سبقت الاحتلال بفترة طويلة تجاوزت ربع قرن من الزمان، وخلال هذه الفترة شهد وطنه حروباً ضاريةً تمثلت بالحرب العراقية الإيرانية وحروب التسعينات ونتائج الحصار على بلاده، وبهذا المعنى فهو يعود بذاكرة معطوبة أمدها عشرون عاماً، لم يعش فيها تفاصيل تلك الحقبة في بلده، وهي من أغزر الانتكاسات والجروح العميقة في حياة الإنسان العراقي، متمثلةً بالحروب الضارية وصولاً إلى الغزو الأجنبي لأرضه!

بهذا المعنى تكون عين سامر هي التقنية الأساسية في معظم فصول الرواية، يرى فيها الشواخص المدمرة، إضافةً إلى إحساسه الطاغي بالفقدان عبر سرد الأحداث بضمير الأنا التي تشخص الخراب، وهو خلال سرده، لما يراه، يتعمق لديه الإحساس بكونه شخصيةً طارئةً على وطنه المبتلى بالاحتلال وعلى شخوص الرواية الآخرين.

لقد كان حضور سامر إلى وطنه شهادة تسجيلية، جسدتها الفصول الأربعة الأولى من روايته وكان فيها هو السارد والشخصية الرئيسية، حين أصبح هو ومواطنو بلده حبيساً بعالمية قاهرة جبارة تجبره على الحصول على أوراق «موقعة بإذنها حتى لو أراد الخروج من باب بيته بالذات (ص 114)».

وقد تعمق إحساس الفقدان والخيبة والخسران باستثمار لغة شعرية مؤثرة وضعها الروائي على لسان شخوص الرواية الآخرين وحواراتهم كي يكشف موطن عطبهم الذاتي، وكانت هذه اللغة سمة متقدمة في الرواية تحسب لمؤلفها، فهي لغة مكثفة تشير إلى ماض ضاج بالإنسانية وحب الآخر، كما يعبر عنه صديقه الأعمى نصير في أول لقاء لهما «كانت قلوبنا رقيقة، هادفة ميالة إلى الثبور، وكانت تتقطر إنسانية... أما لماذا أنا أستأنف الماضي؟ لأني رأيت بأم عيني ماذا يعني الاضطهاد... ماذا تعني الإمبريالية (ص 15)».

اتسمت لغة السرد على لسان شخوص الرواية الآخرين الذين عاشوا ماضي التجربة وحاضرها بالإحساس الطاغي بالفقدان والحسرة، وتميزت بقدرتها على التأثير على المتلقي، وأخذت دورها بالتغلغل تجاه أعماق الإنسان وخصوصياته، نسبة إلى لغة السرد بلسان شخصية سامر، التي اختصت بتجسيد مواطن الخراب والدمار بعين حيادية تبصر ولا تعلق (عين الكاميرا).

وقد اتضحت هذه الإشكالية اللغوية أيضاً في حواراته الكثيرة مع حبيبته رقية، أو عبر رسالتها الوحيدة له، إذ يتضح لسامر حجم الخسارة التي أصابت رقية وهي تلخص تجربة حياتها بعباراتها البليغة: «حالياً أعيش في الخيال على الأيام التي مضت من عمرنا قبل رحيلك... كل ما أملك من ذخيرة عمري هو فترة شبابي معك، لا أريد أن ألوث الماضي العتيد بالمشوهات التي لحقت بجمالي وأنسي، كفاني من العمر الذي أعيش فيه من الإخفاق والتردي... (ص 50)»، ثم تقول: «رحيلك أنقذ حياتك ودمر حياتي (ص 50)».

إن حوارات رقية وصديقيه نصير الأعمى، وزهير الذي كان أسيراً في الحرب العراقية الإيرانية، تعلن عن لغة محملة بالإحساس والخسران، لغة مفارقة للغة السرد التي ينطق بها السارد (سامر) تغذيها قسوة الحاضر، وتهميش الذات العراقية المتطلعة نحو أفق الحرية، وتقييد حركتها بالفوضى وصعود النكرات والمنبوذين... وللكشف عن حاضر السرد يوظف الروائي تقنية اليوميات التي كتبها صديقه نصير قبل أن يصبح أعمى، وهي تضيء جانباً من الحراك الثقافي عبر تجمعات المثقفين في المدن العراقية بدايةَ دخول القوات الأجنبية وطموحهم في تأسيس تجمعات ثقافية وسياسية كانوا محرومين منها قبل دخول القوات الأجنبية، وتوفر أجواء تسمح بالكلام والنقد والتعبير عن الرأي، وهي شهادة تسجيلية لما جرى بداية الاحتلال، فقد كان ذلك «بمثابة دافع مشجع لترويض ما في داخل النفوس من انكسارات وتشنجات فرضتها علينا قوى خارجية (ص 27)»، لكن الحرية النسبية التي توفرت أثناء دخول القوات الأجنبية قد تحولت إلى فوضى كبيرة حين «تعددت وسائل القتل وخرق القانون، أصبحنا في محور العشوائية، أعني بإمكان أي فرد أن يبني بيتاً أو محلاً في أي مكان فارغ (...) تربعت مفاهيم الحرية على عرش مشيد من الخوف والجوع (ص 28)».

ومن خلال حواراته مع صديقه زهير، تتكشف أهوال الحرب العراقية الإيرانية بوقائع صادمة عاشها زهير الأسير وهو يصف مشهداً منها: «اختبأنا بساتر الشاطئ وكنا متعبين، قوانا منهكة من جراء السير في المنزلقات الرخوة. بعد حين رأينا من أعلى الساتر أنبوبة دبابة العدو يمتد، مشرفاً على رؤوسنا، لم يعد لنا حول، (...) قادونا كالأنعام، كانت برودة الطقس كالثلج، والرياح تصر بهبوبها، خلعوا من أقدامنا الأحذية العسكرية، ثم نزعوا من أكتافنا القماصل المغطاة من الداخل بالفرو، أجبرونا على الجري أمام دباباتهم، وجنودهم كانوا يسايروننا من الجانبين (ص 60)».

لقد حمل سامر أحلامه المؤجلة وبحث عن خلاص من شرك السلطة الجائرة التي جعلت حياته جحيماً اضطره للهروب إلى خارج الوطن تاركاً ذوات تنتظر منه الخلاص: «قصة الحب بينه وبين رقية»، مرض الأم وهي تعاني من غياب الابن، وضياع أمل الأخت في حياة مستقرة آمنة مع ولدها! كلها أسئلة أثيرت أمامه الآن وهو يتعرف على طبيعة الاحتلال وما رافقه من آمال ووعود في التغيير الموعود من قبل المحتلين قبل الاحتلال، الآن تسجل عيناه مظاهر الخراب الذي أحدثه الاحتلال على بنية بلاده وجعلها أنقاضاً لا حياة فيها، إضافةً إلى أسئلة تتعلق، بجدوى وجوده في مجتمع ينظر إليه باستغراب واستنكار وهو يرى «رتابة ملابسك، وهيئتك تدل على الكياسة والاحترام (ص 67)»، كما أشار له أحد الغرباء في المقهى، وأكدته رقية أيضاً في حوار خاص معه متعجبة من سعادته بوجوده في هذا الجو المخرب «أأنت سعيد في وجودك معي في هذه الغرفة الكئيبة؟ بالتأكيد يعد هذا المكان أشد كآبة إذا ما قورن ببذخ جلساتك المريحة هناك في بلد الغربة..! (ص 80)».

إن وجوده في وطنه قد أثقل همومه وجعله غريباً حتى من ذويه: أمه وأخته وما شاهده وعاشه عن قرب لمصائر حلت بجيرانه، كالصراخ اليومي الذي يعلن عن قتل شاب من جيرانه أو فقدانه دون أمل بالعثور عليه.

في هذه الأجواء الغرائبية، تم حضوره شاهداً وفاعلاً لأحداث لم يكن طرفاً فيها، بل شاهد على تفاصيلها من ذلك: الجار الذي ينوي بيع ابنته الصغيرة إلى صديقه لقاء مبلغ من المال ينقذ به عائلته من خطر الجوع والفاقة!! وكان حدثاً مأساوياً: «لدي ثلاث بنات طلب صديقي أن أهديه واحدة، لأنه يعاني من العقم (...) مقترحاً علي مكافأة مالية، اقتنعت بالفكرة (...) فأنا رجل معوق من الصعب أن أتكفل بأكثر من طفلين، أين المعيب! أسألكم أين الخلل في ذلك...! (ص 73)».

أما السؤال الأهم الذي طرحه سامر على نفسه: «من أسهم في اضطهاد رقية... أنا أم النظام (ص 88)»، بعد أن عرف اتهامها له بتدمير حياتها عبر رسالتها القصيرة له: «رحيلك أنقذ حياك ودمر حياتي (ص 75)»، ويتعمق هذا الاتهام بحديث أمها العجوز التي أغلقت باب الصلح بينهما وأسدلت ستاراً كثيفاً على ذلك الماضي، قائلة: «لماذا لم تفكر آنذاك وأنت تغادر البلد بارتباطاتك السابقة مع الآخرين ها... أنت قد رجعت الآن بعد أكثر من عشرين عاماً، ورأيت الدمار أمامك، أنت أيضاً ساهمت بما حصل (ص 86)»، والعبارة الأخيرة تحمل مغزى أوسع: لقد كان هروبه وخلاصه الذاتي قد دمرا حياة حبيبته رقية وحياة عائلته: أمه التي أصابها الشلل وأخته التي فقدت مبررات حياتها، وكان خروجه قد مهد لدخول المحتل الأجنبي إلى بلاده لضعف من يدافع عنه!

إن معظم المشاهد التي سجلتها عين سامر تشي بخراب الوطن في بيئته وناسه، وتعلن عن ضياع هويته الوطنية، عبر بنية سردية تعكس ما فعله زمن الاحتلال بهذه الهوية، إذ أصبح المحتل «هو الدولة وهو القانون... (ص 111)»، وأصبح سامر متهماً بوطنيته بتهمة العمل مع جهاز مخابرات النظام السابق الذي هرب منه! وهي سخرية مرة أن يكون القتيل قاتلاً، وأن تصبح الهوية الوطنية متنازعاً عليها بين ماضٍ ملتبسٍ وحاضر طارد!

لقد طرحت رواية الروائي فاضل خضير «الحب في ضراوة الاحتلال» أسئلةً جريئةً عن الهجرة القسرية التي دفعت الآلاف من العراقيين إلى الهروب من وطنهم، تجاه البلدان الأجنبية، وحصولهم على الهوية الأجنبية، وموقف مواطنيهم منهم وهم يعودون إلى وطنهم القديم، للزيارة وتفقد ما بقي من آثار الماضي وشخوصه ثم يعودون إلى الملجأ الآمن.

وقد أوجزت كلمات «رقية» إشكالية «الوطني» الذي عاد إلى وطنه للزيارة وتفقد الماضي «الجميل» حين خاطبت سامر في رسالة قصيرة: «عش حياتك كما تشاء، ابتعد عن خصوصياتي، لم أعد أناسب زهوك الذي رأيتك فيه، وجه محمر، يزخر بنشوة الرفاه، وقامة ممشوقة، وهيكل صلد مهيوب، يسيل له لعاب النساء!! (ص 50)».


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.