لقي ما لا يقل عن 38 شخصاً مصرعهم في عدة هجمات في مقاطعة بلوشستان، منذ الأحد، فيما يبدو أنه جزء من حملة شنها انفصاليون مسلحون في المنطقة. وبدأت أعمال العنف بانفجارات هزت معسكراً للجيش في مقاطعة بلوشستان الباكستانية في وقت متأخر من ليلة الأحد، مما أسفر عن مقتل جندي واحد على الأقل، وفي توقيت متزامن تقريباً، اقتحم مسلحون ما لا يقل عن 4 مراكز للشرطة في المقاطعة، وفتحوا النار على الضباط، وأضرموا النيران في مركبات الشرطة، وفقاً لما ذكره مسؤولون محليون.
وبحلول فجر اليوم التالي، كان المسلحون قد دمروا جسراً، مما تسبب في توقف عمل السكك الحديدية الرئيسية التي تمر عبره، ثم في وقت مبكر من صباح الاثنين، بلغت أعمال العنف ذروتها عندما أوقف المسلحون حركة المرور على طريق رئيسي سريع، وأطلقوا النار على المارة مما أدى إلى مقتل نحو عشرين شخصاً.
وعلى مدار مدة زمنية بلغت 24 ساعة، اجتاحت موجة العنف الجديدة التي نفذتها مجموعة انفصالية مسلحة مقاطعة بلوشستان في جنوب غربي باكستان، وأسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 38 شخصاً، مما زاد من تفاقم الوضع الأمني المتدهور بالفعل في البلاد.
وبدأت سلسلة الهجمات المُنسَّقة في بلوشستان، الأحد، عندما أعلنت جماعة «جيش تحرير بلوشستان» عن بدء عملية جديدة في المقاطعة، وتعد هذه الجماعة واحدة من عدة جماعات متمردة تطالب باستقلال المقاطعة عن الحكومة المركزية في إسلام آباد.
وقال المسؤولون إن الهجوم الأكثر دموية في الحملة حتى الآن وقع في منطقة «موساخيل» في بلوشستان عندما أوقف المسلحون حركة المرور على الطريق السريع، وطلبوا من ركاب الحافلات والشاحنات إظهار بطاقات هوياتهم.
كما أجبر المسلحون بعض الركاب على الخروج من المركبات، ثم أطلقوا النار عليهم وقتلوهم، وفقاً للمسؤولين.
وكان معظم الضحايا من مقاطعة البنغاب؛ إذ أضرم المسلحون النيران هناك فيما لا يقل عن 10 حافلات وشاحنات قبل الفرار من المنطقة.
ومن جانبهم، أدان المسؤولون الباكستانيون الهجمات على الفور، وطالبوا السلطات بإجراء تحقيق في كافة الحوادث، وقال رئيس الوزراء شهباز شريف في بيان: «لا نقبل أي شكل من أشكال الإرهاب في البلاد، وسنواصل معركتنا ضد الإرهاب حتى يتم القضاء على هذه الآفة بشكل كامل».
فشل استخباراتي من جانب الجيش
ويقول بعض الخبراء الأمنيين والمحللين إن هذه الهجمات المنسقة تشير إلى فشل استخباراتي من جانب الجيش الباكستاني القوي، الذي لطالما كان يمثل السُلطة المطلقة في البلاد.
وكانت السلطات الباكستانية قد صرَحت في السنوات الأخيرة بأنها نجحت في القضاء على التمرد الذي دام عقوداً، لكن الهجمات الأخيرة تحمل علامات مقلقة على أن جماعة «جيش تحرير بلوشستان» أصبحت أكثر قدرة من أي وقت مضى، وفقاً للمحللين.
ذروة التمرد
وقال محمد أمير رانا، وهو مدير معهد باكستان لدراسات السلام، والمعني بمراقبة العنف والتطرف، ومقره إسلام آباد: «هذه هي ذروة المرحلة الحرجة من التمرد»، مضيفاً أن موجة العنف الأخيرة أظهرت درجة أعلى من التنسيق والتخطيط من جانب «جيش تحرير بلوشستان»، مقارنةً بالهجمات السابقة.
ويقول مسؤولون عسكريون باكستانيون إن قوات الأمن ردت على كافة الهجمات وقتلت ما لا يقل عن 21 من المتمردين.
وجاء في بيان صادر عن الجناح الإعلامي للجيش الباكستاني أن «قوات الأمن ووكالات إنفاذ القانون الباكستانية ستظل عازمة، جنباً إلى جنب مع الأمة، على إحباط محاولات تخريب السلام والاستقرار والتقدم في بلوشستان».
وكانت أعمال الإرهاب قد تصاعدت في جميع أنحاء باكستان منذ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان المجاورة في عام 2021، واستيلاء حركة «طالبان» على السُّلطة، فمنذ وصول الحركة إلى السُلطة في كابل، وجدت بعض الجماعات المسلحة ملاذاً آمناً على الأراضي الأفغانية، في حين دفعت الحملة التي قادتها «طالبان» لكبح جماح فرع تنظيم «داعش» في المنطقة إلى دفع مقاتليه نحو باكستان.
وخلال العام الأول لعودة «طالبان» إلى السُّلطة، ارتفع عدد الهجمات الإرهابية في جميع أنحاء باكستان بنحو 50 في المائة مقارنةً بالعام السابق، وفقاً لـ«معهد باكستان لدراسات السلام»، وعلى مدار العامين الماضيين، استمر عدد الهجمات العنيفة في الارتفاع أيضاً.
وأدت أعمال العنف إلى زيادة وتيرة التوتر بين السلطات الباكستانية ومسؤولي حركة «طالبان»، الذين نفوا تقديم الدعم أو توفير الحماية للجماعات المسلحة، بمن في ذلك الانفصاليون البلوش، كما أنها أثارت مخاوف من أن المنطقة قد تصبح ملاذاً للجماعات الإرهابية الدولية، وأن صراعاً أوسع نطاقاً قد يندلع في المناطق الحدودية لباكستان.
وحتى الآن لم تتمكن السلطات الباكستانية من القضاء على العنف، كما تراجع الدعم العسكري الأميركي الذي كان يتم تقديمه في شكل أسلحة واستخبارات وتمويل وغير ذلك، والذي كان يتدفق بسخاء إلى البلاد منذ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان.
أسلحة ومعدات متطورة
ووفقاً للسلطات الباكستانية، فإن العديد من المسلحين مزودون بأسلحة ومعدات متطورة أميركية الصُنع، والتي استولوا عليها بعد انهيار الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة.
وقالت الشرطة الباكستانية إنها تشعر بأنها غير مُجهزة بشكل كافٍ للتعامل مع موجة أعمال العنف الجديدة هذه، ويقول السكان في المناطق المتضررة إنهم يشعرون بالإحباط المتزايد من استجابة الحكومة، واتهم البعض الجيش الباكستاني القوي بالتركيز بشكل أكبر على التدخل في الشؤون السياسية للبلاد، بدلاً من توفير الأمن للشعب.
ولطالما كانت بلوشستان، وهي المقاطعة القاحلة التي تمتد بين الحدود مع أفغانستان وإيران والبحر العربي، مسرحاً للكثير من أعمال العنف، وتعدّ المقاطعة، التي تعادل مساحتها مساحة ألمانيا تقريباً، غنية بالموارد في حين يسكنها نحو 12 مليون شخص فقط.
موقع لميناء عميق تديره الصين
كما تعد المنطقة أيضاً موقعاً لميناء عميق تديره الصين في «غوادر»، وهي جزء رئيسي من «مبادرة الحزام والطريق» الصينية في إسلام آباد، والتي كانت مصدراً حيوياً للاستثمار الأجنبي، وكذلك هدفاً للمسلحين الغاضبين.
ومنذ تأسيس باكستان في عام 1947، عانت المقاطعة من العديد من أعمال التمرد التي كانت مدفوعة، جزئياً على الأقل، بالرغبة في استغلال مواردها، وفي السنوات الأخيرة، استهدفت الجماعات المسلحة مشاريع التنمية الصينية في المنطقة، ورداً على ذلك، واجهت تلك الجماعات وسكان بلوشستان قمعاً شديداً من الدولة وانتهاكات لحقوق الإنسان، وفقاً لما ذكرته منظمات حقوق الإنسان.
وتعدّ جماعة «جيش تحرير بلوشستان» من بين الجماعات المتمردة الأكثر ثباتاً، فقد تأسست في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبحلول عام 2020، بدت الجماعة وكأنها ضعفت بدرجة كبيرة بعد سنوات من عمليات مكافحة التمرد والانقسامات بين الجماعات الانفصالية، ولكنها عادت إلى الظهور بقوة مرة أخرى في السنوات الأخيرة، وهو ما ظهر بوضوح في العملية الأخيرة التي بدأت يوم الأحد.
وقالت جماعة «جيش تحرير بلوشستان»، في بيان أصدرته قبل الهجمات: «معركتنا ضد الجيش الباكستاني المحتل، وإذا تدخلت الشرطة، فإننا سنهاجمها أيضاً».
وتزامن إعلان الجماعة مع الذكرى الثامنة عشرة لوفاة الزعيم القبلي المؤثر في بلوشستان نواب أكبر بوغتي، الذي حمل السلاح ضد الحكومة الفيدرالية في عام 2005، وقُتل على يد قوات الجيش الباكستاني بعد عام، ويقول المحللون إن وفاته أدت إلى ضخ طاقة جديدة في التمرد في المنطقة.
وقد أثارت سلسلة الهجمات الأخيرة قلق سكان المقاطعة، الذين كان العديد منهم في حالة من التوتر الشديد بالفعل بعد تصاعد وتيرة أعمال العنف على مدى السنوات الثلاث الماضية.
وقال إسحاق حياة، وهو أحد سكان كويتا، عاصمة مقاطعة بلوشستان: «لقد أظهرت هجمات الليلة الماضية والهجمات السابقة أن المسلحين منظمون للغاية، لقد أدت الهجمات إلى زيادة مخاوف الناس بشكل حقيقي، نحن قلقون بشأن سلامتنا».
* «نيويورك تايمز»