المشهد الثقافي المصري: أنشطة متنوعة تحتاج للمراجعة

أغلبها يراكم النمطية وسياسة «ملء الفراغ»

افتتاح مهرجان الشعر العربي في الأقصر
افتتاح مهرجان الشعر العربي في الأقصر
TT

المشهد الثقافي المصري: أنشطة متنوعة تحتاج للمراجعة

افتتاح مهرجان الشعر العربي في الأقصر
افتتاح مهرجان الشعر العربي في الأقصر

هل تحتاج الثقافة المصرية إلى مراجعة ذاتها؟.. سؤال ملح يزداد ضرورةً وأهميةً في كون الذات هنا جماعية وعليها أن تضع تصوراً للهوية الثقافية، يستدعي وعياً مغايراً في التفكير وتجدداً في الرؤية يحافظ على ثقلها، ويدفعها إلى مستقبل أفضل من خلال العلاقة الخصبة بواقعها الاجتماعي والسياسي والثقافي. من هذا المنظور يمكن أن نرصد عطاء المشهد الثقافي المصري خلال عام 2024.

بوتيرة بدت أكثر تلاحقاً وتكثيفاً راكم هذا المشهد أنشطته، وكان لافتاً اتساع رقعة هذا النشاط في عدد من المدن والأقاليم في محاولة لكسر هيمنة العاصمة، أو على الأقل إقامة علاقة بناءة وفاعلة ما بين المركر والأطراف. فالعاصمة تستحوذ على الكم الأكبر من هذه الأنشطة بحكم موقعها الرسمي، ووجود الأجهزة والمؤسسات الثقافية بها، على رأسها وزارة الثقافة التي يرى كثير من الكتاب والمثقفين أنها لا تزال بعيدة بقطاعاتها المتنوعة عن همومهم الحقيقية، وأن نشاطها ينحصر -غالباً- في الحضور الشكلي، وهو حضور نمطي لا يعنى بالحوار والمشاركة الفعالة لشتى أطياف الفعل الثقافي. يضاف إلى ذلك أن العاصمة تتمتع بالنصيب الأكبر من الملتقيات والندوات الأدبية، لكن معظمها يفتقد الدور المؤثر، ويندرج تحت سياسة ملء فراغ المشهد.

وفي المقابل وبعيداً عن هذا الإطار تواصل ندوة «منتدى المستقبل»، التي تعقد كل ثلاثاء بحزب التجمع، انفتاحها على تجارب وأشكال الكتابة الجديدة، بخاصة في الرواية والشعر والقصة القصيرة... وعلى الهامش تتناثر ندوات وأمسيات أدبية أخرى تشهدها بعض المقاهي والصالونات الخاصة، لكنها تظل أنشطة عابرة، يغلب عليها طابع المناسبة والتسلية، ولا تؤصل لقيمة أو معنى أدبي يعتد به.

سمية رمضان

من الأنشطة المهمة خارج العاصمة تأتي الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي أقامه بيت الشعر بمدينة الأقصر جنوب مصر، بالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة. استمر المهرجان أربعة من 18 إلى21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وشارك فيه نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين.

كان لافتاً حرص المهرجان على تقديم مجموعة من المواهب الشعرية الشابة من الشاعرات والشعراء وإعطائهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، كما احتفى بهم في أمسية خاصة شهدت توقيع 6 دواوين شعرية جديدة صدرت لهم، كشفت عن موهبة خاصة وهم حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير «بيت الشعر» بالأقصر الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية «بيت الشعر»، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

وشهد المهرجات جلسة نقدية موسعة تحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، شكلت مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور.

وفي القاهرة كان من أبرز الأنشطة مؤتمر قصيدة النثر المصرية في دورته الثامنة التي استضافتها مؤسسة «صحيفة الدستور». شهدت هذه الدورة على مدى ثلاثة أيام مشاركة واسعة لأسماء عديدة من مختلف المشارب والأجيال الشعرية والأدبية؛ وسط تنوع لافت في الفعاليات ما بين الجلسات النقدية والمداخلات النقاشية، والاحتفاء برموز مؤثرة في سياق مغامرة قصيدة النثر وترسيخ وجودها ودورها الإبداعي الذي يتعمق يوماً بعد آخر، فضلاً عن قراءات شعرية متنوعة لمجموعة كبيرة من الشعراء والشاعرات في تظاهرة فنية لافتة حررت المشهد الشعري المصري من الرتابة والتكرار وأكسبته حيوية مفتقدة، كما أتاحت الفرصة أمام أصوات مختلفة للتعبير عن نفسها.

وتعليقاً على حصاد تلك الدورة من المؤتمر، قال رئيسه ومنسقه الشاعر عادل جلال: «إن هدف المؤتمر الرئيسي لا يزال مستمراً في كسر مركزية وهيمنة مجموعة محددة على المشهد الشعري عموماً، وقصيدة الشعر الحر في مصر. كما أن من أهدافه كذلك إتاحة الفرصة لأصوات جديدة من الشعراء للتعبير عن أنفسهم دون وصاية، وتسليط ضوء قوي على مواهب جديدة»، لافتاً إلى أن الخروج من القاهرة والانفتاح على بقية المدن والأقاليم لا يزال هدفاً مشروعاً، لكنه يحتاج إلى دعم كبير وتمويل سخي، وهو ما لا يتوفر حتى الآن.

سعد الدين حسن

وعلى صعيد الإصدارات الجديدة، كان من أبرز حفلات التوقيع حضوراً ونقاشاً حفل توقيع كتاب «مصر يا عبلة - سنوات التكوين» بمكتبة القاهرة الكبرى، الصادر عن «دار الشروق»، وهو سيرة ذاتية يكشف فيها الفنان التشكيلي محمد عبلة عن خريطة متعددة الأبعاد والملامح للواقع المصري في فترة حرجة من السبعينيات شهدت كثيراً من التحولات المفاجئة على شتى المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية، من أبرزها توغل الجماعات الإسلامية المتطرفة في نسيج الحياة، ملقيةً بظلالها الكئيبة على المعنى والقيمة للفن والجمال ودورهما في بناء المجتمع... بالتوازي مع هذه التحولات يحفر عبلة سيرة خاصة للحياة والتشبث بإرادة الأمل في مواجهة الصعاب الجمَّة التي واجهها من أجل بلورة حلمه وتحقيقه بصورة فنية راقية على أرض الواقع.

ويأتي حفل التوقيع الثاني لكتاب «رحم العالم... أمومة عابرة للحدود» للكاتبة والناقدة شيرين أبو النجا الصادر عن مكتبة «تنمية». أقيم الحفل بمبنى «قنصلية» وشارك في مناقشة الكتاب الروائي محمد عبد النبي والشاعرة سارة عابدين، وأدارته الكاتبة سحر الموجي مؤكدة في بداية اللقاء تأثرها الشخصي بالكتاب واستمتاعها بقراءته، لأنه يطرح أسئلة مهمة، على رأسها السؤال البحثي، والمنهجية التي يتبعها في خلخلة مقدسات لها علاقة بتصورات الأمومة، كما أن المنهج النظري به قدر من التحدي لنظريات قائمة وراسخة.

وفي سياق الصحافة الأدبية شكلت مجلة «حرف» الإلكترونية التي تصدر عن «صحيفة الدستور» عودة للصحافة الثقافية الجادة، والكشف عن المهمش والمسكوت عنه في طوايا الواقع الثقافي، وطرح أفكار ورؤى على طاولة الحوار تمس هذا الواقع بعمق. المجلة يقود هيئة تحريرها الشاعر والكاتب الصحافي عبد الوهاب داود.

وعلى المستوى الفني استحوذ الفن التشكيلي على المساحة الأكبر في خريطة هذا المشهد، من حيث تعدد قاعات العرض الرسمية والخاصة، بالإضافة إلى الصالونات والمعارض الفردية العامة التي تقام بشكل ثابت سنوياً، ومنها المعرض العام، وصالون الشباب. وكان لافتاً المعرض الاستيعادي للفنان الراحل مصطفى الفقي الذي افتتحه أخيراً بقاعة «أفق» الدكتور أحمد هنو وزير الثقافة. ويضم مجموعة مميزة من أعمال الفنان الراحل، تجسد مسيرته الفنية الطويلة، وإسهامه البارزة في الفن التشكيلي ‏المصري. كما أعلن رئيس قطاع الفنون التشكيلية، وليد قانوش، عن عودة «ترينالي مصر الدولي للجرافيك»، في دورته السادسة بعد انقطاع دام لمدة 18 عاماً، في أبريل (تشرين الثاني) 2025. لكن يظل السؤال حائراً عن عدم عودة اثنين من أهم ركائز الحركة التشكيلة في مصر، هما بينالي القاهرة الدولي الذي استعاد عافيته عبر دورته الثالثة عشرة في مايو (أيار) 2019 بعد توقف دام 8 سنوات، وبينالي الإسكندرية، وهو البينالي الثاني الأقدم في العالم بعد بينالي فينيسيا، ولم يشهد منذ دورته في 26 يونيو (حزيران) 2014 أي دورة أخرى.

تبقى من الأشياء المشرقة في هذا المشهد إعلان «جائزة إدوارد الخراط للإبداع الأدبي» في دورتها الأولى. وفاز بها الكاتب الشاب أحمد عبد المنعم رمضان عن مجموعته القصصية «قطط تعوي وكلاب تموء» الصادرة عن «دار الشروق»، وتدور في عالم سريالي يتقاسم فيه البشر والحيوانات الأدوار في اللعب مع واقعهم المكاني والمتخيل.

كان للفقد نصيب أيضاً في هذا المشهد برحيل كوكبة من الشعراء والكتاب منهم الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة صاحب ديوان «قلبي وغازلة الثوب الأزرق»، والشاعر محمد الشحات، صاحب ديوان «ترنيمات شاعر قبل الرحيل»، والكاتبة الروائية سمية رمضان صاحبة الرواية الجميلة «أوراق النرجس»، والكاتب سعد الدين حسن صاحب المجموعة القصصية المتميزة «احترس من القاهرة»، والشاعر محمد خميس، صحب ديوان «حروف شاردة»... سلاماً عليهم، عاشوا الحياة بمحبة مخلصة للكتابة وغادروها بمحبة تبقى.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «البيدوفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي