خاض الرئيس المنتخب، دونالد ترمب، حملته الانتخابية على أساس وعد بأن سياساته سوف تعمل على خفض تكاليف الاقتراض المرتفعة وتخفيف العبء المالي على الأسر الأميركية.
لكن ماذا لو، كما يتوقع العديد من الاقتصاديين، بقيت أسعار الفائدة مرتفعة، فوق مستويات ما قبل الوباء؟
قد يوجه ترمب أصابع الاتهام إلى «الاحتياطي الفيدرالي»، وخصوصاً إلى رئيسه جيروم باول، الذي عينه ترمب بنفسه لقيادة «الفيدرالي». خلال فترة رئاسته الأولى، هاجم ترمب مراراً وبشكل علني «الفيدرالي» تحت قيادة باول، متهماً إياه بالحفاظ على أسعار فائدة مرتفعة للغاية. وقد أثار هجوم ترمب على الاحتياطي قلقاً واسعاً بشأن التدخل السياسي في صنع السياسات الفيدرالية، وفق وكالة «أسوشييتد برس».
ويوم الأربعاء، أكد باول على أهمية استقلالية الاحتياطي الفيدرالي، قائلاً: «ذلك يمنحنا القدرة على اتخاذ القرارات من أجل مصلحة جميع الأميركيين في جميع الأوقات، وليس من أجل أي حزب سياسي أو نتيجة سياسية معينة».
ومن المرجح أن تكون هناك صدامات سياسية خلال السنوات الأربع المقبلة. وتشكل مقترحات ترمب بخفض الضرائب وفرض رسوم جمركية مرتفعة على كل السلع، وصفة لارتفاع التضخم في اقتصاد يعمل بكامل طاقته تقريباً. وإذا تسارع التضخم مرة أخرى، فسوف يضطر «الفيدرالي» إلى إبقاء أسعار الفائدة مرتفعة.
لماذا كل هذا القلق من صدام ترمب مع باول؟
لأن باول لن يخفّض أسعار الفائدة بالقدر الذي يريده ترمب. وحتى لو خفض باول سعر الفائدة القياسي لبنك الاحتياطي الفيدرالي، فإن سياسات ترمب نفسها قد تبقي على تكاليف الاقتراض الأخرى، مثل أسعار الرهن العقاري، مرتفعة.
كما أن الرسوم الجمركية المرتفعة التي تعهد ترمب بفرضها قد تؤدي إلى تفاقم التضخم. وإذا أدت التخفيضات الضريبية على أشياء مثل الإكراميات والعمل الإضافي -وهو وعد آخر من وعود ترمب- إلى تحفيز النمو الاقتصادي، فقد يؤدي ذلك إلى زيادة الضغوط التضخمية.
وقال كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، أوليفييه بلانشارد، مؤخراً: «إن خطر الصراع بين إدارة ترمب و(الاحتياطي الفيدرالي) مرتفع جداً». إذا رفع الفيدرالي أسعار الفائدة، «فسيقف في طريق ما تريده إدارة ترمب».
هل يخفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة حقاً؟
نعم، ولكن مع تحسن الاقتصاد بشكل أقوى من المتوقع، فإن صناع السياسات في «الاحتياطي الفيدرالي» قد يخفضون أسعار الفائدة بضع مرات أخرى، أقل مما توقعوه قبل شهر أو شهرين فقط.
وقد لا تؤدي تلك التخفيضات في الفائدة إلى تقليل تكاليف الاقتراض بالنسبة للمستهلكين والشركات بشكل كبير. ويمكن لمعدل الفائدة قصير الأجل من «الاحتياطي الفيدرالي» أن يؤثر على أسعار الفائدة لبطاقات الائتمان، والشركات الصغيرة، وبعض القروض الأخرى، ولكن ليس له سيطرة مباشرة على أسعار الفائدة طويلة الأجل. وتشمل هذه العوائد على سندات الخزانة لأجل عشر سنوات، التي تؤثر على أسعار الرهن العقاري. وتتشكل عوائد سندات الخزانة لمدة عشر سنوات بناءً على توقعات المستثمرين بشأن التضخم المستقبلي، والنمو الاقتصادي، وأسعار الفائدة، فضلاً عن العرض والطلب على سندات الخزانة.
وقد حدث مثال على ذلك هذا العام، حيث انخفض العائد على سندات الخزانة لأجل عشر سنوات في الصيف بانتظار خفض الفائدة من «الاحتياطي الفيدرالي». ومع ذلك، بمجرد حدوث أول خفض للفائدة في 18 سبتمبر (أيلول)، لم تنخفض أسعار الفائدة طويلة الأجل، بل بدأت ترتفع مرة أخرى جزئياً في انتظار نمو اقتصادي أسرع.
كما اقترح ترمب مجموعة متنوعة من التخفيضات الضريبية التي قد تزيد العجز. وقد يتعين بعد ذلك رفع أسعار سندات الخزانة لجذب ما يكفي من المستثمرين لشراء الدين الجديد.
من جانبه، قال الخبير الاقتصادي كينت سميترز: «بصراحة، لا أعتقد أن بنك الاحتياطي الفيدرالي يملك الكثير من السيطرة على سعر الفائدة لمدة 10 سنوات، وهو ما يعد الأكثر أهمية بالنسبة للرهن العقاري. سيلعب العجز دوراً أكبر بكثير في هذا الصدد».
لكن إذا تصادم ترمب مع باول، فما العواقب؟
في الواقع، لا تشكل الانتقادات العرضية أو النادرة لرئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي مشكلة كبيرة للاقتصاد طالما أن البنك المركزي يواصل اتخاذ قراراته استناداً إلى ما يراه مناسباً.
لكن الهجمات المستمرة قد تؤدي إلى تقويض استقلالية «الفيدرالي»، وهي مسألة حيوية للحفاظ على السيطرة على التضخم. وللتعامل مع التضخم، غالباً ما يتعين على البنك المركزي اتخاذ خطوات غير شعبية، مثل رفع أسعار الفائدة للحد من الاقتراض والإنفاق.
ولطالما سعى السياسيون إلى الضغط على البنوك المركزية لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة لدعم الاقتصاد وسوق العمل، خصوصاً في الفترة التي تسبق الانتخابات. وقد أظهرت الدراسات أن الدول التي تتمتع ببنوك مركزية مستقلة عادة ما تعاني من مستويات تضخم منخفضة.
حتى إذا لم يفرض ترمب قرارات مباشرة على «الفيدرالي»، فإن انتقاداته المستمرة قد تخلق مشاكل. فإذا فقدت الأسواق والاقتصاديون وقادة الأعمال الثقة في استقلالية «الفيدرالي»، واعتقدوا أنه يخضع لضغوط سياسية من الرئيس، فإن ذلك قد يضعف قدرة البنك على التحكم في التضخم.
وعندما يتوقع المستهلكون والشركات التضخم المرتفع، فإنهم يميلون إلى التصرف بطرق قد تسهم في ارتفاع الأسعار، مثل تسريع مشترياتهم قبل أن ترتفع الأسعار بشكل أكبر، أو رفع أسعارهم الخاصة لتغطية التكاليف المتزايدة.
وقال المستشار العام السابق في بنك الاحتياطي الفيدرالي، سكوت ألفاريز: «تحتاج الأسواق إلى الثقة بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي يستجيب للبيانات، وليس للضغوط السياسية».
هل يستطيع ترمب إقالة باول؟
يمكن لترمب المحاولة، لكن ذلك من المرجح أن يؤدي إلى معركة قانونية طويلة قد تنتهي في المحكمة العليا. ففي مؤتمر صحافي في نوفمبر (تشرين الثاني)، أوضح باول أنه يعتقد أن الرئيس ليست لديه السلطة القانونية لاتخاذ مثل هذه الخطوة.
ويعتقد معظم الخبراء أن باول سينتصر في المحاكم. ومن وجهة نظر إدارة ترمب، قد لا تكون مثل هذه المعركة جديرة بالاهتمام، خصوصاً أن فترة ولاية باول تنتهي في مايو (أيار) 2026، ما يتيح للبيت الأبيض تعيين رئيس جديد.
ومن المحتمل أيضاً أن تشهد الأسواق المالية انهياراً إذا حاول ترمب اتخاذ هذه الخطوة الجريئة. قد ترتفع عوائد السندات، مما يؤدي إلى زيادة أسعار الرهن العقاري وتكاليف الاقتراض الأخرى.
وقد تتفاعل الأسواق بشكل سلبي أيضاً إذا شعر المستثمرون أن ترمب قد يعين شخصاً موالياً له رئيساً جديداً لبنك الاحتياطي الفيدرالي في 2026.
هل سبق أن انتقد رؤساء آخرون بنك الاحتياطي الفيدرالي؟
نعم، وفي بعض الحالات الحادة، أسهم ذلك في تعزيز التضخم المستمر. على وجه الخصوص، ضغط الرئيس ريتشارد نيكسون على رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، آرثر بيرنز، لخفض أسعار الفائدة في عام 1971 في إطار سعيه لإعادة انتخابه في العام التالي، وهو ما استجاب له «الفيدرالي». ويلقي الخبراء الاقتصاديون باللوم على فشل بيرنز في الحفاظ على أسعار فائدة مرتفعة بما يكفي، في زيادة التضخم المستمر في السبعينات وأوائل الثمانينات.
وقال الخبير الاقتصادي في جامعة «ماريلاند»، توماس دريكسل، إنه عندما يتدخل الرؤساء في قرارات أسعار الفائدة التي يتخذها «الفيدرالي»، «فإن ذلك يؤدي إلى زيادة الأسعار بشكل ثابت ويزيد من التوقعات، وهذا يقلقني لأنه يعني أن التضخم قد يصبح متجذراً تماماً».
ومنذ منتصف الثمانينات، وباستثناء فترة ترمب في ولايته الأولى، امتنع الرؤساء عن توجيه انتقادات علنية لـ«الفيدرالي».
وقال أستاذ التنظيم المالي في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا، بيتر كونتي براون: «من المدهش كيف أن التلاعب لأغراض حزبية في هذا الجهاز السياسي كان نادراً للغاية»، وأضاف: «إنه حقاً انتصار للحكم الأميركي».
هل تتمتع دول أخرى ببنوك مركزية مستقلة؟
نعم، معظم الاقتصادات المتقدمة تمتلك بنوكاً مركزية مستقلة. لكن في بعض الحالات الأخيرة، كما في تركيا وجنوب أفريقيا، سعت الحكومات إلى فرض سياسات على البنوك المركزية بخصوص أسعار الفائدة. وعادة ما يؤدي ذلك إلى زيادة التضخم.
على سبيل المثال، مارس الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، ضغوطاً على البنك المركزي لخفض أسعار الفائدة رغم ارتفاع الأسعار، بل وأقال ثلاثة محافظين للبنك المركزي رفضوا الامتثال. ورداً على ذلك، ارتفع التضخم إلى 72 في المائة عام 2022.
لكن في العام الماضي، تراجع إردوغان عن موقفه وأتاح للبنك المركزي رفع أسعار الفائدة.