في تحوّل قد يُسهم في إعادة رسم خريطة العلاقات الإقليمية، تشهد مصر وتركيا تقارباً ملحوظاً بعد سنوات من التوتر، وتتجه أنظار العالم إلى هذه الشراكة الناشئة، وتأثيرها المحتمل على الملفات الساخنة في المنطقة، مثل ليبيا وسوريا وغزة، إضافةً إلى توترات القرن الأفريقي وشرق المتوسط.
وعزَّزت أول زيارة رسمية للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، لأنقرة، الأربعاء الماضي، بعد أخرى مماثلة لنظيره التركي رجب طيب إردوغان لمصر في فبراير (شباط) الماضي، مسار التقارب بين القاهرة وأنقرة، ودفع العلاقات نحو «حقبة جديدة»، بعد عقد من التوترات.
خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط»، يعتقدون أن البلدين انتقلا من التعاون الثنائي إلى الإقليمي بعد هذه الزيارة، وبدا ذلك في بنود الإعلان الأول المشترك لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى الذي عُقد برئاسة البلدين في 4 سبتمبر (أيلول) بأنقرة، خلال زيارة الرئيس المصري، لافتين إلى أن الملفات الحرجة التي يشهدها البلدان أو المنطقة قد تجد طريقاً لمقاربات وتفاهمات، ودعم مشترك واسع وغير تقليدي الفترة المقبلة، وفي الصدارة منها الملف الليبي، بحكم نفوذ ورصيد القاهرة وأنقرة فيه.
وتنقسم ليبيا بين حكومتين بالشرق والغرب، ويرتبط كل من الحكومتين بعلاقات قوية؛ إما على الجانب المصري أو الجانب التركي، وهو الأمر الذي يعزّز فرصة جَسر الفجوة بين الحكومتين المتصارعتين نتيجةً لزيادة التفاهم المصري – التركي.
وفي الصومال التي تستضيف قاعدة عسكرية تركية، وبدأت تستقبل قوات حفظ سلام مصرية، يزداد رفض مقديشو لمحاولة إثيوبيا منذ بداية العام التواجد بميناء بحري بإقليم منفصل عنها، وتدخلت أنقرة بوساطة بين الطرفين، بينما تزداد مساعي تفاهمات تركيا مع سوريا التي تجمعها علاقات جيدة مع مصر.
وإضافةً إلى ذلك تبرز تفاهمات بين البلدين ومواقف موحَّدة ضد الحرب الإسرائيلية في غزة، المستمرة منذ نحو عام، وكذلك رغبة معلَنة في لجم النزاع السوداني بين قوات الجيش و«الدعم السريع» منذ أبريل (نيسان) 2023، فضلاً عن الخلافات التركية - اليونانية - القبرصية بشرق المتوسط، في الوقت الذي تملك القاهرة علاقات واسعة مع البلدين الأخيرين.
مقاربات
وفي 4 سبتمبر الحالي صدر الإعلان المشترك لإعادة تشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي، معلناً أن مصر وتركيا «تستهدفان تعزيز السلم والرخاء والاستقرار في محيطهما وما وراءه»، مؤكداً عبر 9 بنود من 36 بنداً تعزيز مستوى التنسيق والتعاون بين البلدين بغزة.
وفي سوريا، أكّدت مصر وتركيا «التزامهما المشترك لتحقيق الحل الدائم والشامل للصراع ومكافحة الإرهاب، والتشديد على أهمية سيادتها»، وفي الشأن الليبي شدّدتا على «التطلع لدعم عملية سياسية بقيادة ليبية، وبتسهيل من قِبل الأمم المتحدة».
وفي منطقة القرن الأفريقي، اتفق البلدان على «أهمية ضمان السلم والأمن والاستقرار هناك، والاحترام المتبادل للسيادة والسلامة الإقليمية لكل دولة»، مؤكدين «دعم الجهود الدبلوماسية لإنهاء الصراع بالسودان».
انعكاسات
وبرأي المستشار في رئاسة مجلس الوزراء السوري، الدكتور عبد القادر عزوز، فإن التقارب المصري - التركي يعكس رغبة انتقال العلاقات من التطبيع إلى التعاون الاستراتيجي، لافتاً إلى أن ذلك «سينعكس إيجابياً على مختلف القضايا الإقليمية لثقل الدولتين بالمنطقة».
ويؤشر ترحيب الرئيس المصري في المؤتمر الصحافي للزيارة بمساعي التقارب بين أنقرة ودمشق، وفق الدكتور عبد القادر عزوز، إلى أن هناك تعاوناً بين القاهرة وأنقرة في محاولة حل الملفات العالقة بين تركيا وسوريا، مؤكداً أن «مصر يمكن أن تلعب دوراً هاماً في حلحلة العديد من تلك الملفات وفق مبادئ القانون الدولي».
ويتفق نائب مدير تحرير مجلة «الديمقراطية» بمركز الأهرام والباحث في الشؤون الإقليمية والتركية، الدكتور كرم سعيد، على تأثير التقارب المصري - التركي إيجاباً على التفاهمات التركية السورية، مؤكداً أن القاهرة وأنقرة دولتان وازِنتان بالمنطقة، ولديهما رصيد ونفوذ واسع بها، وتقاربهما يحمل ملامح حلول للمنطقة.
وفي صدارة الملفات التي ستتأثر بالتقارب المصري - التركي، يأتي الملف الليبي؛ أملاً في أن يُفضي إلى مقاربة موحّدة ترتكز على التعجيل بإجراء الانتخابات والتوحد العسكري، وتعزيز حالة الاستقرار، وفق سعيد، لافتاً إلى أنه «في ضوء التقارب سيكون هناك في منطقة القرن الأفريقي ترتيبات وتفاهمات مشتركة، لا سيما في الصومال فيما يتعلق بمصالح البلدين واستقرار المنطقة».
وفي هذا الصدد يرى مدير «مركز دراسات شرق أفريقيا» في نيروبي، عبد الله إبراهيم، أن كلا البلدين لديه مصالحه الخاصة بالصومال ومنطقة شرق أفريقيا، معتقداً أنه «إذا اتحدت جهودهما فإن قدرة الصومال على استرداد عافيته وأمنه واستقراره ستزيد، وستتخلّص تلك المنطقة من مخاوف نشوب حروب بها»، بخلاف «نقلة نوعية في معالجة الأزمات الإقليمية، لا سيما بشرق البحر الأبيض المتوسط، والوضع في ليبيا وفلسطين».
وعلى مسافة قريبة، يرى المحلل السياسي الفلسطيني، أيمن الرقب، أن «تقارب مصر وتركيا سيفيد القضية الفلسطينية بشكل غير تقليدي، وسيترتب على ذلك تعزيز أدوار المساندة أكثر عربياً ودولياً، وممارسة ضغوط أكبر مشتركة لدعم الحق الفلسطيني بكل الساحات، لا سيما الدولية، ورفض أي مساس به».
ويرى الدكتور كرم سعيد أن التقارب سينعكس على مسار القضية الفلسطينية، في ظل رؤية موحّدة تدعم إقامة دولة فلسطينية، ومع دعم تركي لافت للقاهرة في إدارة الأزمة بغزة على المستوى الإنساني أو التفاوضي، أو الرافض لاتهامات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة تجاه مصر.
و«بكل تأكيد سيكون التحدي الأكبر من بين ملفات التقارب هو ملف غزة»، وفق ما يرى المحلل السياسي التركي طه عودة أوغلو، غير أن التطابق والتوافق المصري التركي المشترك سيعزّز جهودهما الدولية في هذا الملف، مع انتقال علاقات مصر وتركيا من التعاون الثنائي إلى نظيره الإقليمي.
وبناءً على العلاقات التركية - الإثيوبية الجيدة، وكذلك المصرية - اليونانية - القبرصية بشرق المتوسط، قد يُحدث التقارب المصري - التركي حلولاً وتحركات للبلدين، سواءً في أزمة سد النهضة بين القاهرة وأديس أبابا، أو بين أنقرة من جانب، وأثينا ونيقوسيا من جانب آخر. يضيف طه عودة أوغلو.
أما في الملف الليبي، فيرى المحلل السياسي الليبي أيوب الأوجلي، أن مصر وتركيا لاعبان رئيسيان هناك، ولهما مشاريع إعمار، وتقاربهما سيفتح آفاقاً جديدة في حلحلة مشاكل عديدة، وبينها الأزمة الحالية بشأن اختيار محافظ للمصرف المركزي، وأيضاً إمكانية تقريب وجهات نظر الأطراف الفاعلة القريبة من البلدين في ليبيا، ووضع حلول للمشاكل التي تعرقل إجراء الانتخابات، ومنع أي صدام، إلا أن حل الأزمة الليبية بشكل عام أمر أكبر من ذلك بكثير، ولا يمكن حله بين ليلة وضحاها.
وبرأي المحلل السياسي السوداني محمد تورشين، «ستلعب تركيا دوراً هاماً في الوساطة بين إثيوبيا والصومال، ما سيفيد مصر أيضاً وأمنها القومي»، غير أنه يعتقد أن «تأثيرات الدور التركي بشأن سد النهضة ستكون محدودة في ضوء بناء السد، وكونه حالياً أمراً واقعاً لا يمكن تجاوزه»، متوقعاً تنسيقاً مصرياً تركياً حول دعم السودان في إحلال السلام، وتنفيذ مشاريع التنمية.