عاملات صحة في الخرطوم يخاطرن بحياتهن من أجل المرضى

أُجبرت 90 % من المستشفيات في مناطق النزاع على الإغلاق

مستشفى الشهداء التعليمي في الخرطوم نوفمبر 2024 (رويترز)
مستشفى الشهداء التعليمي في الخرطوم نوفمبر 2024 (رويترز)
TT
20

عاملات صحة في الخرطوم يخاطرن بحياتهن من أجل المرضى

مستشفى الشهداء التعليمي في الخرطوم نوفمبر 2024 (رويترز)
مستشفى الشهداء التعليمي في الخرطوم نوفمبر 2024 (رويترز)

بعد اندلاع القتال في العاصمة السودانية في 15 أبريل (نيسان) 2023، وإنهاك مستشفيات الخرطوم، واجهت الطبيبة صفاء علي، خياراً مستحيلاً بين عائلتها أو مرضاها. وروت كيف لم تتمكن من النوم طوال الليل قبل أن تقرر عدم الذهاب مع زوجها وأولادها الأربعة إلى مصر. وقالت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «إما أن أكون مع أطفالي، وإما أن أبقى وأؤدي واجبي المهني». ولم ترَ عائلتها منذ ذلك الحين.

وبعد نحو عامين على اندلاع الحرب بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، هي واحدة من آخر أطباء التوليد المتبقين في العاصمة، تخاطر بحياتها لمنح النساء السودانيات فرصةً للولادة الآمنة.

وأوضحت، وهي في غرفة ولادة تضررت من القتال، أن «ما يدفعنا هو حبنا لوطننا وحبنا للمهنة التي نقوم بها والقسم الذي أدّيناه».

وصفاء علي واحدة من فريق يضم أطباء وممرضين وفنيين وعمال نظافة التقتهم «وكالة الصحافة الفرنسية» في آخر المستشفيات التي لا تزال قائمة في مدينة أم درمان، إحدى المدن الثلاث التي تشكل العاصمة الكبرى الخرطوم. وتحولت غرف العمليات إلى ساحات قتال، وقصفت المستشفيات، وقتل زملاؤهم في أماكن وجودهم. ومع ذلك، رغم القنابل والرصاص، يأتي الفريق الطبي ويقدم العلاج للمرضى كل يوم.

عملت بثينة عبد الرحمن في التنظيف في مستشفى «النو» بأم درمان لمدة 27 عاماً. وخلال الساعات الثماني والأربعين الأولى من بدء القتال، لجأت مع عائلتها إلى حي مجاور، لكنها لم تغب عن عملها يوماً واحداً منذ ذلك الوقت. وقالت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» في المستشفى، وهي تحمل ممسحة: «كنت أسير للمستشفى طوال ساعتين وأعبر المسافة نفسها لأعود إلى المنزل بعد انتهاء عملي».

يشهد السودان منذ أبريل (نيسان) نزاعاً دامياً بين الجيش بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان و«قوات الدعم السريع» بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو الملقب «حميدتي».

ضحية اتهامات متكررة

الطبيبة صفاء علي مديرة المستشفى السعودي في مدينة أم درمان بالسودان (أ.ف.ب)
الطبيبة صفاء علي مديرة المستشفى السعودي في مدينة أم درمان بالسودان (أ.ف.ب)

وكان العاملون في المجال الصحي ضحية اتهامات متكررة من المقاتلين بالتعاون مع العدو أو التقصير في علاج رفاقهم. وقال الدكتور خالد عبد السلام، منسق مشروع الخرطوم لمنظمة «أطباء بلا حدود»: «تعرض العاملون في المجال الصحي للهجوم والخطف والقتل والاحتجاز كرهائن مقابل فدية».

وأجبر ما يصل إلى 90 في المائة من المستشفيات في مناطق النزاع على الإغلاق، وفقاً لنقابة الأطباء السودانيين التي تقول إن 78 عاملاً صحياً على الأقل قُتلوا منذ بدء الحرب. وبحلول أكتوبر (تشرين الأول) سجلت منظمة الصحة العالمية 119 هجوماً على المرافق الصحية. وأضاف عبد السلام للوكالة قائلاً: «في مرحلة ما، لم يكن هناك جهاز تصوير بالرنين المغناطيسي واحد يعمل في البلاد» لإجراء الفحوص الطبية.

وتترأس خنساء المعتصم فريقاً مؤلفاً من 180 شخصاً للتمريض في مستشفى «النو»، الوحيد العامل في أم درمان خلال الحرب. وقالت: «هذه فرصة لآتي للمستشفى وأقدم كل شيء تعلمته من خبرة السنوات الماضية». ومن جانبها، تقول منظمة «أطباء بلا حدود» إن مستشفى «النو» تعرض لثلاث ضربات مباشرة منذ بدء الحرب.

«ممنوع دخول الأسلحة»

مرضى يتلقون العلاج في مستشفى القضارف للأورام بشرق السودان (أ.ف.ب)
مرضى يتلقون العلاج في مستشفى القضارف للأورام بشرق السودان (أ.ف.ب)

عند بوابة المستشفى، علقت لافتة كتب عليها «ممنوع دخول الأسلحة»، لكن غالباً ما يتم تجاهل ذلك. وبعد أن اقتحمت «قوات الدعم السريع» مستشفى الولادة السعودي القريب في بداية الحرب، تماسكت الطبيبة صفاء علي، وهي مديرته، وتوجهت إلى المقاتلين.

وروت كيف تحدثت مع قائدهم الميداني: «أخبرته أن هذا مستشفى للنساء، فعادوا وهاجموه في اليوم التالي بمزيد من المقاتلين».

وفي يوليو (تموز) 2023، شهدت مقتل أحد زملائها عندما تعرض المستشفى للقصف.

واضطر المستشفى السعودي إلى الإغلاق بعد انهيار سقوفه ونهب معداته، بينما تناثرت ثقوب الرصاص على جدران غرف الولادة.

وأقامت الطبيبة صفاء علي عيادات متنقلة وجناحاً مؤقتاً للولادة في مستشفى «النو»، إلى أن أُعيد افتتاح المستشفى السعودي بشكل جزئي هذا الشهر.

منذ استعادة قوات الجيش السوداني القسم الأكبر من مدينة أم درمان مطلع عام 2024، عادت بعض مظاهر الحياة الطبيعية تدريجياً، لكن المستشفيات استمرت في التعرض لهجمات.

«لجان الطوارئ المحلية»

تترأس خنساء المعتصم فريقاً مؤلفاً من 180 شخصاً للتمريض في مستشفى «النو» بأم درمان (أ.ف.ب)
تترأس خنساء المعتصم فريقاً مؤلفاً من 180 شخصاً للتمريض في مستشفى «النو» بأم درمان (أ.ف.ب)

وفي فبراير (شباط) الماضي، تعرّض مستشفى «النو» لقصف «قوات الدعم السريع»، بينما كان أطباؤه المنهكون يهرعون لعلاج عشرات المصابين بنيران مدفعية «قوات الدعم السريع» على سوق مزدحمة. واضطرت المستشفيات التي لا تزال تعمل إلى الاعتماد بشكل متزايد على مساعدة المتطوعين من «لجان الطوارئ المحلية».

وتعد لجان الأحياء جزءاً من شبكة إغاثة شعبية تُقدّم المساعدات على الخطوط الأمامية في جميع أنحاء السودان، ولكنها تتألف في الغالب من شباب سودانيين ذوي موارد محدودة. وبسبب غياب الأطباء المسؤولين، أصبحت طبيبة الأطفال فتحية عبد المجيد التي تعمل منذ أربعين عاماً، بمثابة «أم» في مستشفى «البلك».

ولسنوات، عالجت المرضى في منازلهم في حي «بانت»، أحد أحياء مدينة أم درمان القديمة. لكن منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، دربّت فرقاً في هذا المستشفى الصغير المكتظ، «حيث كان شبان يعملون بجد». وقالت لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» إن العمل كان شاقاً، ولكن «تجربة عملي الآن هي أجمل ما قدمته في تاريخي المهني».

رائحة كريهة

وكان سكان أحد أحياء الخرطوم قد تحدثوا، الأسبوع الماضي، عن رائحة كريهة تنبعث من حفرة للصرف الصحي في حي دمّرته الحرب في الخرطوم، بينما ينهمك عناصر «الهلال الأحمر» في انتشال جثة منتفخة من تحت الأرض. وقال مدير الطب العدلي بولاية الخرطوم هشام زين العابدين، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، في الموقع، إن بعض الجثث «عليها آثار إطلاق نار على رؤوسها وهي مهشّمة الجماجم».

وأضاف أن الضحايا إما أُطلق عليهم الرصاص وإما ضُربوا حتى الموت قبل إلقائهم في الحفرة. وخلفه كان صندوق شاحنة يمتلئ بالجثث المُنتشَلة من حفرة الصرف الصحي في منطقة شرق النيل، إحدى المناطق الشرقية للخرطوم، والتي باتت، الآن، أنقاضاً.

وألحقت الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، أضراراً كبيرة بمساحات واسعة من الأراضي.

ومنذ اندلاع الحرب، فرَّ أكثر من 3.5 مليون شخص من سكان الخرطوم، التي كانت، ذات يوم، مدينة تنبض بالحياة، وفق الأمم المتحدة.

ويعيش ملايين آخرون ممن هم غير قادرين أو غير راغبين في المغادرة، بين مبانٍ مهجورة وهياكل سيارات، وما يطلق عليه الجيش مقابر جماعية مخفية.


مقالات ذات صلة

عشرات القتلى والجرحى في غارات على سوق بدارفور... والجيش ينفي مسؤوليته

شمال افريقيا مشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي لمكان القصف في سوق بلدة «طرة» بشمال دارفور

عشرات القتلى والجرحى في غارات على سوق بدارفور... والجيش ينفي مسؤوليته

أسفرت غارات جوية جديدة شنها الجيش السوداني على سوق بلدة بشمال دارفور (غرب البلاد)، الاثنين، عن مقتل المئات وإصابة مثلهم، وفق مصادر حقوقية ومحلية.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا الفريق ياسر العطا مساعد القائد العام للجيش السوداني (وكالة السودان للأنباء)

بوادر أزمة بين السودان ودولتين جارتين

ردَّت تشاد وجنوب السودان على تصريحات عضو مجلس السيادة السوداني، ياسر العطا، التي هدَّد فيها تشاد باستهداف مطاراتها، وجنوب السودان بالعدوان العسكري.

شمال افريقيا جندي سوداني على سلالم القصر الرئاسي الملطخة بالدماء يوم الأحد بعد يومين من استعادته (خدمة نيويورك تايمز) play-circle

داخل القصر الرئاسي في الخرطوم... دماء طازجة وآثار دمار

جولة داخل قصر الرئاسة السوداني في الخرطوم بعد يومين من سيطرة الجيش عليه تكشف ضراوة المعارك التي جرت حوله وحجم الدمار الهائل الذي لحق به.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا جنود من الجيش السوداني أمام القصر الجمهوري بعد استعادة السيطرة عليه في الخرطوم (أ.ب)

مصر تدعم وحدة الدولة السودانية ومؤسساتها

أعلن وزير الخارجية المصري، يوم الأحد، أن القاهرة تدعم الدولة السودانية ومؤسساتها، وتحرص على سرعة استعادة الأمن في السودان.

أحمد يونس (كمبالا) «الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان يحيِّي مؤيديه في مدينة أم درمان غرب الخرطوم (أرشيفية - أ.ب)

الجيش السوداني يواصل السيطرة على مواقع استراتيجية في الخرطوم

بعد استعادة الجيش السوداني سيطرته على القصر الرئاسي، يوم الجمعة، واصلت قواته، السبت، التقدم في مناطق أخرى من العاصمة الخرطوم.

محمد أمين ياسين (نيروبي)

الحوثيون يتهمون واشنطن بشن غارتين على صعدة

يمنيون يتفقدون الأضرار في مبنى مستشفى  لعلاج السرطان والأورام بعد يوم من استهدافه بغارة أميركية (أ.ف.ب)
يمنيون يتفقدون الأضرار في مبنى مستشفى لعلاج السرطان والأورام بعد يوم من استهدافه بغارة أميركية (أ.ف.ب)
TT
20

الحوثيون يتهمون واشنطن بشن غارتين على صعدة

يمنيون يتفقدون الأضرار في مبنى مستشفى  لعلاج السرطان والأورام بعد يوم من استهدافه بغارة أميركية (أ.ف.ب)
يمنيون يتفقدون الأضرار في مبنى مستشفى لعلاج السرطان والأورام بعد يوم من استهدافه بغارة أميركية (أ.ف.ب)

أعلنت قناة «المسيرة» التابعة للحوثيين، الثلاثاء، أن غارات جديدة نسبتها إلى الولايات المتحدة استهدفت محافظة صعدة معقل الحركة.

وأفاد مراسل القناة في المنطقة بـ«عدوان أميركي بغارتين على مديرية سحار».

ومنذ 15 مارس (آذار)، تشنّ الولايات المتحدة ضربات جوية كثيفة ضدّ الحوثيين الذين قالوا إنهم ردّوا باستهداف حاملة طائرات أميركية في البحر الأحمر مرات عدة.

وفي ذاك اليوم، وجّهت الولايات المتحدة ضربات جويّة عدّة قالت إنها أودت بحياة مسؤولين كبار في الحركة التي أعلنت من جهتها مقتل 53 شخصاً جرّاء الغارات الأميركية.

ومذاك، تشهد المناطق التي تسيطر عليها الجماعة في اليمن غارات أميركية بوتيرة شبه يومية.

وتوعّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأسبوع الماضي بالقضاء على الحركة المدعومة من إيران، محذّراً طهران من استمرار تقديم الدعم لها.

وعقب اندلاع الحرب في غزة إثر الهجوم غير المسبوق لحركة «حماس» على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، شنّ المتمرّدون الحوثيون عشرات الهجمات الصاروخية على إسرائيل وفي البحر الأحمر، حيث استهدفوا سفناً اتهموها بأنها على ارتباط بالدولة العبرية؛ وذلك دعماً للفلسطينيين، على حدّ قولهم.

وهم أوقفوا هجماتهم على إسرائيل والبحر الأحمر مع بدء سريان الهدنة في غزة في 19 يناير (كانون الثاني) 2025، لكنهم استأنفوها مع خرق الدولة العبرية للهدنة وتوعدوا بتكثيفها ما دام استمرّ القصف على القطاع.

وارتباطاً بالموضوع توعد الحوثيون في اليمن، بمواصلة عملياتها الهجومية إسناداً لغزة في مواجهة إسرائيل مهما كانت التبعات.

وقال رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين مهدي المشاط في خطاب تابعته وكالة الأنباء الألمانية: «موقفنا واضح وثابت في مساندة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ولن يتغير حتى وقف العدوان، ورفع الحصار مهما كانت التبعات ومهما كانت النتائج، ولدينا من الخيارات ما يدفع عن بلدنا تجاوز أي متغطرس، وسنعلن عنها عند اللزوم».

وشدد المسؤول الحوثي قائلاً: «لن يثنينا العدوان الأميركي بكل أشكاله، عن الاستمرار في تلك المساندة التي كشفت عن صوابية موقفنا، وحقيقة التوحش والإجرام الأميركي، وتسقط كل ادعاءات وشعارات الحرية والحقوق عن هذا العدو أمام العالم وأمام أبناء شعبنا».

وأردف: «شرفنا الله في هذه الليالي الرمضانية، بالاستمرار بمشاركة إخواننا في فلسطين بقيادة غزة الإسلام والعروبة جهادهم العظيم وتضحياتهم العزيزة التي يقدمونها بسخاء في سبيل الله ودفاعاً عن شرف الأمة المهدور، ومقدساتها وحقوقها المغتصبة، وخوض البحر في وجه فرعون العصر أميركا».

ومضى قائلاً: «شعب الإيمان والحكمة لن يتأثر ولن يتراجع، بقدر ما يزيده العدوان الأميركي إصراراً على الصمود، واستمراراً في المساندة والنصرة».

ومنذ أيام يشن الحوثيون ضربات صاروخية ضد مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أميركية في البحر الأحمر، عقب فشل الهدنة بين إسرائيل وحركة «حماس»؛ «مساندة ودعماً لغزة»، على حد وصف الجماعة المتحالفة مع إيران.