قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما ركز على الأهوال والحروب وأهمل جوانب أخرى

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.


مقالات ذات صلة

صدور المجلد السابع من عشرية الفلسفة الفرنسية المعاصرة

ثقافة وفنون صدور المجلد السابع من عشرية الفلسفة الفرنسية المعاصرة

صدور المجلد السابع من عشرية الفلسفة الفرنسية المعاصرة

صدر المجلّد السابع من عشريّة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة «الفلسفات المسيحيّة» في دار «صوفيا» بالكويت

«الشرق الأوسط» (الكويت)
يوميات الشرق الحنين إلى تلك الأيام (مجلس مدينة ليدز)

كتب أطفال عمرها 200 عام معروضة في متحف بإنجلترا

يعرض معرض «ستوري تايم» داخل متحف «آبي هاوس» في كيركستال بإنجلترا، حكايات من أوائل القرن الـ19.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون رزان المغربي: معيشتي في الغرب وفرت لي مساحة للتأمل

رزان المغربي: معيشتي في الغرب وفرت لي مساحة للتأمل

تعيد الكاتبة الليبية المقيمة في هولندا رزان نعيم المغربي تناول العلاقة بين الشرق والغرب من منظور مختلف عبر روايتها اللافتة الصادرة أخيراً «الرسام الإنجليزي»،

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق الكتابة شكَّلت عزاءه (سيرا أرسلانيان)

مذكرات الصحافي هاروتيون زينيان إلى الضوء لإنصاف الأرمن

تُعجَب سيرا أرسلانيان بمثابرة جدِّها وإصراره، تراه اختزالاً لروح أرمينيا المتفوّقة على موتها، فلمّا عَبَر درب الاضطهاد ورأى أصناف المحو، حفظت ذاكرته المشهد.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق خطة شاملة بدأت وتمتد لـ5 سنوات تعنى بتطوير حالة المكتبات العامة في السعودية (واس)

مبادرة سعودية لرصد محتويات المكتبات العامة ورقمنتها... وتفعيل دورها الثقافي

بدأت «هيئة المكتبات» السعودية مشروعاً لإحصاء محتويات أكثر من 40 مكتبة عامة في مختلف مدن ومناطق المملكة؛ لجرد وفرز محتوياتها من الكتب ومصادر المعلومات.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج
TT

أنسي الحاج... الصمت الناطق

أنسي الحاج
أنسي الحاج

غادرنا أنسي الحاج قبل عقد ونيف، ولا يزال مريدوه ومحبوه يكتبون عنه ويقيمون له الاحتفاليات ويعيدون قراءة شعره ومساره وتأثيره على الحركة الشعرية. والكتاب الذي أصدره الشاعر إسكندر حبش عن «دار نلسن» بعنوان «نفسي ليست صحراء» يأتي في هذا السياق الاستعادي لشاعر «لن». فهو يتضمن مقابلتين طويلتين، كان قد أجراهما حبش مع أنسي الحاج، ونُشرتا في جريدة «السفير» التي توقفت عن الصدور، وأصبحت من الماضي، كما أنه يُلقي الضوء على بعض المعلومات الخاصة عن الشاعر، وطريقة تعاطيه مع المقابلات الصحافية. وفي الكتاب مقالتان، إحداهما عن أعمال أنسي الحاج، بعد أن أعادت «دار الجديد»، نشر كلّ كتبه التي سبقت «الوليمة»، وأخرى عن اللقاء الذي نظمته «دار نلسن» واجتمع له من تبقى من شعراء مجلة «شعر» حينها. وفي الختام «التحية» الوداعية، التي نشرها حبش غداة رحيل الشاعر.

غلاف الكتاب

مقابلتان ومقالتان

الحواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، ولم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً. حبش أراد أن يبقى أميناً لرغبة أنسي الحاج، الذي حرص كعاداته في كل مقابلاته، على أن يقرأ النص قبل نشره، فيحذف ويضيف ويغيِّر وقد يختصر. ورغم أن حبش راودته نفسه أن يعود إلى تسجيلاته وينقذ ما حُذف منها فإنه يقول: خلصت إلى «أنني لن أتصرف إلا وفق رغبته (التي وافقت عليها مسبقاً قبل إجراء الحوارين)، من حيث نشر ما أراد هو أن يقوله، ومن حيث إيصال ما كان يرغب في إيصاله فقط».

يشرح الكاتب في مقدمته ظروف تعارفه بأنسى الحاج، وأن لقاءات عدة جمعت بينهما، وفي جعبته كثير مما يمكن أن يكتبه عن شخص الشاعر وما عرفه عنه، إلا أنه يترك البوح بما يعرف، ربما لمرات أخرى.

الصمت عن الشعر

قبل الحرب الأهلية (1975) كان أنسي الحاج كاتباً مُكْثراً؛ يكتب مقالاً أسبوعياً، ونشر خمس مجموعات، في فترة زمنية قصيرة نسبياً، لكنه دخل بعد ذلك في صمت طويل، استمر 17 عاماً، وانتهى بإصدار «خواتم» عام 1991، ليشكل «حدثاً استثنائياً». والفضل في هذه العودة التي لقيت احتفاء في الوسط الثقافي، يرجع إلى رياض الريس الذي أقنع أنسي بالكتابة في مجلته «الناقد». وما «خواتم» إلا حصيلة ما كتبه أنسي خلال هذه الفترة.

كان صمتاً عن النشر إذن، أكثر مما هو غياب عن الكتابة، علّله الشاعر بالحرب الأهلية التي طرحت عليه سؤالاً كبيراً حول جدوى الكتابة، في ظلّ القتل والدمار اللذين كانا يلفّان لبنان.

منذ عام 1975 لم يجمع أنسي الحاج قصائده في كتاب. صمتٌ عن الشعر، لكنه لم يكن متوقفاً عن الكتابة. «الشاعر كان لا يزال شاعراً، والعبارة لم تختلف عن العبارة بكل ما تحمله من حقد وحب، وقساوة وحنوٍّ، وصراخ وسكينة. عبارة مُشرّعة على انفجارات داخلية، يعرف الشاعر متى يدعها تَنعَم بالغفران».

من لقاءات مجلة شعر

صدمة الحرب

يشرح الشاعر: «لم أسكت لأنني ضائع، بل لأنني اضطُررت إلى إلهاء نفسي باختراعات كثيرة لأغيبَ عن وعي هذه الحالة التي كنت فيها. كان هناك موت. كان هناك استمرار للصَّلْب ما قبل الموت. لو كان موتاً لارتحت. كنت ميتاً وفي الوقت نفسه لم أرتح».

شكَّلت الحرب صدمةً كبرى للشاعر الصاعد كالسهم، يرى أنها دمَّرت أوهامه وأحلامه «لأن الحرب عكس الحلم». ثم كيف لا يتغير وتتبدل كتابته والحروب أظهرت أن الأحداث هي عملية تزوير ضخمة؟ لا يريد المشاركة فيها، لأنها كذبة كبيرة. «حرب الخليج؛ ألم تكن كذبة عالمية لضرب العراق والكويت معاً؟ ليس لي أمام هذا التاريخ إلا وقفة احتقار».

وهو ما يفسّر، ربما، أن نصوص «خواتم» جاءت مختلفة عن سابقاتها. فبعد الشعر الذي كتبه أنسي في المرحلة الأولى، جاءت المقالة الصحافية، ثم في مرحلة ثالثة، حسب حبش، كان هذا النمط الكتابي الذي رافقه حتى النهاية.

«خواتم» التفكير في الوجود

ويصف حبش هذه الكتابة بأنها عبارة عن «شذرات تملك في قوة اختصارها طاقةً واسعةً، لا على الحلم فقط بل على قول الذي لا يُقال؛ كأن كلّ جملة فيها تأتي من اختصارات كتب شتى، من تجارب متراكمة، لتصل مباشرةً إلى غاية القول». هكذا يبدو أن كلّ ما كتبه أنسي الحاج، في «خواتم»، «كان هدفه إعادة التفكير في هذا الوجود - الحياة، ليعيد صوغه وفق رؤى، تراكَم فيها العمر، والخبرة والتجربة الطويلة».

هذا يشرحه أنسي نفسه معتبراً أنه لا يقوم بمحاولة كتابية جديدة في الشكل فقط: «إن دوافعي النفسية هي التي تُملي عليَّ تغيير نمط حياتي... أحبّ أن أجدد نفسي دائماً، وليس ذلك في سبيل القارئ، وإنما من أجل ذاتي، لأنني أملّ الأشياء التي كتبتها».

أين ذهبت الكتابة المجنونة؟

لكنه لم يكن سعيداً بهذا النمط الثالث الذي يتحدث عنه حبش، ويرى أن أسلوبه تغير كثيراً ولم تعد لديه الحماسة بنفس زخمها. يستذكر الكتابات الأولى بشيء من الحزن: «كانت كتابتي مجنونة، والآن لم تعد كذلك. كتاباتي الآن فيها كثير من الألم. مليئة بالجرح والخوف الشديد. خوفي من الوجود. كنا نقف على ألغام الحياة ولم نكن نعرف ذلك... حين أكتب اليوم، أعمل جاهداً حتى أستعيد تلك اللحظات التي كنت فيها قبلاً...».

لافتٌ أيضاً أن يُنكر كل ما قيل عنه من أنه شاعر «متمرد»، «مارق»، حين روَّج لقصيدة النثر: «لمّا كتبت قصيدة النثر، لم يكن همي التمرد أو التغيير، كنت أرغب في أن أكون أميناً لنفسي لا أكثر ولا أقل، بدليل أنه حين اقتضت نفسي السكوت سكتُّ ولم أكتب. فالصمت ليس لديه أي صورة كتابية». لا، بل ينفي أنه كان يلاحق التيارات الكتابية في العالم، أو يتأثر بها كما كتب تكراراً. أكثر من ذلك، في اعتراف جريء للغاية، يبوح بأنه قرأ كثيراً في فترة الصمت صحيح. لكن «أعترف... لم أقرأ، في الماضي، إلا القليل جداً من الشعر الذي كنا نتحدث عنه كل الوقت ونتجاذب أطراف النقاش والتخاصم حوله مع النقاد والشعراء». عمَّ كان يدور النقاش إذن؟ وهل روادنا كانوا يتحدثون عمّا لا يعلمون؟

الأب الشرعي الوحيد

وحين يُسأل إن كان يعجبه أن يُدعى «الأب الشرعي الوحيد» لقصيدة النثر، منذ ظهور ديوان «لن»، يجيب بأنه لا يعتقد أن ما يُنسَب إليه صحيح، ومع ذلك «شيء واحد يعجبني... هو أنه تبنٍّ لكائن لم يكن ولم يصبح وأرجو ألا يصير، كائن (شرعي) في معنى الارتباط بمؤسسة الواقع والانتماء إلى عالم المصنفات المحنطة». وذلك لأنه يريد هذه القصيدة كائناً متمرداً، «يستمد وجوده من محض الشّعر، من محض التجربة، بلا مرجع غير ذاته وذات قارئه - الذات المتواجهة مع شياطينها».

عام 1993، أي بعد عامين من الحوار الأول، يصدر «الوليمة» الذي هو عودة إلى الشعر وينابيعه. «هو هنا، يعود إلى العين، إلى الأحلام، إلى الوعي، إلى اللاوعي، أي يعود إلى كل ما شكَّل غاباته وكهوفه»، فيما «خواتم» كان نصوصاً تقترب من الشعر، وتلامس الحكمة والتأمل.

شاعر غير محترف

بهذه المناسبة يطلب حبش من أنسي لقاءً صحافياً ثانياً، فيسارع إلى الموافقة. وكان قد عاد وقتها إلى العمل في جريدة «النهار»، لا لقناعة في نفسه بل لأنه لا يجيد فعل أي عمل آخر، كما كان يقول.

يحاول أنسي أن يشرح أنه ليس محترف كتابة شعر، بدليل أن مسافة زمنية كانت تفصل بين المجموعة والمجموعة، كما بين القصيدة والقصيدة. وها هو يعود من جديد: «حتى لا أظل أسمع سؤال: لماذا توقفت عن الكتابة؟ ولكن الآن، إذا ظل يلاحقني سؤال: لماذا عُدْتَ إلى الكتابة؟ فقد يكون الحل هو التوقف مجدداً».

وإذا كان أنسي يبدو كأنه يحب فك ارتباطه بكل ما حوله ولا يُبدي حماسة للدفاع عن شيء، فهو يدافع عن الشّعر العربي الحديث، ويرى أنه «هو الذي خلق اللغة التي يحاول بها إنسان العالم العربي اليوم أن يخرج من القبور ويدخل في صميم الحياة».

وهي لغة تصلح للوصول إلى الذات، وليست بالضرورة لإرضاء الآخر: «ما أكتبه، أكتبه ليُرضيني أولاً وأخيراً. وإذا أرضاني، فلماذا لا يُرضي سواي؟ أقصد قارئاً يشبهني، أو يكرهني، أو يحبني أكثر مما أحبه. في شِعري لا يعنيني قارئ الجريدة، ولا الأديب (العمومي)، ولا مثقف (الاختصاص)».

وهو إذ يبدو متبرماً، إلا أنه يرفض اليأس، يقول: «نفسي ليست صحراء... والأمل يومض ما دمت قادراً على الألم وعلى الحب».

حواران نُشرا في الكتاب، كما في «السفير»، لم يخضعا لأي تعديلات، رغم أن التسجيل الصوتي لا يزال موجوداً

بوح حول مجلة «شعر»

في الجزء المخصص للقاء مجلة «شعر»، يوم اجتمع مَن تبقى من شعرائها في بيروت، بمناسبة إعادة إصدار العدد الأول، نجد كل منهم يغمز من قناة الآخر. وهو ما لا يشبه في شيء الصورة الرومانسية التي تشكلت حول هؤلاء الرواد، ومجلة «شعر» تحديداً. أدونيس يقول: «أشك في أن يكون أحدنا كان يحب الآخر». أما أنسي الحاج فيقيم مراجعة صادمة: «لم يكن عندي الدور الكبير في المجلة، وأنا نادم على الجانب الذي ساهمت فيه. لذلك أشعر اليوم بفرح المغلوب على أمره، هو فرح كاذب... ربما سيأتي وقت يتخطانا فيه الجميع. هذا إن لم يكن قد تم تخطّينا». رياض الريس ليس أقل صراحةً، إذ يرى أنه كان «كومبارساً في المجلة، وسط حفنة من الشعراء، كانوا يجلسون في البلكون، أما أنا فكنت أجلس في الصالة». معترفاً بأن ما ربطه بالمجلة هو يوسف الخال.

يوسف الخال هو جامع الشمل، كما قال فؤاد رفقة، معلناً في خبر غير منتظر، أن قبره لم يعد موجوداً. أما أدونيس فقد وجد أن شخصية يوسف الخال «كانت شخصية مختلفاً عليها شعرياً فيما بيننا، وهو لم يكن رائياً شعرياً متميزاً فحسب بل كان رائياً ثقافياً أيضاً». أما شوقي أبي شقرا الذي كان يعد نفسه سبق الجميع إلى كتابة قصيدة النثر، فقد استعاد في كلمته روح مجلة «شعر» التي كانت تجد امتدادها مع روح العصر وروح يوسف الخال. هؤلاء الشعراء في غالبيتهم رحلوا، لكنهم في ذاك اللقاء يبدو أنهم نعوا مجلتهم، كأنهم يتبرأون منها.

كتاب جديد عن أنسي الحاج، يرمي حجراً في مياه الحداثة الشعرية وركودها الذي طال.