العرب.. كافحوا ونجحوا في أميركا الجنوبية

معظمهم هاجر من بلاد الشام وبداية هجرتهم في القرن التاسع عشر

ساو باولو.. عاصمة المال والأعمال في البرازيل
ساو باولو.. عاصمة المال والأعمال في البرازيل
TT

العرب.. كافحوا ونجحوا في أميركا الجنوبية

ساو باولو.. عاصمة المال والأعمال في البرازيل
ساو باولو.. عاصمة المال والأعمال في البرازيل

استضافت العاصمة السعودية الرياض أخيرًا القمة العربية - الأميركية الجنوبية الرابعة التي افتتحها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وشددت على أهمية العلاقات المتنامية بين العالم العربي ودول قارة أميركا الجنوبية. كذلك سلطت هذه القمة الضوء على العلاقات القديمة والمتجددة بين كتلتين بشريتين كبيرتين من أكبر كتل العالم الثالث وأسرعها نموًا، سواء على الصعيد السكاني أو آفاق التنمية والاستثمار الاقتصادي. وفيما يلي نسلط الضوء العلاقات بين العرب والقارة الأميركية الجنوبية.
تشير المراجع التاريخية إلى وجود عربي ومسلم في قارة أميركا الجنوبية يضرب في القدم إلى بدايات التوطن الأوروبي في الأميركتين الشمالية والجنوبية. غير أن موجات الهجرة الحديثة هي الموجات التي وثقت، والتي ما زالت آثارها قائمة حتى اليوم، وهي تتجلّى ليس في نجاح المئات بل والألوف من «عرب أميركا الجنوبية» في تبوؤ مواقع قيادية في مجالات السياسة والاقتصاد والفكر والرياضة والفن، بل في احتفاظ كثيرين من هؤلاء بأواصر القربى والالتزام بالقضايا التي تشغل الديار التي هاجروا منها. وبالفعل، اهتمت الدول العربية التي هاجر كثيرون من أبنائها إلى «العالم الجديد» خلال القرون الثلاثة الأخيرة في السعي إلى ربط الأجيال الجديدة بشتى السبل المتاحة.
في الواقع الهجرة إلى الأصقاع البعيدة ليست جديدة بحال من الأحوال على العرب، الذين انطلقوا أصلاً من شبه جزيرة العرب للتوطن في المناطق القريبة والبعيدة. ولقد كان لمرور طريقين اقتصاديين مهمين جدًا في تاريخ التجارة والحضارة الإنسانية، هما «طريق البخور» و«طريق الحرير» في بلاد العرب دور بارز في إكساب العرب الرغبة في التنقل والاتجار وركوب البحار. ومعروف الدور الكبير الذي لعبه البحار العربي الشهير أحمد بن ماجد، الملاّح والعالم الفلكي والجغرافي والبحّار الذي اشتهر اسمه في تاريخ الملاحة البحرية، لا سيما الرحلة حول رأس الرجاء الصالح عندما ساعد الرحالة والمستكشف البرتغالي الشهير فاسكو داغاما على اكتشاف الطريق الموصل من أوروبا إلى الهند. ولقد لقّب البرتغاليون ابن ماجد المولود في جلفار (رأس الخيمة اليوم) بـ«أمير البحر» إقرارًا بفضله ومعرفته العظيمة بالمسالك البحرية والملاحة في المحيط الهندي وبحر الصين والبحر الأحمر.
ويشير أحد المراجع إلى أن الأسفار الأولى إلى الأميركتين كانت ذات طبيعة فردية، إلا أنها ما لبثت أن غدت موجات هجرة جماعية، نمت بصورة مطردة من العشرات إلى المئات فالآلاف سنويًا، ولا سيما في ظل أحداث دافعة أو مساعدة. ويذكر المؤرخ الكبير الراحل فيليب حتى أن كاهنًا مسيحيًا عراقيًا هو الأب إلياس بن حنا الموصلي الكلداني قام برحلة إلى الأميركتين الشمالية والجنوبية مرورًا بأميركا الوسطى استغرقت 23 سنة (1660 - 1683)، قبل أن يرجع إلى بغداد ويؤلف كتابه الشهير «رحلة أول سائح شرقي إلى أمركة»، وفيه تحدث الكاهن الموصلي عن البلدان التي زارها وثرواتها وسكانها وطبائعهم. وكانت هذه الرحلة حتمًا من بواكير العلامات على طريق الهجرة إلى «العالم الجديد».
من ناحية أخرى، عبر المحيط الهندي – أو بحر الهند – تقاطعت موجتا هجرة كبيرتان من جنوب شبه الجزيرة العربية هما الهجرة اليمنية - وتحديدًا من حضرموت - إلى شبه جزيرة الملايو وجزر الهند الشرقية (إندونيسيا) في جنوب شرقي آسيا، والهجرة العُمانية إلى شرق أفريقيا حيث أسّس العرب حضورًا مهمًّا في زنجبار ومُمباسا ودار السلام.. وجنوبًا إلى موزمبيق.
لكن أبناء بلاد الشام، وبالتحديد من سوريا ولبنان وفلسطين، كانوا في طليعة من اجتذبتهم الهجرة إلى الأميركتين، مع أن كثيرين منهم استقروا في أوروبا، كحال جاليات يمنية وشمال أفريقية لاحقًا، كما هاجروا إلى الفلبين وأستراليا. وكانت البداية الفعلية لهجرات بلاد الشام إلى الأميركتين في أواخر القرن الميلادي التاسع عشر عندما كانت المنطقة جزءًا من الدولة العثمانية، ولذا عُرف المُهاجرون الأوائل في ديار غربتهم الجديد بلقب «توركو» أي الأتراك، كونهم من رعايا الدولة العثمانية، ولاحقًا راج اسم «السوريون - اللبنانيون» وبالأخص، في البرازيل والأرجنتين، في حين أثبت المهاجرون من فلسطين حضورهم في تشيلي بصورة خاصة.
ويذكر أنه من الصعب فصل الهجرة إلى الدول الناطقة باللغة الإسبانية في أميركا الوسطى وجزر الكاريبي، وطبعًا، المكسيك، عن الهجرة إلى دول أميركا الجنوبية لأنها كانت لها الصفات ذاتها، والظروف ذاتها. وبالتالي، يمكن مجازًا استخدام أميركا اللاتينية لكي تغدو المعالجة أشمل وأدق في آن.
* أسباب الهجرة في بلاد الشام
كانت هناك ثلاثة عوامل أساسية أسهمت في موجات الهجرة من بلاد الشام إلى المهاجر الأميركية: العامل الأول اقتصادي، إذ كانت الزلازل والمجاعات والأوبئة والحروب والفتن الأهلية عوامل مؤثرة سلبيًا على الأوضاع المعيشية للفقراء وأبناء الطبقات المتوسطة، وبالتالي، كان السفر هربًا من الفقر والعوز، وأيضًا التجنيد الإلزامي في الجيش العثماني، الخيار المنطقي. وكانت المجاعة التي حدثت في مطلع القرن الـ20 وتفاقمت مع الحرب العالمية الأولى من أهم المفاصل في حركة الهجرة.
العامل الثاني، كان العامل السياسي، وبالأخصّ، بالنسبة للأقليات غير المسلمة في ظل حكم السلطان العثماني، الذي كان رسميًا «خليفة المسلمين». فقبل مرحلة «التنظيمات» العثمانية، خلال القرن التاسع عشر كان البعض من غير المسلمين يعتبر أنه لا يتمتع بكل حقوق المواطنة، ومن ثم كانت الهجرة بديلاً مناسبًا. وبعد ذلك مع بدء التدخل القوى الأوروبية المباشر في المشرق العربي، وتصاعد التيارات القومية، قامت ردة فعل قومية عربية على تصاعد القومية التركية، ومجدّدًا كان الانفتاح على الغرب مباشرة، أو عبر مصر - في عهد محمد علي – أيضًا خيارًا آخر لكل الناقمين على الحكم العثماني.
والعامل الثالث، هو العامل الشخصي الذي يمزج التوق إلى المغامرة والاستكشاف مع الطموح إلى تحقيق الثراء. لا سيما مع تيسر سبل السفر البحري، وتشجيع نجاح بعض المهاجرين على طلب أقاربهم، للانضمام إليهم.
ولئن كان للمجاعة الكبرى التي واكبت الحرب العالمية الأولى الأثر الكبير في هجرة كثيرين من أبناء بلاد الشام، فقد أدت هزيمة الدولة العثمانية في تلك الحرب وتقاسم الدول الغربية تركتها الممزقة، ومن ثم قيام إسرائيل على أرض فلسطين، إلى خلق كل الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية الدافعة إلى الهجرة إلى الغرب، وبالذات إلى الأميركتين.
* الاستقرار في الوطن الجديد
هجرة المغتربين العرب إلى أميركا الجنوبية يمكن تأريخ بداياتهم، حيث جاءت متأخرة عن الهجرة إلى أميركا الشمالية بنحو عقدين من الزمن، وفق المراجع التاريخية. أي إنها بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وكانت البداية إلى البرازيل بعد عام 1870م. أما أوائل المغتربين إلى الأرجنتين فقد جاءوا من غرب سوريا منذ عام 1882م. وارتفعت أعداد المهاجرين إلى البرازيل بعد توقيع معاهدة المهاجرة بين الحكومتين العثمانية والبرازيلية عام 1906م في أعقاب زيارة إمبراطور البرازيل (الدون بيدرو الثاني) إلى فلسطين وسوريا ولبنان.
وحقق المغتربون العرب نجاحهم الأكبر في ميداني التجارة والصناعة، حتى إن الجالية العربية في مدينة ساو باولو، كبرى مدن البرازيل، تمتلك وحدها شارعين كبيرين يكونان قلب المدينة التجاري. ولم يقتصر المغتربون في نشاطهم على المجالات المادية، بل دخلوا أيضًا ميادين الحياة الفكرية والأدبية والاجتماعية وأصدروا الصحف والمجلات باللغة العربية ولغة البلاد نفسها كما أنشأوا دور الرعاية الاجتماعية والمصحات والمستشفيات والكنائس. واهتم المغتربون العرب منذ سنواتهم الأولى بالصحافة فأصدروا الصحف والمجلات ليعبروا عن آرائهم ويتواصلوا فيما بينهم ومع الوطن الأم. فكانت الصحافة العربية في البرازيل خاصة، وسيلة لنشر الثقافة والمدارس الأدبية والشعرية، إلا أن معظم هذه الصحف والمجلات توقفت مع الأيام لأسباب مختلفة ولم يبقَ من مائة صحيفة ومجلة كانت تصدرها الجالية العربية هناك سوى عدد قليل.
لقد واجه المهاجرون إلى الأميركتين، وبالأخص إلى أميركا الجنوبية، مشكلات كثيرة في التأقلم، ليس أقلها جهلهم باللغة والعادات، والحاجة إلى العيش أحيانًا في مناطق معزولة تفرض عليهم الاعتماد على النفس. ولكنهم، جيلاً بعد جيل، نجحوا في ترسيخ أقدامهم، ومن ثم بعدما استقروا وأخذت جهودهم تثمر، ويبنون لأنفسهم مكانة اجتماعية مقبولة، وأحيانًا كثيرًا مرموقة، انطلق الجيل الثاني، للمشاركة أكثر فأكثر في الحياة الثقافية والفنية والسياسية وخرج من الجاليات العربية في عموم «العالم الجديد» ساسة كبار شغلوا أعلى المناصب. كذلك أسسوا لهم أندية وروابط ومؤسسات نشطت في مختلف المجالات منها الثقافي والأدبي والإعلامي والإغاثي والرياضي. وكانت «رواق المعري» أول رابطة أدبية أنشئت في ساو باولو تلتها «جمعية الخريجين» التي ما زالت نشطة حتى اليوم. أما الجمعية الأشهر فهي «العصبة الأندلسية» التي أُسست عام 1933 وضمت كبار أدباء المهجر وشعرائه ومن أبرزهم رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) وإلياس فرحات ورياض وشفيق معلوف وسواهم، وظلت تصدر مجلتها الشهيرة طوال عقدين من الزمن إلى أن احتجبت عام 1953. كذلك أُنشئت في عام 1965 رابطة أدبية جديدة أطلق عليها اسم «جامعة القلم» وهي تضم معظم حملة الأقلام العربية في ساو باولو وتسعى إلى التعاون مع «ندوة الأدب العربي» في الأرجنتين.
وفي عالم الرياضة يعد نادي بالستينو (النادي الفلسطيني) في تشيلي أحد أنجح الأندية الرياضية في البلاد وسبق له غير مرة أن انتزع لقب بطولة تشيبي لكرة القدم وخرج منه عدد من النجوم الكبار، كما اشتهر النادي السوري اللبناني في عدة رياضات في البرازيل، وتولى سوريون - لبنانيون رئاسة أندية برازيلية شهيرة في عالم كرة القدم بينها فلامينغو وآتلتيكو مينيرو.
وإذا تجاوزنا حدود أميركا الجنوبية إلى باقي أميركا اللاتينية (المكسيك وأميركا الوسطى وجزر الكاريبي)، نبغ المهاجرون العرب في المكسيك، ومنهم اليوم كارلوس سليم حلو أحد أغنى أغنياء العالم، والممثلة العالمية سلمى حايك. وبرز في عالم السياسة في أميركا الوسطى أنطونيو السقا (السياسي الفلسطيني الأصل) الذي فاز برئاسة الجمهورية في السلفادور بعد تغلبه على المناضل اليساري المتحدر هو الآخر من أصل فلسطيني شفيق حنظل. وفي كوبا، لمع ألفريدو جبور في الحياة السياسية أسس مع فيديل وراؤول كاسترو وآخرين المجلس العسكري الثوري عام 1956. وفي الاتجاه نفسه كان موسى حسن المتحدر من أصل فلسطيني ثاني أرفع قادة الثورة السندينية بعد الرئيس دانيال أورتيغا.

** أبرز المشاهير المتحدرين من أصل عربي في أميركا الجنوبية
* البرازيل: ميشال تامر (نائب رئيس الجمهورية الحالي)، وكارلوس غصن (رئيس مجموعة «رينو – نيسان» للسيارات)، وباولو سليم معلوف وتاسو جريصاتي وفرناندو حداد وجيلبرتو كسّاب وجيرالدو ألكمين (من كبار رجال السياسة)، وماريو زاغالو وبرانكو (من كبار نجوم كرة القدم)، ولوتشيانا خيمينز مراد ومالو مدار وسابرينا ساتو رحال (من أهل الفن والإعلام).
* الأرجنتين: كارلوس منعم (رئيس جمهورية سابق)، جوليانا عواضة (زوجة رئيس الجمهورية الجديد)، محمد علي زين الدين (أحد كبار الضباط، حاول الانقلاب على الرئيس منعم)، كلاوديو حسين وعمر أسد وإلياس بزي (نجما كرة قدم).
* كولومبيا: باولو سيزار طربيه (رئيس جمهورية)، جبرائيل طربية (أحد أكبر ساسة كولومبيا)، شاكيرا - شاكرة مبارك (النجمة الغنائية العالمية)، وجورجين الشاعر ملاط (سفيرة كولومبيا لدى لبنان)، فريد موندراغون (حارس مرمى عالمي).
* فنزويلا: طارق العيسمي (وزير الداخلية والعدل)، ضياء العنداري (سفيرة فنزويلا في سوريا)، طارق صعب (أحد أبرز ساسة فنزويلا).
* تشيلي: باولو زلاقط سعيد (عمدة سانتياغو)، ألبرتو حداد وحسين صباغ (رجال سياسة)، نيقولا مسوح (كرة مضرب)، روبرتو بشارة وارتورو صلاح (كرة قدم).
* بوليفيا: خوان لاشين (أبرز قادة نقابات العمال وصانع الرؤساء).
* الإكوادور: عبد الله بوكرم (رئيس جمهورية)، جميل معوض (رئيس جمهورية)، أسعد بوكرم (أحد أبرز الساسة في البلاد)، خوليو ثيودور سالم (رئيس جمهوري انتقالي)، هايمي النبوت (مرشح لرئاسة الجمهورية)، إيفون خويص عبد الباقي (مرشحة لرئاسة الجمهورية ووزيرة التجارة والسفيرة في واشنطن ورئيسة برلمان دول الآنديز).
* الباراغواي: ليلى رشيد (وزيرة خارجية وسفيرة في واشنطن).

** الصحافة العربية في أميركا الجنوبية
«الرقيب»: أسعد خالد ونعوم لبكي - ريو دي جانيرو 1896.
العدل: شكري جرجس أنطون - ساو باولو 1901.
المناظر: نعوم لبكي - ساو باولو 1901.
السلام: وديع شمعون - بوينس آيرس 1902.
الأفكار: سعيد أبو جمرا - ساو باولو 1903.
الزمان: ميخائيل السمرا - بوينس آيرس 1905.
أبو الهول: شكري الخوري - ساو باولو 1906.
الميزان: إسطفان وجورج غلبوني - ساو باولو 1909.
المرسل: الأب يوحنا غصن - بوينس آيرس 1913.
فتى لبنان: رشيد عطية - ساو بولو 1914.



كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.