سكان سابقون في مناطق {داعش}: وعد التنظيم بإقامة دولة بعيد المنال

هاربون: ظننا أنهم يريدون التخلص من نظام الأسد.. لكن تبين أنهم لصوص

أحد عناصر الميليشيات العربية على تخوم مناطق يسيطر عليها «داعش» في سوريا (نيويورك تايمز)
أحد عناصر الميليشيات العربية على تخوم مناطق يسيطر عليها «داعش» في سوريا (نيويورك تايمز)
TT

سكان سابقون في مناطق {داعش}: وعد التنظيم بإقامة دولة بعيد المنال

أحد عناصر الميليشيات العربية على تخوم مناطق يسيطر عليها «داعش» في سوريا (نيويورك تايمز)
أحد عناصر الميليشيات العربية على تخوم مناطق يسيطر عليها «داعش» في سوريا (نيويورك تايمز)

بعد أن توقفت الحكومة السورية عن الدفع له، تلقى فني قضى عقدين من الزمان في ضخ النفط السوري، عرضا مغريا للقيام بالعمل نفسه لكن لصالح متطرفي تنظيم داعش، بحيث يبدأ براتب يساوي ثلاثة أضعاف راتبه السابق.
وسرعان ما تولى هذا الرجل مهمة ملء الشاحنات الناقلة للنفط الخام لتمويل «داعش». لكن الإعدامات المتكررة للمتهمين بالتجسس والضربات الجوية القاتلة جعلت الحياة صعبة، وشعر الرجل بالغضب من استخدام موارد البلاد في تمويل المتشددين، في حين أُغلِقت المدارس والمستشفيات، فقرر الهرب.
وقال الفني، عقب هروبه إلى مدينة شانلي أورفا الواقعة جنوب تركيا: «ظننا أنهم يريدون التخلص من النظام، لكن تبين أنهم لصوص».
ويدعي تنظيم داعش أنه أكبر من مجرد جماعة مسلحة، ويروج لنفسه على أنه حكومة للمسلمين في جميع أنحاء العالم توفر مجموعة من الخدمات في الأراضي التي تسيطر عليها.
لكن مشروع الدولة يقع الآن في محنة، ربما أكثر من أي وقت آخر منذ بدء «داعش» في الاستيلاء على الأراضي في العراق وسوريا، وفقا لمجموعة من المقابلات التي أُجرِيت مع أشخاص فروا مؤخرا من قبضة التنظيم. وبدأ توتر المتطرفين يظهر في ظل الضغوط التي تفرضها الغارات الجوية التي يطلقها العديد من البلدان، وأيضا الهجمات البرية التي تشنها الميليشيات الكردية والشيعية.
واضطر بعض المقاتلين إلى تخفيض رواتبهم، فيما استقال آخرون وغادروا خلسة. وتتقلص الخدمات المهمة بسبب سوء الصيانة. وفي ظل تعثر أعمال التهريب وبيع النفط، عاد تنظيم داعش إلى فرض ضرائب متزايدة باستمرار، ورسوم على مواطنيه المضغوطين.
ويمكن لتلك الضغوطات أن تفسح المزيد من الفرص لأعداء التنظيم الكثيرين، لكنها لا تشير إلى انهيار وشيك. فلا يزال «داعش» يمتلك قوات برية جاهزة للقتال في معاقله في سوريا والعراق. ويسعى التنظيم للتأقلم مع الوضع الجديد، وأيضا الحفاظ على مكانته الدولية عالية عن طريق شن هجمات خارجية مثل تلك التي أسقطت طائرة الركاب الروسية في مصر، والأخرى التي أصابت باريس بالشلل. ويستثمر التنظيم أيضا في بناء فروع جديدة في دول مثل ليبيا، حيث تواجه قواته مقاومة ضعيفة.
ويظل وعد الدولة على الأرض التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق هو العامل الأساسي الذي يميزه عن تنظيم القاعدة، إلى جانب جذب المجندين من جميع أنحاء العالم بشكل كبير.
ولا تزال الدعوات للانضمام إلى «داعش» مستمرة - ولها تأثير – على وسائل الإعلام الاجتماعي وداخل الدوائر المتطرفة. غير أن وعود التنظيم تعد جوفاء في خضم فرار السكان الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» بسبب الحرمان، والقصف الكثيف بالغارات الجوية، وتصرفات التنظيم الذي يقول الكثير من المسلمين إنه أشبه بعصابة الجريمة المنظمة أكثر من مناصرته للإسلام، حتى إن بعض السكان الذين اختاروا البقاء عندما استولى المتطرفون على مناطقهم يدفعون الآن المال للمهربين لاقتيادهم حول نقاط التفتيش المخصصة لمنعهم من الهرب.
وقالت معلمة من مدينة دير الزور السورية، فرت إلى تركيا الشهر الماضي: «يهاجر الكثير من الناس. ويريد (داعش) بناء مجتمع جديد، لكن سوف ينتهي الحال بوجود المقاتلين وحدهم». وعندما أُغلِقت المدارس التي تديرها الحكومة السورية، ذكرت المعلمة أنها أسست مدرسة غير رسمية، وواصلت العمل فيها حتى عندما وصل المتطرفون. وهذا عنى شراء عباءات سوداء فضفاضة أجبروا النساء على ارتدائها في الأماكن العامة، وإيجاد سبل للترفيه عن طلابها من دون الموسيقى أو الفن، حيث يحرم التنظيم كليهما. ففي بعض الأحيان، كان الطلاب ينحتون الصابون، بحسب المعلمة. لكنها غادرت المدرسة، وفقا لكلامها، بعد تجميع بعض النشطاء وإعدامهم، خشية أن يكون الدور المقبل عليها.
وحتى في ظل دفع قسوتهم السكان إلى الرحيل، يدرك المتطرفون منذ فترة طويلة ويعملون على أساس أنهم يحتاجون لمهنيين مهرة لبناء مؤسسات على غرار الدول. وورد في نداء نشرته مجلة «دابق» الناطقة باللغة الإنجليزية والخاصة بـ«داعش» العام الماضي أن «الخلافة تحتاج أكثر من أي وقت مضى للخبراء والمهنيين والمتخصصين الذين يمكنهم المساهمة في تعزيز هيكلها، والسعي لتلبية احتياجات إخوانهم المسلمين».
لكن الدعوة عجزت عن تحقيق أهدافها، تاركة المتطرفين للكفاح من أجل العثور على أشخاص قادرين على تشغيل المعدات النفطية، وتصليح شبكات الكهرباء، وتوفير الرعاية الطبية، وفقا لسكان سابقين.
وقال صيدلي من شرق سوريا: «ليس لديهم مهنيون، لذلك يضطرون لدفع المال للأشخاص من أجل القيام بتلك الأشياء».
وتتوافر القصص بشأن وضع الأعضاء الموالين للتنظيم في مناصب غير مؤهلين لها. وأوضح بعض السكان أن رئيس الخدمات الطبية في إحدى البلدات هو عامل بناء سابق. وكان مدير حالي في حقل نفط يعمل تاجرا في السابق، وفقا لموظف سابق.
وفي الرقة، أُغلِق المستشفى الوطني الذي ظهر في فيديو دعائي لـ«داعش» يتحدث عن الخدمات الصحية في الخلافة، بسبب فرار الكثير من الأطباء، بحسب عامل إغاثة لديه أقارب في المدينة.
وأدى حظر معالجة الأطباء الرجال للمريضات (النساء) إلى وجود نساء في إحدى البلدات من دون طبيب على الإطلاق، وفقا للصيدلي. وحاول المتطرفون ملء هذا الفراغ عن طريق توظيف القابلات.
كما يتمثل أحد الأسباب التي تدفع الناس إلى الفرار في نظام الضرائب المرهق الذي يجري تنفيذه تحت اسم الزكاة. ويجمع المتطرفون – إلى جانب ضرائب أخرى – حصة سنوية من المحصول وقطيع الماشية، ويجعلون أصحاب المحلات التجارية يدفعون حصة من قوائم الجرد. وتؤدي المخالفات مثل عدم ارتداء اللبس المناسب إلى دفع غرامات تساوي غرام ذهب يمكن دفعها بالعملة المحلية.
وأصبح الفرار صعبا على نحو متزايد، في ظل محاولة المتطرفين الاحتفاظ بالسكان.
ونظرا لعدم تمكنه من الحصول على إذن للمغادرة، دفع نايف الأسعد، البالغ من العمر 55 عاما، للمهرب مبلغ 150 دولارا للفرد الواحد ليتولى مهمة تهريب عشرة أفراد من عائلته من بلدة الشدادي الخاضعة لسيطرة «داعش» إلى الحدود التركية. وأثناء سيرهم في الطريق داس شخص على لغم أرضي، مما تسبب في انفجار أودى بحياة نجلة الأسعد وزوجها واثنين من أطفالهما وفرد آخر من العائلة، على حد قوله. وأوضح الأسعد: «لم يكن (داعش) ليتركنا لنغادر. سيقولون: أنتم ذاهبون إلى الكفار».
ولا يزال التنظيم يرعب هؤلاء الذين يعيشون تحت قبضته، ويخشى الكثيرون الذين سعوا للجوء إلى جنوب تركيا من استهداف على أيدي عملاء «داعش» نتيجة انتقادهم للتنظيم. لذلك فإنهم يتحدثون شريطة عدم الكشف عن هويتهم، حتى إن البعض الذين استفادوا كثيرا من حكم «داعش» ليست لديهم رغبة كبيرة في البقاء.
وذكر فني النفط السابق أنه كان يكسب 150 دولارا في الشهر من الحكومة السورية قبل أن تقطع راتبه في مارس (آذار). واستأجره تنظيم داعش للعمل في حقل النفط نفسه، وأعطوه في البداية 450 دولارا في الشهر، ثم زاد المرتب إلى 675 دولارا، على حد قوله. وأضاف الفني أن المتشددين دفعوا له راتبا كبيرا، لأنهم لم يمتلكوا سوى القليل من الناس الذين يستطيعون تأدية وظيفته. وحتى إنهم أمسكوا به وهو يدخن السجائر في العمل ذات مرة – وهي جريمة يعاقب المتطرفون مرتكبيها – لكنهم لم يفعلوا شيئا له واكتفوا بالتحذير فقط.
لكن ما أزعجه أنه لم تكن هناك مدرسة يمكن لأطفاله حضورها، وكان قلقا من إمكانية إجباره على العمل في العراق. لذلك، فقد دفع إلى المهرب المال من أجل تهريبه هو وزوجته وأطفاله الثلاثة إلى تركيا. ووصلوا مؤخرا إلى اليونان على متن قارب، آملين في مواصلة الرحلة إلى ألمانيا.
وقال فني آخر عمل في حقل غاز طبيعي إنه هو وزملاءه استمروا في العمل عندما استولى المتطرفون على المصنع، وإنهم كانوا ينفذون الأوامر التي تلقاها رئيسهم من تنظيم داعش. وأضاف: «كانت مهمتنا فتح هذا وتوصيل ذلك. من المسؤول؟ نحن لا نسأل». لكن المصنع تضرر نتيجة الحرب، وبدلا من إنتاج منتجات الغاز المكرر مثلما اعتادوا في السابق، فإنهم أرسلوا كمية أقل بكثير من الغاز غير المكرر إلى الحكومة السورية. ولم يكن أحد يعرف ما حصل المتطرفون عليه في المقابل. ومثل الكثيرين الآخرين، ذكر ذلك الفني أن وعود المتطرفين بإقامة دولة فشلت في التحقق. وتابع: «يعتبر الدعم الشعبي مهما، لكن المتطرفين لا يمتلكونه. وقد سمع الناس كلمات جيدة منهم، لكنهم لم يروا أي شيء جيد منهم أبدا».

* خدمة «نيويورك تايمز»



«الانتقالي» على حافة الاختبار... هل يحفظ مكاسبه أو يتهيأ للاصطدام الكبير؟

مسلح في عدن من أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (أ.ف.ب)
مسلح في عدن من أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (أ.ف.ب)
TT

«الانتقالي» على حافة الاختبار... هل يحفظ مكاسبه أو يتهيأ للاصطدام الكبير؟

مسلح في عدن من أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (أ.ف.ب)
مسلح في عدن من أنصار المجلس الانتقالي الجنوبي المطالب بالانفصال عن شمال اليمن (أ.ف.ب)

تشهد المناطق الشرقية من اليمن، وتحديداً في حضرموت، مرحلة حساسة من إعادة ضبط التوازنات داخل معسكر «الشرعية»، على وقع التصعيد العسكري الأحادي الذي نفذه المجلس الانتقالي الجنوبي، وما يقابله من رفض إقليمي ودولي؛ إذ قال مراقبون إنه لا يمكن السماح بفرض أمر واقع عن طريق القوة المسلحة مهما كانت المزاعم أو المبررات.

وبحسب المراقبين، فإن ما يجري ليس تفصيلاً محلياً عابراً، يمكن التغاضي عنه سواء من قبل «الشرعية» اليمنية أو من قبل الداعمين لها، بل اختبار سياسي وأمني متعدد الأبعاد، تتقاطع فيه حسابات الداخل الجنوبي نفسه، ومسار الحرب مع الحوثيين، وخيارات السلام الإقليمي.

وحتى الآن، يظهر سلوك المجلس الانتقالي أقرب إلى المناورة تحت الضغط منه إلى التحدي المباشر. فاللغة المستخدمة في بياناته الأخيرة - التي تمزج بين التبرير السياسي والتحركات العسكرية، وبين الحديث عن «التنسيق» و«تفهّم الهواجس» - تعكس إدراكاً متزايداً بأن مساحة المناورة تضيق بسرعة. لكن لا بد من التقاط القرار الصائب.

كما يشار إلى أن تحذيرات السعودية التي تقود «تحالف دعم الشرعية» في اليمن لم تكن عابرة أو قابلة للتأويل، بل جاءت متزامنة ومتدرجة، وانتقلت من مستوى التنبيه السياسي إلى الردع التحذيري الميداني من خلال ضربة جوية في حضرموت.

عناصر من المجلس الانتقالي الجنوبي يرفعون صورة زعيمهم عيدروس الزبيدي (إ.ب.أ)

هذا التحول في اللهجة يعني عملياً أن هناك قراراً واضحاً بمنع انتقال حضرموت والمهرة إلى مسرح صراع داخلي، أو إلى ساحة لفرض مشاريع جزئية بالقوة.

وربما يدرك المجلس الانتقالي وناصحوه معاً، أن تجاهل هذه الرسائل يضعه في مواجهة مباشرة مع الطرف الإقليمي الأثقل وزناً في الملف اليمني، وهو السعودية قائدة «تحالف دعم الشرعية»، وهو صدام لا يملك المجلس أدوات تحمّله، لا سياسياً ولا عسكرياً.

لذلك، يُنصح «الانتقالي» من قبل مراقبين للشأن اليمني بأن يتعامل مع التحذيرات بجدية، وعدم الركون إلى تكتيك الإبطاء، هذا إذا كان يبحث عن مخارج تحفظ له الحد الأدنى من المكاسب التي راكمها خلال السنوات الماضية، وإلا فلن يكون أمامه سوى الانصياع المتوقع بالقوة، وهو إن حدث سيعني لأنصاره هزيمة مدوية لا يمكن استيعابها.

ورطة غير محسوبة

وفق مراقبين للشأن اليمني، فقد أوقع «الانتقالي» نفسه في ورطة غير محسوبة؛ إذ جرى تسويق التحركات الأخيرة بوصفها «حماية للقضية الجنوبية» و«استجابة لمطالب شعبية»، ولقطع طرق التهريب وإمدادات الحوثيين ومحاربة التنظيمات الإرهابية، وفق زعمه، إلا أن الأوان لم يفت كما بينته الرسالة السعودية بوضوح عبر وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان؛ إذ بالإمكان الخروج من الورطة بأقل الخسائر، من خلال مغادرة قواته الوافدة إلى حضرموت والمهرة بشكل عاجل.

من ناحية ثانية، تشير المعطيات إلى أن المجلس الانتقالي لا يملك القدرة على تثبيت وجوده في حضرموت والمهرة، في ظل مجموعة عوامل ضاغطة، أبرزها وجود رفض محلي واسع، بخاصة في حضرموت، حيث تتمتع المكونات الاجتماعية والقبلية بحساسية عالية تجاه أي وجود مسلح وافد.

عناصر من قوات المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن (إ.ب.أ)

إلى جانب ذلك، يفتقد المجلس - الذي يهيمن على قراره قيادات من مناطق بعينها - غياب الغطاء الإقليمي الذي يشكل شرطاً أساسياً لأي تغيير أمني في مناطق حساسة، وكذا في ظل موقف دولي واضح يرفض أي تغيير للواقع بالقوة، ويؤكد دعم وحدة المؤسسات الرسمية.

لذلك، يبدو السيناريو الأفضل والأسهل - كما يقترحه محللون - هو انسحاب منظم، تحت أسماء فنية مثل «إعادة انتشار»، أو «ترتيبات أمنية»، أو بأي طريقة تسمح للمجلس بالخروج من المأزق بأقل الخسائر السياسية الممكنة.

أما إذا قرر المجلس الانتقالي تجاهل الإشارات والاستمرار في التصعيد، فإن تكلفة ذلك - طبقاً للمراقبين - ستكون مرتفعة ومتعددة المستويات؛ فعلى المستوى السياسي سيخسر المجلس ما تبقى من صورة الشراكة في السلطة الشرعية، وسيتحول تدريجياً - في الخطاب الإقليمي والدولي - من فاعل سياسي ضمن «مجلس القيادة الرئاسي» والحكومة اليمنية إلى عنصر مُعطِّل للاستقرار، وقد يصل الأمر إلى فرض عقوبات دولية على قادته.

أما عسكرياً، فالرسالة السعودية واضحة بعد بيان «تحالف دعم الشرعية»؛ إذ لن يُسمح بفرض أمر واقع بالقوة في شرق اليمن، وأي تصعيد إضافي قد يُقابل بردع مباشر، ما يعني خسائر ميدانية مؤسفة لا يملك المجلس القدرة على تعويضها أو تبريرها.

وعلى المستوى الشعبي، فإن حضرموت والمهرة ليستا بيئة حاضنة للمجلس الانتقالي، واستمرار التصعيد سيُعمّق الهوة بينه وبين قطاعات واسعة من الجنوبيين، ويحوّل القضية الجنوبية من مظلة جامعة إلى مشروع انقسامي، بل إن أخطر الخسائر - كما يقرأها المحللون - تكمن في تشويه جوهر القضية الجنوبية، عبر ربطها بالعسكرة والانتهاكات وفرض الوقائع بالقوة، بدل ترسيخها كقضية سياسية عادلة قابلة للحل ضمن مسار تفاوضي، كما هو الأمر في الطرح الذي تتبناه القوى اليمنية المنضوية تحت «الشرعية»، والذي تدعمه السعودية.

عبء الانتهاكات

من جانب آخر، تمثل الانتهاكات الموثقة في حضرموت نقطة تحوّل خطرة في مسار التصعيد. فعمليات المداهمة، والاعتقالات التعسفية، والإخفاء القسري، وفرض الحصار على مناطق مأهولة... لا تُقرأ فقط كإجراءات أمنية، بل كنمط قمعي ممنهج، يضع المجلس الانتقالي في مواجهة مباشرة مع القانون الدولي الإنساني.

وبحسب تقارير حقوقية موثوقة، شملت الانتهاكات في الأيام الأخيرة اقتحام منازل مدنيين، واحتجازاً تعسفياً، وإخفاء قسرياً، وحصاراً عسكرياً لمناطق قبائل «الحموم»، ومنع تنقل المرضى، ونهب ممتلكات عامة وخاصة... وهذه الممارسات لا تُضعف موقف المجلس أخلاقياً فحسب، بل تُحوّل ملفه إلى عبء قانوني وسياسي قابل للاستخدام دولياً، وتفتح الباب أمام مساءلة مستقبلية قد لا تسقط بالتقادم.

المجلس الانتقالي الجنوبي صعّد عسكرياً في حضرموت والمهرة بشكل أحادي (إ.ب.أ)

من كل ذلك، يمكن القول إن ما يجري اليوم هو اختبار نضج سياسي للمجلس الانتقالي الجنوبي، فإما أن يلتقط الرسالة الواضحة محلياً وسعودياً ودولياً، ويعود إلى المسار السياسي، ويحدّ من الخسائر، وإما أن يواصل التصعيد، ويدفع أثماناً سياسية وعسكرية وقانونية قد يصعب تعويضها، وفق تقديرات المراقبين.

وطبقاً لتقديرات المرحلة وما يراه المشفقون على مستقبل المجلس الانتقالي الجنوبي، فإن اللحظة الراهنة لا تحتمل المغامرة، ومن يخطئ قراءتها سيدفع الثمن وحده.


الاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» يُوسع أهداف «الشباب»... فهل تتعاون مع مقديشو؟

عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)
عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)
TT

الاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» يُوسع أهداف «الشباب»... فهل تتعاون مع مقديشو؟

عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)
عناصر من «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية (أ.ب)

وسع الاعتراف الإسرائيلي بـ«جمهورية أرض الصومال» من أهداف حركة «الشباب» الإرهابية، بإعلان استعدادها لـ«حرب تل أبيب في هرجيسكا»، وسط تساؤلات حول إمكانية تعاون الحركة مع حكومة مقديشو في المستقبل.

وأكد خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» أن «خطوة إسرائيل سوف تعطي ذرائع لـ(الشباب) عبر إعادة النشاط واكتساب بيئة حاضنة ومتطوعين جُدد». لكن الخبراء استبعدوا أي «تعاون بين الحركة الإرهابية والحكومة الصومالية».

ويكثف الجيش الصومالي منذ أكثر من عام عملياته العسكرية ضد عناصر «الشباب»، ونجح خلال الأشهر الأخيرة في استعادة السيطرة على مناطق عدة كانت تحت سيطرة الحركة، خصوصاً في وسط البلاد... وتؤكد وزارة الدفاع الصومالية أن «العمليات ضد الإرهابيين سوف تستمر حتى يتم القضاء عليهم بشكل كامل في جميع محافظات البلاد».

الخبير العسكري، رئيس «المؤسسة العربية للتنمية والدراسات الاستراتيجية»، العميد سمير راغب، يرى أن الاعتراف الإسرائيلي بـ«أرض الصومال» سوف يوسع أهداف حركة «الشباب»؛ ورغم أن هذه التنظيمات لا تضع إسرائيل هدفاً أول؛ لكن فكرة وجود إسرائيلي حتى عبر «اعتراف» أو تجارة تكون جاذبة لمثل هذه التنظيمات، من أجل اكتساب بيئة حاضنة، ومتطوعين جٌدد، لذا فالحركة تعلن توسيع النشاط ضد إسرائيل.

وأضاف أن حركة «الشباب» موجودة في إقليم «بونتلاند» الملاصق لـ«صوماليلاند» وموجودة في جنوب الصومال بكثافة، وفكرة الانتقال إلى «أرض الصومال» قد تبدو محتملة في ظل وجود سيولة حدودية، فمن الممكن أن تنتقل عناصر الحركة. ولم يستبعد راغب أن «تمنح هذه التطورات فرصة للحركة للتنقل عبر دول أخرى من خلال توسيع العمليات، لأنها فرصة لها».

تصاعد الدخان بالقرب من مجمع قصر الرئاسة بالصومال عقب انفجارات في مقديشو يوم 4 أكتوبر الماضي (رويترز)

الجانب الدعائي

خبير الأمن الإقليمي، رئيس مركز «السلام للدراسات الاستراتيجية»، الدكتور أكرم حسام، قال إن «الاعتراف الإسرائيلي سوف يعطى ذرائع أو حجج لـ(الشباب) التي تواجه في الفترة الأخيرة ضغوطاً كبيرة، خصوصاً من قِبَل القوات الدولية التي تم تشكيلها لمواجهة الحركة». وشرح: «بالفعل الحركة تعرضت لتقويض كبير لدورها خلال الفترة الأخيرة، وانحصرت عملياتها في نطاقات محدودة خلال العامين الماضيين»، لافتاً إلى أن «خطوة إسرائيل سوف تدفع الحركة لإعادة تنشيط دورها في منطقة القرن الأفريقي».

ملمح آخر تحدث عنه حسام بأن «اعتراف إسرائيل بـ(أرض الصومال) سوف يعطي مساحة للحركة في الجانب الدعائي الخاص بمسألة التجنيد، ولمّ الصفوف مرة أخرى، وتوحيد الجهود ووضع أهداف جديدة تبدو براقة لبعض العناصر المتطرفة المتمركزة في منطقة القرن الأفريقي أو القريبة منها».

وفي تقدير حسام فإن «تهديد الحركة بإعلان استعدادها لـ(الحرب) ضد إسرائيل في الإقليم الانفصالي (أرض الصومال) قد يواجه صعوبة كبيرة لتنفيذ هذه التهديدات»، لكن سيبقى الأثر في الجانب الدعائي فقط والسياسي والبحث عن أنصار وداعمين جدد».

وتعهّدت «الشباب» المرتبطة بتنظيم «القاعدة» بمواجهة أي محاولة من جانب إسرائيل «للمطالبة بأجزاء من أرض الصومال أو استخدامها»، وقالت في إفادة، السبت، «لن نقبل بذلك، وسنحاربه». وحسب «الشباب» فإن اعتراف إسرائيل بـ«جمهورية أرض الصومال» أظهر أنّها «قررت التوسع إلى أجزاء من الأراضي الصومالية».

ضباط شرطة صوماليون يسيرون على طول حاجز وسط الطريق خلال دوريتهم بمقديشو في نوفمبر الماضي (أ.ف.ب)

تعاون مستبعد

حول التعاون المستقبلي بين حكومة مقديشو و«الشباب». استبعد راغب أن «يحدث أي تعاون بشكل صريح بين الحركة ودولة الصومال، لأنه لو حدث فإن ذلك يدين الصومال، ولن تخرج مقديشو إطلاقاً وتعلن أنها تتعاون مع الحركة»؛ لكنه لم يستبعد أن يكون هناك عمل سري صومالي عبر خلايا تعمل داخل إقليم «أرض الصومال» ترفع شعارات حركة «الشباب» أو تنظيم «داعش» أو أي تنظيم آخر.

أيضاً حسام استبعد هذا الخيار بكل الأحوال، بقوله: «لن يكون هناك تعاون بين حركة إرهابية والحكومة الشرعية في الصومال»، لأننا هنا نتحدث عن مسار دولة تعمل من أجل التصدي للإجراء الإسرائيلي في «أرض الصومال». ويرى أن «تركيز الحكومة الصومالية حالياً وفي المستقبل سوف ينصب على الجهد الدبلوماسي لعدم توافر إمكانات أخرى لمواجهة هذا الأمر».

وقال حتى فيما يتعلق بمسألة «الخيارات الصلبة أو العنيفة» التي يمكن أن يتخذها الصومال تجاه «الإقليم الانفصالي» غير المعترف به، هذا أمر مستبعد، نتيجة للتحالفات الحالية التي تحظى بها «أرض الصومال» مع عديد من الدول والأطراف الداعمة، ولا ننسى الآن أن إسرائيل موجودة على الخط، وهناك محاولات لجر أميركا للوجود في «أرض الصومال» من خلال منح بعض القواعد العسكرية كما تم الحديث عنه من قبل، وحديث الرئيس الأميركي دونالد ترمب، «لم يقطع بأنه لن يعترف بـ(أرض الصومال)، وأبقى المجال مفتوحاً للاعتراف مستقبلاً».

ويشار إلى أن الوضع الأمني في الصومال قد تدهور بشكل ملحوظ عام 2025. وأعلنت «الشباب» في مارس (آذار) الماضي مسؤوليتها عن انفجار قنبلة كادت أن تصيب الموكب الرئاسي. ومطلع أبريل (نيسان) الماضي أطلقت قذائف سقطت قرب مطار مقديشو. كما استهدف هجوم انتحاري في يوليو (تموز) الماضي أكاديمية عسكرية تقع جنوب العاصمة الصومالية.

وبداية أغسطس (آب) الماضي، شنت بعثة الدعم وإرساء الاستقرار التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال «هجوماً كبيراً» لاستعادة السيطرة على مدينة باريري في منطقة باس شابيل التي تبعد مائة كيلومتر غرب العاصمة الصومالية. وكانت باريري تضم قاعدة عسكرية كبيرة، وسقطت في أيدي «الشباب» من دون معارك في مارس الماضي، بعد انسحاب الجيش منها، وذلك إثر تدمير عناصر الحركة جسراً حيوياً لإيصال الإمدادات العسكرية.

شاب يحمل علم «أرض الصومال» أمام النصب التذكاري لـ«حرب هرجيسا» (أ.ف.ب)

مستقبل «الشباب»

عن مستقبل نشاط «الشباب». أكد سمير راغب أن «الحركة سوف تستمر في نشاطها، لأن الفكرة القائمة عليها الحركة أن تُحدث فوضى وتأثيرات في أي نظام سياسي تؤدي إلى ضعفه أو سقوطه، لأنها تريد أن تحكم»، وبالتالي «هي لن ترفع راية الوطنية بالحديث عن محاربة إسرائيل، لكن لديها فكرة دائمة في البحث عن (ضوء) فيُمكن أن تخفف في منطقة وتزيد في منطقة أخرى.

وحسب أكرم حسام فإنه «لا داع للربط بين مستقبل نشاط الحركة واعتراف إسرائيل بـ(أرض الصومال)، لأن الحركة لها دعائم للبقاء خلال الفترة الحالية والمستقبلية». وتابع: «كل طموحات الحركة تتركز حالياً في دولة الصومال، ولديها حواضن محلية قائمة على العشائر أو القبائل، ولديها مصادر تمويل تستطيع من خلالها ضمان القدرات المالية، والدليل على ذلك أنه رغم الحملة الدولية على (الشباب)»؛ فإن الحركة «تستطيع التعايش مع هذا الضغط من خلال الاحتماء بهذه الحواضن العشائرية».

وأفاد تقرير لـ«وكالة الأنباء الصومالية» (صونا) في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بأن «الفرقة الـ43 للجيش الوطني وقوات الكوماندوز الخاصة نفذت عمليات عسكرية مخططة في البلدات التابعة لمنطقة جمامي بمحافظة جوبا السفلى». وطبقاً للوكالة «تكبدت عناصر الحركة حينها خسائر فادحة جرّاء العمليات العسكرية الجارية؛ حيث تم طردها من تلك المناطق التي كانت تتحصن فيها». وذكرت «الوكالة» أن «العمليات العسكرية البرية ترافقت مع غارات جوية شنّها الجيش الوطني، وأسفرت عن تدمير أوكار الإرهابيين».


وزير خارجية «أرض الصومال»: لم نوافق على استقبال أشخاص من غزة

 وزير خارجية «أرض الصومال» (صوماليلاند) عبد الرحمن ظاهر آدم (صفحة وزارة خارجية «أرض الصومال» عبر فيسبوك)
وزير خارجية «أرض الصومال» (صوماليلاند) عبد الرحمن ظاهر آدم (صفحة وزارة خارجية «أرض الصومال» عبر فيسبوك)
TT

وزير خارجية «أرض الصومال»: لم نوافق على استقبال أشخاص من غزة

 وزير خارجية «أرض الصومال» (صوماليلاند) عبد الرحمن ظاهر آدم (صفحة وزارة خارجية «أرض الصومال» عبر فيسبوك)
وزير خارجية «أرض الصومال» (صوماليلاند) عبد الرحمن ظاهر آدم (صفحة وزارة خارجية «أرض الصومال» عبر فيسبوك)

رحب وزير خارجية أرض الصومال (صوماليلاند)، عبد الرحمن ظاهر آدم، باعتراف إسرائيل بهذه الأراضي كدولة مستقلة، رغم الانتقادات الصادرة عن دول إقليمية أخرى.

وقال الوزير في تصريحات لهيئة البث الإسرائيلية (كان) إن «هذا الاعتراف ليس مجرد حدث دبلوماسي مهم، بل هو أيضا لحظة من العدالة التاريخية والوضوح الأخلاقي»، مؤكدا أن «أرض الصومال» لم توافق على استقبال أشخاص من قطاع غزة مقابل هذا الاعتراف.

تعاون مخطط له مع إسرائيل

وبحسب الوزير، سيركز التعاون مع إسرائيل على مجالات الدبلوماسية والتجارة والتكنولوجيا والزراعة وإدارة المياه والصحة والأمن. وأضاف: «تسعى أرض الصومال إلى شراكة شفافة وسلمية ومفيدة للطرفين»، وفقا لوكالة الأنباء الألمانية.

وأشار إلى أن اعتراف إسرائيل بـ «أرض الصومال» يعزز صورة المنطقة الواقعة في شرق أفريقيا بوصفها «دولة مستقرة وديمقراطية ومسؤولة في منطقة هشة».

وأصبحت إسرائيل، أمس الأول الجمعة، أول دولة في العالم تعترف بإقليم «أرض الصومال» الانفصالي دولة ذات سيادة. ويذكر أن أرض الصومال، وهي منطقة ذات أغلبية مسلمة في شمالى الصومال ويقطنها بضعة ملايين، تتمتع باستقلال فعلي منذ أكثر من ثلاثة عقود.

غضب في الصومال

وجاءت الخطوة الإسرائيلية قبل أيام من تولي الصومال الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي. ووصفت الحكومة الصومالية القرار بأنه «اعتداء متعمد» و«غير قانوني» على سيادة البلاد.

ووفقا لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تم الاعتراف «بروح اتفاقات أبراهام»، وهي الاتفاقات التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب عام 2020 خلال ولايته الأولى.

الأهمية الاستراتيجية لأرض الصومال

وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن أرض الصومال تقع بالقرب من مضيق باب المندب ذي الأهمية الاستراتيجية، حيث شنت ميليشيا «الحوثي» اليمنية مرارا هجمات على سفن تجارية دولية يشتبه بارتباطها بإسرائيل.

وكتبت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» أن الوصول إلى أراضي «أرض الصومال» ومجالها الجوي من شأنه أن يسهل على إسرائيل تنفيذ هجمات ضد الحوثيين ومراقبتهم.

ومن المقرر أن يعقد مجلس الأمن الدولي اجتماعا طارئا ردا على القرار الإسرائيلي. وقبيل الاجتماع المقرر غدا الاثنين في نيويورك، أصدرت 21 دولة ذات أغلبية مسلمة بيانا مشتركا حذرت فيه من «تداعيات خطيرة» للخطوة الإسرائيلية غير المسبوقة على «السلام والأمن» في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وكذلك على الأمن الدولي.