معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

فرنسا أهم سوق أوروبيّة للكتب مع بيع 315 مليون نسخة مطبوعة

معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية
TT
20

معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

بعد بدايات متواضعة من قاعة فندق بيرنرز في وستمنستر عام 1971 أصبح معرض لندن للكتاب (LBF) في نسخته الخمسين – قاعة أولمبيا 11 - 13 مارس (آذار) - الحدث العالمي الأهم في صناعة المحتوى الإبداعي خلال فصل الربيع، وسوقاً دوليّة للتفاوض على الحقوق وبيع المحتوى وتوزيعه عبر القنوات المطبوعة والصوتية والتلفزيونية والأفلام والقنوات الرقمية وألعاب الفيديو، وجامعة يتلاقى في أرجائها المبدعون والناشرون والقراء معاً لاستكشاف أحدث الاتجاهات والابتكارات والفرص في عالم النشر بمشاركة واسعة من دول كثيرة من أرجاء المعمورة بما فيها المملكة العربيّة السعوديّة.

ويوفر المعرض – الذي لا تباع فيه الكتب مباشرة للجمهور على غرار معارض الكتب في العالم العربي – مساحات للعارضين، وطاولات للتلاقي والتفاوض على الحقوق، في حين تنظم في الأثناء ندوات متخصصة بحضور نجوم الكتابة والتأليف وقادة صناعة النشر في العالم، وتلقى محاضرات من خبراء حول ثيمات مرتبطة بهواجس الصناعة وفرص تطويرها، إضافة إلى أنشطة موازية تشمل الإعلان عن جوائز للمبدعين وقمّة للكتّاب ومؤتمرات تجاريّة ومعارض موازية للنشر الأكاديمي والمهني، وأنشطة للطلاب، واحتفاء بالأنشطة الخيريّة والمبادرات في مجال التشجيع على القراءة. وبحسب إدارة المعرض، فإن أكثر من ألف ناشر سُجلوا للمشاركة في مختلف الفعاليات، ومن المتوقع أن يتجاوز عدد الحضور أكثر من ثلاثين ألفاً من المختصين والمهتمين.

وقد افتتح المعرض أول أيّامه بكلمة ترحيبيّة ألقاها الصحافي والمحرر والناقد أليكس بيك تومكينسون الذي أدار بعدها ندوة شارك فيها ديفيد شيلي، الرئيس التنفيذي لمجموعة «هاشيت» للكتب – أكبر ناشر عالمي -، وجيمس دونت، المدير الإداري لشركة «ووترستون وبارنز آند نوبل» – أكبر سلاسل تجارة الكتب في بريطانيا والولايات المتحدة – تحدثا فيها عن التحولات داخل بيئة النشر، لا سيما في الفضاء الأنجلوساكسوني عبر الأطلسي، والاستراتيجيات المبتكرة التي يمكن للناشرين وبائعي الكتب توظيفها لتلبية متطلبات قراء اليوم واستقطاب الجيل التالي منهم، قبل أن تتوالى بقية الفعاليات بمشاركة عدد من أشهر الكتاب والروائيين العالميين مثل كلاوديو بينيرو (الأرجنتين)، وإليف شافاك (تركيا)، وأديل باركس (بريطانيا) وعشرات غيرهم، في حين كان سفراء ودبلوماسيون لكثير من الدّول ومنها إيطاليا والصين يشاركون في افتتاح الأجنحة المخصصة للناشرين من بلادهم. وهناك أنشطة مبرمجة سيتحدث فيها المديرون التنفيذيون لأهم بيوتات النشر العالمية مثل «بنغوين»، و«هاربركولينز»، و«بلومزبوري»، و«تايلر آند فرنسيس» و«أديوبيل»، وكذلك رؤساء تحرير أهم الدوريات المتخصصة بصناعة النشر والمحتوى الإبداعي، إضافة إلى قادة صناعة البث عبر الإنترنت (الستريمنغ) مثل «ديزني بلاس»، و«براموانت» و«أمازون»، وممثلين رفيعين عن منظمة الأمم المتحدة، والاتحادات المهنيّة للناشرين والمؤلفين، وشركات التكنولوجيا، وأبحاث التسويق.

وتشير أنباء الصفقات المتلاحقة التي تُنجز على مدار الساعة في أجواء المعرض إلى شهيّة ظاهرة من شركات الستريميغ العالميّة لشراء المزيد من حقوق الأعمال الروائية لأغراض تحويلها أفلاماً ومسلسلات، بالإضافة إلى اهتمام ملحوظ من شركات تكنولوجيا الألعاب الرقميّة كي تكون جزءاً إما سابقاً أو مكملاً لمنتجي البصريات في عمليّة تحويل المحتوى الإبداعي من نص مكتوب إلى الشاشة – على تنوع طرق عرضها -. ولوحظ في هذا الفضاء تنافس على اقتناص أعمال خيال أدبي من ثقافات خارج المركز الأنغلوساكسوني، لا سيّما من أميركا اللاتينية (المكسيك، والأرجنتين والبرازيل) وأوروبا الشرقيّة (إيطاليا، وإسبانيا، وبولندا ورومانيا)، وهو أمر مفهوم بالطبع بحكم الطبيعة المعولمة لسوق استهلاك منتجات (الستريمنغ).

وكما هو متوقع، فإن القضايا التي تشغل بال العالم فرضت نفسها على المعنيين بصناعة الكتاب؛ إذ توسعت النقاشات بين المشاركين في المعرض حول مسائل الاستدامة البيئية في إطار عالم النشر، وحقوق المؤلفين والناشرين في ظل تعدد قنوات النشر الرقمي، والتنوع والشمول في استقطاب الكوادر للعمل بالصناعة، وديمقراطية الحق في القراءة، كما تمحورت لقاءات اتحاد الكتاب حول المفاضلة بين النشر الذاتي والعمل مع الناشرين. على أن القضيّة التي أثارت كثيراً من الجدل، لا سيما بين الأوروبيين من جهة وزملائهم الأميركيين من الجهة الأخرى فقد كانت منطقة التقاطع بين الذكاء الاصطناعي وحقوق المبدعين والناشرين، والسياسات التي تحاول بعض القوى الكبرى تبنيها لفرض حوكمة حد أدنى من تغّول الآلة على الإبداع الإنساني، وحيث يترقب كبار الناشرين حول العالم التطورات التي يمكن أن تنعكس على التشريعات والقوانين الناظمة للنزاعات بشأن حقوق المحتوى الإبداعي.

وعلى الموعد السنوي، تحلق كثير من رواد المعرض حول المنصة التي قدم منها ستيف بوم من شركة «نيلسون لأبحاث السوق» أحدث الإحصاءات حول نمو مبيعات الكتب وحجم إيراداتها في العام الماضي (2024)، وذلك وفق أرقام تجمعها من نقاط البيع في 17 سوقاً رئيسية للكتاب خارج الولايات المتحدة، وبالتحديد من أستراليا، وبلجيكا، والبرازيل، وفرنسا، والهند، وآيرلندا، وإيطاليا، والمكسيك، وهولندا، ونيوزيلندا، وبولندا، والبرتغال، وإسبانيا، وجنوب إفريقيا وسويسرا، إضافة إلى المملكة المتحدة.

وأشارت الأرقام إلى أنّ مبيعات الكتب المطبوعة غير الروائية تراجعت بشكل عام، لكن ما عوّض الناشرين عن ذلك التراجع فقد كان النمو القوي لقطاع الأعمال الروائيّة – في الرومانسيات والخيال العلمي وأدب الجريمة -، والارتفاع الملموس في أسعار المبيع. وشهدت معظم الأسواق الدوليّة ازدياداً ملحوظاً في الطلب على الرّوايات تجاوز الـ30 في المائة في الهند و20 في المائة في المكسيك، في حين تباينت أرقام مبيعات كتب الأطفال والمراهقين بين المناطق. وبرزت فرنسا بصفتها أهم سوق أوروبيّة للكتب مع بيع 315 مليون نسخة مطبوعة، في حين اشترى البريطانيون 195 مليون نسخة فقط، وتفوقت أستراليا على بقية الأسواق خارج القارة القديمة بـ69 مليون نسخة، تلتها البرازيل بـ55 مليوناً.

هذا، وتشارك المملكة العربيّة السعوديّة في هذه التظاهرة من خلال هيئة الآداب والنشر والترجمة بهدف تعزيز العلاقات الثقافية وتبادل المعرفة بين المملكة والعالم. ويسلط الجناح السعودي في المعرض الضوء على مساهمات ثقافيّة ومبادرات نشر من عدد من المؤسسات الوطنية مثل أكاديمية الملك سلمان العالمية للغة العربية، ومؤسسة الملك عبد العزيز للبحوث والمحفوظات (درة)، ومكتبة الملك عبد العزيز العامة، ومكتبة الملك فهد الوطنية، كما حضر ناشرون سعوديّون بارزون من القطاع الخاص عدداً من الأنشطة وعقدوا لقاءات لهم على هامشها مع ناشرين عالميين.


مقالات ذات صلة

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب إيمانويل تود

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً.

سوسن الأبطح
كتب شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

يطرح الكاتب العراقي ماجد الخطيب في السوق كتابه المعنون «البيئة المسلية» في زمن ما عاد فيه الإنسان يشعر بأي تسلية وهو يشاهد الخراب البيئي العظيم

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يكشف كتاب «بوادر التجديد في شعرنا المعاصر»، للدكتور يوسف بكار، عن جوانب تجديدية في المضمون الشعري وتشكيلاته الفنية، متناولاً قصيدتين لخليل مطران وإبراهيم طوقان

«الشرق الأوسط» (عمّان)
صحتك التعاطف مع الذات والوعي بما يحتاج إليه جسمكم هما المفتاح لنوم أفضل (متداولة)

8 نصائح بسيطة لنوم أفضل

هل تواجهون صعوبة في النوم؟ إليكم 8 نصائح رئيسية عملية لمساعدتكم على الاسترخاء والاستغراق في النوم.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق تمت استعارة الكتاب في مارس (آذار) 1926 من مكتبة بمقاطعة أوشن في نيوجيرسي (أرشيفية - رويترز)

امرأة تعيد إلى المكتبة كتاباً استعاره جدُّها قبل 99 عاماً

عندما انتقلت ماري كوبر من منزلها إلى منزل آخر، أحضرت صناديق تحتوي على متعلقات والدتها الراحلة إلى منزلها الجديد، حيث اكتشفت قطعة أثرية متمثلة في كتاب.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود
إيمانويل تود
TT
20

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود
إيمانويل تود

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً. من حينها بقي اسم هذا الأكاديمي مرتبطاً بقراءته المبكرة للأحداث. هذه المرة أطلق من خلال كتابه «هزيمة الغرب»، الذي صدر في فرنسا، منذ ما يقارب السنة، نبوءةً جديدةً، وهي أن «روسيا لن تُهزم» في حربها مع أوكرانيا، عكس كل ما كان يتردد في الإعلام، وشرح أن الغرب في مرحلة انحدار سريع، ونكران، لا بل في طور «العدمية» وفقدان القيادة، مما ينذر بالأفول.

هذه الآراء الجريئة، جعلت مؤلّف تود «هزيمة الغرب» يتصدر الكتب الأكثر مبيعاً، ويثير نقاشاً واهتماماً في أوروبا وأميركا، حيث ترجم إلى مختلف اللغات، وجلب لصاحبه من القراء والمعجبين بقدر ما حصد من عداوات. وصفته «نيويورك تايمز» بأنه «الأكاديمي الرؤيوي»، وكتابه «فريد من نوعه»، فيما رأت مجلة «لوبوان» الفرنسية أنه «كتاب يهزّ اليقينيات».

حسناً فعلت «دار الساقي» أن ترجمت الكتاب إلى العربية، في وقت تطالب فيه أميركا الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأن يوقع اتفاقاً يقر بالهزيمة. فهل بدأت توقعات تود بالتحقق من جديد؟

الكتاب ليس تحليلاً سياسياً، ولا قراءة لخبير عسكري، بل بحث أكاديمي علمي صرف، كما يصرّ صاحبه، رافضاً تسميتها بالتوقعات، لأنها مبنية على دراسة وتحليل لتركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات، على مدى نصف قرن من الزمان. ومن بين ما يأخذه بعين الاعتبار بيانات الخصوبة في كل بلد، والتعليم، ومتوسط الأعمار، وانتشار الأمراض، ومستوى الخدمات الصحية، وحركة المجتمع التي تشكل المحرك الحقيقي للشعوب ولسياساستها بعد ذلك.

وتود مؤرخ وأنثروبولوجي من أصل يهودي مجري، تلميذ نجيب لعالمي الاجتماع الكبيرين ماكس فيبر وإيميل دوركهايم، لا يدعي الإصلاح ولا إعطاء النصح، بل تطبيق مناهج أساتذته القديمة المعروفة، بشكل صارم وجدي، ومن ثم قراءة النتائج.

وقد وصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا تحوّلت إلى «إمبراطورية عدمية»، ولم تعد أمة وبلداً له حدوده الواضحة، بل اختلط الداخل بالمصالح الخارجية بشكل يهدد كيان الدولة. وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالآخرين، والعجز التجاري كبيراً، ويتصاعد بسرعة. منحنى الانحدار بدأ منذ منتصف ستينات القرن الماضي. والحمائية التي تنشدها أميركا اليوم، سببها انعدام المركزية الثقافية وفقدان القيادة الأمينة لماضيها، وتاريخها وتقاليدها. وهو ما بدأنا نرى الكثير من تجلياته في أوروبا أيضاً.

ويعتقد الكاتب أن الإصلاح صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، بسبب عمق الأزمة. وهو يعلن باستمرار أنه رجل لا ديني، لكنه لا يستطيع أن يهمل كدارس اجتماعي الدور الذي لعبه الدين، خصوصاً البروتستانتية في التأسيس لنهضة الحضارة الغربية. ويفرد لذلك مساحة شارحاً أن حرص البروتستانتية على قراءة الإنجيل والتفقه الديني من قبل أتباعها، كان وراء انتشار التعليم في أوروبا وتشييد المؤسسات المعرفية. وهو ما يفسر الدور الذي لعبته ألمانيا وإنجلترا وأميركا في بناء النهضة الصناعية الغربية. ويلفت إلى أن ماكس فيبر عدَّ أن البروتستانتية هي التي منحت الرأسمالية ديناميكيتها. بالتالي فإن العامل الديني الذي كان أحد عناصر تأجيج المعرفة العلمية، فقد وهجه اليوم.

أما من يصلون إلى السلطة في أميركا، فهم وإن كانوا بروتستانت، فإنهم فقدوا جذور القيم البروتستانتية. ويصل تود إلى حد اعتبار أن «البروتستانتية أصبحت بمستوى صفر». صحيح أن أميركا تتمتع بنظام وقوة عسكرية هائلين، لكنها بلا قيادة مركزية وقيم توجهها، وتلك هي المشكلة. أي أنها قوة ضاربة فقدت بوصلتها.

ومن بين الأمور الرئيسية التي يعدُّها سبباً في تقهقر الغرب غروب الأخلاقيات ذات الجذور الدينية، وهو ما تسبب بحالة من الضياع القيمي عند الناس. الإحساس بالفراغ لم يُملأ، وأحدث خلخلة اجتماعية. ويلفت كأنثروبولوجي متعمق إلى أن التركيز على مسألة التحول الجنسي، واعتبار أنه يمكن تحويل الرجال إلى نساء والعكس، خلق حالة غير واقعية، وشكل نهاية للمسيحية محركاً أخلاقياً في المجتمعات الغربية، بعد أن كانت جميعها بحلول عام 2015 قد شرعت زواج المثليين بقوانينها.

«أؤمن بالبرغماتية الأنجلوساكسونية، وكنت أظن أن هذه المجتمعات ستصحح مسارها ولكن بالعكس الأمر يتفاقم»، يقول تود: «لفتني ليس فقط وضع الغرب ككل. ولكن ما حدث في ولاية ترمب الأولى التي لم تكن ناجحة، كذلك (بريكست)، وقد تأتت عنه نتائج سيئة. بلدان غربيان رئيسيان يعانيان أزمات كبرى، وهناك في المجتمعين انتصار ساحق للعموم على النخب».

عناصر كثيرة، يوضح من خلالها تود أن الأزمة هي في الغرب وليست عند روسيا التي تلقى عليها الاتهامات في حربها مع أوكرانيا. «الغرب ليس مستقراً، لا بل مريض، ويعاني من أزمة يشغل موقعاً مركزياً فيها. فوزنه، سواء الديموغرافي أو الاقتصادي يفوق وزن روسيا، من سبع إلى عشر مرات، كما أن تقدمه التكنولوجي، وسيطرته الآيديولوجية والمالية الممتدة من عام 1700 يقودنا نحو افتراض أن أزمة الغرب هي أزمة العالم».

أما روسيا، في المقابل، فهي دولة استرجعت توازنها، وتبذل ما في وسعها من أجل الحفاظ عليه. الغرب وقع في فخ هذه الحرب وخسرها ليس بفعل قوة روسيا، بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل. على عكس الدول الغربية في روسيا زاد معدل الأعمار، كذلك ارتفعت نسبة الخصوبة، بعد أزمة التسعينات، هناك تحسن واضح في كل المؤشرات الروسية.

فمنذ بداية حكم بوتين إلى عام 2000، انخفض معدل الوفيات بسبب الكحول من 25 في المائة إلى 8 في المائة، والانتحار من 39 إلى 13، والقتل من 28 إلى 6. أما بالنسبة لمعدل وفيات الرضع، فقد انخفض من 19 في الألف إلى 4.4. وهو أفضل من المعدل الأميركي. ومع أن عدد سكان روسيا هو نصف عدد سكان الولايات المتحدة، فإنها تنتج ضعف كمية القمح، فيما أميركا، تعتمد على الخارج في معظم قدرتها الإنتاجية. ومن الأرقام اللافتة أن 23 في المائة من الروس في التعليم العالي يدرسون الهندسة، مقابل 7 في المائة في الولايات المتحدة، وهو ما ساعد الأولى على تحقيق تطور مذهل في مجالي الزراعة والصناعة.

يرفض الكاتب فكرة أن روسيا لها أطماع توسعية خارج حدودها التاريخية، ويعتبر أن الشعب الروسي سيادي، وهمه استقلاله، والحفاظ على حدوده. فكيف لشعب لا تتجاوز نسبة الخصوبة لديه 1.5 لكل امرأة أن يكون غازياً وطامعاً في التمدد؟ وكيف لبلد عدد سكانه 144 مليون نسمة، يعيشون على مساحة 17 مليون كم مربع، أن يفكروا بالتوسع، ولديهم كل هذه الأراضي الشاسعة، التي يحتاجون حمايتها والحفاظ عليها. لذا فإن كل الكلام الغربي الذي يضخه الإعلام للتخويف من روسيا هو نوع من الفانتازيا لا بل فكرة سخيفة ، ليس أكثر. وللتدليل على ذلك يشرح كيف أن روسيا هي التي أرادت التخفف من الدول التي التحقت بالاتحاد السوفياتي، وأن التخلص منها ومنحها استقلالها كان إحدى الغايات الروسية، خصوصاً بولندا التي شكلت حملاً ثقيلاً.

يرى تود أن الغرب وقع في فخ حرب أوكرانيا وخسرها ليس بفعل قوة روسيا بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل

في مطلع الكتاب يتحدث تود عن مفاجآت عديدة للحرب الأوكرانية - الروسية، بينها أن أوروبا التي اعتبرت نفسها بعيدة عن الحرب أصبحت جزءاً منها، ثم أن الصمود العسكري الأوكراني أذهل الروس فعلاً. لكن الذي أذهل العالم أجمع هو الصمود الاقتصادي الروسي، في مواجهة عقوبات كان يفترض أن تركّع الروس، لكنهم عكس ذلك استطاعوا أن يتكيفوا مع العقوبات بشكل كبير، واستعدوا سلفاً للاستقلالية في المجال التكنولوجي وحتى المالي، بحيث إن العقوبات المصرفية الكبيرة لم تنل منها كما كان متوقعاً. أما إحدى أهم المفاجآت فجاءت من أميركا حين ظهرت تقارير مصدرها البنتاغون عام 2023 تقول إن الصناعة العسكرية الأميركية تعاني عجزاً، وأنها لا تتمكن من تأمين القذائف لحماية حليفتها. أما الصدمة الكبرى للغرب، فكانت عدم تجاوب دول الجنوب مع مطالب أميركا لخنق روسيا. بل على العكس فإن الغرب وجد نفسه في عزلة عن العالم، الذي لم ير بارتياح كل الإجراءات العدائية التي اتخذت ضد روسيا.

أما في نهاية الكتاب، فيشرح بالتفصيل كيف سيقت أميركا، ووقعت في الفخ الأوكراني. ويعدُّ أن سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 على عكس الادعاء الغربي لم يكن بسبب هزيمة روسيا فقط، بل لأن أميركا كانت لم تعد قادرة على المواجهة. وبما أن الجميع صدق الكذبة، خصوصاً الغرب، فقد استمرت أميركا في مغامراتها التوسعية من العراق إلى أفغانستان، فيما كان الفقر والوفيات يتفاقمان في الداخل. وبينما كانت الولايات المتحدة تتخبط في حروبها، تركت الصين تُنهك الصناعة الأميركية، وكانت روسيا تتعافى.

ويرى الكتاب أن الحمائية الأميركية لا يمكن أن تنجح، «لأن أميركا ضعيفة جداً صناعياً. فهي لا تنجح في تطوير صناعة بديلة للواردات. ولم تعد العمالة الماهرة موجودةً لديها». وحتى نوعية الأسلحة الأميركية إذا ما دخلت حرباً حقيقيةً مع الصين مثلاً، فلربما لا تصمد طويلاً. إذ ماذا تفعل حاملات الطائرات الأميركية التي تستعرض في المتوسط أمام الصواريخ الصينية الفرط صوتية، ألم تجعلها بالية وغير قادرة على الدفاع عن تايوان؟

حرب غزة التي ينتهي بها الكتاب، يعتقد تود أنها «كانت مفيدة لأميركا كي ينسى العالم أنها تخسر في أوكرانيا، ولكي تنسى هي نفسها ذلك».

أما الخلاصة السوداء التي يوصلنا إليها، فيتركها مفتوحةً بوسع ضبابية المشهد لأن «الحالة السوسيولوجية صفر لأميركا، تحول دون أي تنبؤ متعقل بالقرارات الأخيرة التي سيتخذها قادتها». لذلك ينصحنا تود بالتالي: «دعونا نبقى يقظين، لأن العدمية تجعل كل شيء، كل شيء على الإطلاق ممكناً».