اقتصاد روسيا في الحرب... نموّ يخفي اتجاهات مقلقة؟

متنزهون روس في حديقة عامة بموسكو (إ.ب.أ)
متنزهون روس في حديقة عامة بموسكو (إ.ب.أ)
TT

اقتصاد روسيا في الحرب... نموّ يخفي اتجاهات مقلقة؟

متنزهون روس في حديقة عامة بموسكو (إ.ب.أ)
متنزهون روس في حديقة عامة بموسكو (إ.ب.أ)

فيما تتجه الحرب الروسية – الأوكرانية إلى إتمام سنتها الثالثة بخطى «واثقة»، وتقبع يومياتها في الظل نظراً إلى«توهّج» حربَي غزة ولبنان، يسجّل مراقبون تطورات اقتصادية مقلقة في روسيا تكاد تفوق في أهميتها المكاسب الميدانية التي تحققها موسكو منذ أشهر في الشرق الأوكراني.

يقول الاقتصادي الروسي المقيم في الولايات المتحدة قسطنطين سونين، إن الأداء الجيّد للاقتصاد الروسي في الأشهر الأخيرة لا يلغي واقع أن الحرب في أوكرانيا «تستتبع كلفة اقتصادية باهظة». ويرى أن الروس كانوا ليعيشون حياة أفضل لو لم تحصل الحرب، وأن الآثار الاقتصادية لما بدأ في 22 فبراير (شباط) 2022 ستمتد إلى أجيال قادمة.

في السياق نفسه، يسجّل الخبير الاقتصادي السويدي أنديرز آسلوند الذي عمل سنوات عدة مع الحكومتين الروسية والأوكرانية في عملية الإصلاح الاقتصادي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وزوال الاقتصاد الشيوعي، أن «العقبات المالية والتكنولوجية والديموغرافية التي تواجه الاقتصاد الروسي أشد وطأة مما يعتقده كثيرون. وعلى النقيض مما يرغب الكرملين في إقناع الآخرين به، فإن الوقت ليس في مصلحة روسيا».

مصفاة نفطية روسية في توابسي على ساحل البحر الأسود (رويترز)

*وقائع النمو

تحتل روسيا المركز الحادي عشر عالمياً في قائمة الناتج المحلي الإجمالي برقم 2.3 تريليون دولار أميركي وفق أرقام 2023، بما يعني أن حصة الفرد من الناتج هي أكثر بقليل من 15 ألف دولار سنوياً.

بلغة الأرقام، يبدو الاقتصاد الروسي راهناً بخير، بل إنه ينمو. وفي يونيو (حزيران) الماضي توقع صندوق النقد الدولي أن تسجل روسيا نمواً اقتصادياً بنسبة 3.2% هذا العام. وهذه النسبة تفوق مثيلاتها في أي من الاقتصادات المتقدمة في العالم، ومنها الولايات المتحدة (2.7%)، وبريطانيا (0.5%)، وألمانيا (0.2%)، وفرنسا (0.7%). وبالتالي، يبدو أن العقوبات التي انهالت على موسكو من جهات كثيرة لم تفلح في إحداث التاثير المطلوب.

كذلك انخفض الدين الخارجي الروسي من 729 مليار دولار في نهاية عام 2013 إلى 303 مليارات دولار فقط في نهاية مارس (آذار) 2024، وبلغ الدين العام 299 مليار دولار أي 14% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، بينما هو في فرنسا مثلاً 3.2 تريليون دولار اي أكثر من 110% من الناتج.

ما هو سرّ النمو الاقتصادي لبلاد تخوض حرباً واسعة ومكلفة؟

يفسّر خبراء ذلك بارتفاع الطلب المحلي مدفوعاً بالإنفاق الحكومي الذي يشمل الإنفاق العسكري الضخم (صنع أسلحة وذخائر وخطة لرفع عديد الجيش إلى 1.5 مليون) والائتمان وتراجع البطالة وارتفاع الأجور.

دبابة روسية مشتعلة في منطقة الدونباس (رويترز)

*أرقام مقلقة

على الجانب الآخر، لا يمكن التغاضي عن ارتفاع الضخم الذي يبلغ حالياً 9.1%، والذي اضطر المصرف المركزي لإبقاء معدّل الفائدة عند 19% سعياً للجمه. وهنا يقول بعض المراقبين الغربيين إن الرقمين غير صحيحين، وإن ثمة تلاعباً منهجياً لتحويل رقم التضخم إلى دافع للنمو ودليل على ارتفاع الاستهلاك الناجم عن تحسن القوة الشرائية للفرد.

يرى أنديرز آسلوند أن العقوبات الدولية المفروضة على روسيا موجعة خلافاً لما يزعمه الكرملين، ويقول: «وجهة نظري الشخصية هي أن نظام العقوبات الحالي يقتطع 2 إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، مما يجعل الاقتصاد الروسي في حالة ركود» خلافاً للخطاب الرسمي. ويضيف أن «الرئيس الروسي فلاديمير بوتن وأعوانه يتباهون بأن العقوبات تزيد قوة روسيا، لكنهم يدعون بلا انقطاع إلى رفع كل القيود. وفي الوقت نفسه، يزعم كثيرون أن العقوبات لم يكن لها تأثير يذكر لأنها خجولة للغاية».

ويزيد أصحاب هذا التوجّه أن انخفاض الدين الخارجي لا يعود إلى عافية الاقتصاد الروسي، بل إلى العقوبات المتراكمة منذ العام 2014 منذ ضمّ موسكو لشبه جزيرة القرم واندلاع الاضطرابات المسلحة في الدونباس بشرق أوكرانيا، وبالتالي عدم قدرة روسيا على الاقتراض من الخارج.

أما تراجع البطالة، فيمكن تفسيره بازدياد الإنفاق الحكومي وخروج الكثير من المهارات من سوق العمل مع الهجرة الواسعة هرباً من أتون الحرب. وهذا - إضافة إلى ضحايا الحرب من العسكريين والمدنيين – جعل الطلب على العمالة أعلى من العرض، فانخفضت مستويات البطالة إلى 2.4%، وارتفعت الأجور بما متوسطه 8%.

ليس سراً في أي حال، أن الاقتصاد الروسي نهض في عهد بوتين، أو عهوده، بفضل النفط ثم الغاز، بينما لم تنهض القطاعات الاقتصادية الأخرى بما فيه الكفاية. ووصف السيناتور الأميركي (الراحل) جون ماكين روسيا ذات يوم بأنها «محطة وقود متنكرة في هيئة دولة».

حالياً لم تتغير المعادلة رغم العقوبات والقيود والتراجع الكبير لصادرات الغاز الطبيعي الروسي إلى الاتحاد الأوروبي. ولعل القطاعات الوحيدة في الاقتصاد الروسي التي تشهد نمواً هي القطاع العسكري والبنية التحتية المرتبطة به، علماً أن الآلية هنا هي أن الدولة تشتري منتجات من الشركات التي تملكها الدولة (!). أما بقية الاقتصاد فلا يزال راكداً في أفضل الأحوال.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (د.ب.أ)

*مستقبل قاتم؟

يلفت قسطنطين سونين إلى أن كل الأرقام الرسمية لا تعكس الصعاب التي يواجهها الروس في الحفاظ على مستوى معيشتهم، خصوصاً في ظل عدم القدرة على الاستيراد من الخارج بسبب العقوبات والقيود وضعف الروبل (الدولار الأميركي يساوي 95.8 روبل). ويحذّر من أن وضع يد الدولة على قطاعات الاقتصاد لمنع شركات خاصة مهمة من إقفال أبوابها أو الانتقال إلى بلدان أخرى هو أمر خطير للغاية، لأنه يشكل نوعاً من التآكل الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى فشل الدول. فالحرب ستنتهي يوماً، وستعود روسيا إلى ساحة التجارة العالمية، فهل يكون قطاعها الخاص مستعداً وقادراً على خوض «المواجهة»؟

... قال الجنرال الأوكراني كيريلو بودانوف أخيراً إن الاستخبارات الأوكرانية حصلت على وثائق روسية تشير إلى أن الكرملين يريد المطالبة بالسلام في نهاية عام 2025 لأسباب اقتصادية. وسواء كان هذا السيناريو صحيحا أو لا، فإنه منطقي. فالعقبات المالية والتكنولوجية والديموغرافية التي تواجه الاقتصاد الروسي شديدة الوطأة، ويكفي أن الكلفة المقدرة للحرب هذه السنة وحدها هي 190 مليار دولار، وفق خبراء غربيين. أما بالنسبة إلى أوكرانيا فالكلفة هي 100 مليار يأتي معظمها من المساعدات الغربية.

ألم يحن الوقت ليجلس الطرفان إلى طاولة المفاوضات لإطلاق العمل الجدي الرامي إلى وقف الحرب والنزف البشري والاقتصادي؟ أم أن هناك يداً خفية تعمل على توسيع الجرح واستنزاف الموارد الروسية سعياً لتحقيق هدف استراتيجي بعيد؟


مقالات ذات صلة

الولايات المتحدة تؤكد أنها «لا تسعى إلى حرب» مع روسيا

الولايات المتحدة​ لقطة من فيديو تظهر القصف الذي طال مدينة دنيبرو الأوكرانية بصاروخ بالستي جديد متوسط المدى روسي (أ.ب)

الولايات المتحدة تؤكد أنها «لا تسعى إلى حرب» مع روسيا

أعلنت الولايات المتحدة الخميس أنها "لا تسعى إلى حرب مع روسيا"، متهمة موسكو بـ"إثارة التصعيد" في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا أشخاص يحتمون داخل محطة مترو خلال هجوم عسكري روسي على أوكرانيا (أ.ف.ب)

كييف تتهم موسكو باستهدافها بصاروخ «عابر للقارات»

دوت صافرات الإنذار في جميع أنحاء أوكرانيا، فجر أمس (الخميس)، بعدما أفادت السلطات الأوكرانية بأن روسيا أطلقت صاروخاً عابراً للقارات من دون رؤوس نووية على أراضيها

«الشرق الأوسط» (كييف - موسكو)
أوروبا لقطة أرشيفية لصاروخ بالستي روسي أطلق في مارس الماضي خلال تجربة للجيش (أ.ف.ب)

«الناتو»: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا

أكّد حلف شمال الأطلسي الخميس أنّ الصاروخ البالستي الفرط صوتي الجديد الذي أطلقته روسيا على أوكرانيا "لن يغيّر مسار الحرب".

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (د.ب.أ)

زيلينسكي: الضربة الروسية بصاروخ جديد تمثل تصعيداً واضحاً

ذكر الرئيس الأوكراني، الخميس، أن الهجوم الروسي على أوكرانيا بنوع جديد من الصواريخ الباليستية يمثّل «تصعيدا واضحا وخطيرا» في الحرب، ودعا إلى إدانة عالمية قوية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
الولايات المتحدة​ البيت الأبيض (أرشيفية - رويترز)

واشنطن: لا نرى «أيّ سبب» لتعديل العقيدة النووية الأميركية

أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض اليوم الخميس أن الولايات المتحدة لا ترى «أيّ سبب» لتعديل عقيدتها النووية بعد ما قامت به روسيا في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

كييف تتهم موسكو باستهدافها بصاروخ «عابر للقارات»

أشخاص يحتمون داخل محطة مترو خلال هجوم عسكري روسي على أوكرانيا (أ.ف.ب)
أشخاص يحتمون داخل محطة مترو خلال هجوم عسكري روسي على أوكرانيا (أ.ف.ب)
TT

كييف تتهم موسكو باستهدافها بصاروخ «عابر للقارات»

أشخاص يحتمون داخل محطة مترو خلال هجوم عسكري روسي على أوكرانيا (أ.ف.ب)
أشخاص يحتمون داخل محطة مترو خلال هجوم عسكري روسي على أوكرانيا (أ.ف.ب)

دوت صافرات الإنذار في جميع أنحاء أوكرانيا، فجر أمس (الخميس)، بعدما أفادت السلطات الأوكرانية بأن روسيا أطلقت صاروخاً عابراً للقارات من دون رؤوس نووية على أراضيها، ما عُدّ تصعيداً للنزاع والتوترات بين روسيا والغرب. لكن مسؤولاً أميركياً أفاد بأن روسيا أطلقت صاروخاً باليستياً متوسط المدى، وليس عابراً للقارات، خلال هجوم على مدينة دنيبرو الأوكرانية أمس، وهو ما يختلف عن رواية كييف الرسمية. وأضاف المسؤول أن التقييم استند إلى تحليل مبدئي.

وقال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إن التقييم جار، لكن الصاروخ تتوفر فيه كل «خصائص» الصاروخ العابر للقارات.

وجاءت هذه التطورات بعد أيام على استخدام أوكرانيا صواريخ «أتاكمز» الأميركية في استهداف مناطق بالعمق الروسي، بعد حصولها على تفويض من واشنطن.

من جانب آخر، أعلنت واشنطن، أمس، حزمة من العقوبات تستهدف نحو خمسين مؤسسة مصرفية روسية لتقليص تمويل المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا.