يسافر المسلمون من شتى بقاع الأرض إلى طيبة الطيبة، يتجشّمون مشاقّ السفر، حتى تنتهي بهم الرحلة إلى المكان الذي انطلق منه دين التوحيد، للوقوف عن كثب على المواضع التاريخية التي ارتبطت بقصة بداية الإسلام.
في المدينة المنورة عشرات المواقع التي بقيت محتفظة بعَبق تاريخ المكان، الذي كان مسرحاً لأحداث قصة الإسلام في بواكيرها ونمو مجتمع المسلمين.
الأماكن والقصور والقلاع التي طالما قرأ عنها المسلمون في كتب التاريخ، وبطون المراجع التراثية، أضحت متاحة في ربوع المدينة؛ لرؤيتها عياناً وتأمّلها مشاهدةً، ليتصل النص المكتوب مع الواقع المشهود وآثاره الباقية.
ويجد الزائر إلى المدينة المنورة كثيراً من الخيارات والوجهات التي تُثري تجربته، خصوصاً بعد أن لقي كثير من المواقع التاريخية والوجهات الأثرية مؤخراً اهتماماً وعنايةً أعادت لها الحياة.
وقد تم أخيراً إطلاق عدد من المواقع التاريخية بعد أن أصبحت مؤهلة لاستقبال الزوار، ضمن المرحلة الأولى لتأهيل أكثر من 100 موقع تاريخي إسلامي في منطقتَي مكة المكرمة والمدينة المنورة، بهدف إحياء وتعزيز المكانة الدينية والثقافية للمواقع التاريخية الإسلامية، وتقديم تجربة سياحية مختلفة ومميزة.
كما جرى تطوير محتوى المواقع التاريخية الإسلامية والثقافية، وهي المبادرة التي أطلقتها وزارة الثقافة في السعودية؛ لرفد المواقع التاريخية في المدينة المنورة بالمحتويات التعريفية، وإثرائها بالمعلومات والبيانات، وتمكين الراغبين في زيارتها من الوصول إليها بيسر وسهولة.
المدينة تاريخ مفتوح
يقول الدكتور عبد الرحمن الوقيصي، الباحث المختص بالتاريخ الحديث، إن المدينة كلها تاريخ، ويضيف: «في كل زاوية، وفي كل ركن من أركان هذه المدينة، تُحكَى قصة من قصص تاريخنا، تشمل تاريخ ما قبل الإسلام، وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المدينة، والمواضع والمعالم المرتبطة بسيرته عليه الصلاة والسلام، ثم العصور المتعاقبة إلى يومنا هذا».
يحكي الدكتور الوقيصي في حديث مع «الشرق الأوسط» أن المدينة لا تزال زاخرة بالمواقع التاريخية غير المكتشَفة، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي يحظى بها قطاع الآثار في السعودية الفترة الحالية، فإن مناطق السعودية لا تزال مليئة بالكنوز التراثية والمناجم الأثرية.
واستشهد الوقيصي بمسجد عتبان بن مالك، وهو من المواضع التي صلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقع بزاوية من منزل عتبان بن مالك، وقد تم اكتشاف تفاصيل جديدة بشأنه مؤخراً، رغم مرور كل هذا الوقت، وهو ما يراه الوقيصي دليلاً على ثراء هذه المدينة وثروتها الأثرية.
لم تواجه الآثار التاريخية تحدي الإهمال والنسيان فقط، بل مرّت بفترة صعبة في الماضي، عندما كانت تواجه مصير التدمير بسبب بعض وجهات النظر التي كانت تتّسم بالتحفظ والحدّية في التعامل مع هذه الآثار، وذلك بحجج مختلفة.
حكى الوقيصي عن بعض الآثار التي تعرضت للتشويه والإغلاق، مثل مسجد الفتح الذي سُدّت أبوابه بالحواجز الإسمنتية، وبعض المواقع الأثرية التي كادت تُهدم لولا تدخل الجهات المسؤولة في اللحظات الأخيرة، وأضاف: «بعض الآثار المهمة سُوّيت بالأرض؛ لأسباب غير مبرّرة، وقد استدركتها الجهات المسؤولة مؤخراً، وإلا كانت ستُمحى تماماً، ونفقد كل فرص استثمارها لأغراض إثرائية وعلمية؛ لأن تلك الآثار ثمينة وغالية لبناء حكاية هذه الأرض، ونقلها للأجيال بشواهدها الحيّة».