«فسيفساء جبهات القتال المتغيرة» في السودان

شهادة من بلاد يشعر أهلها أن العالم يتجاهل مأساتهم

إيمان وأيمن التوأمان داخل وحدة سوء التغذية بمستشفى الأطفال بأم درمان (نيويورك تايمز)
إيمان وأيمن التوأمان داخل وحدة سوء التغذية بمستشفى الأطفال بأم درمان (نيويورك تايمز)
TT

«فسيفساء جبهات القتال المتغيرة» في السودان

إيمان وأيمن التوأمان داخل وحدة سوء التغذية بمستشفى الأطفال بأم درمان (نيويورك تايمز)
إيمان وأيمن التوأمان داخل وحدة سوء التغذية بمستشفى الأطفال بأم درمان (نيويورك تايمز)

في كل شهر، منذ اندلاع الحرب الأهلية الكارثية في السودان، في أبريل (نيسان) 2023، تزداد الأخبار سوءاً، ويُجبر مزيد من الناس على النزوح أو يواجهون المجاعة أو القتل. وبصفتي مراسل الشؤون الأفريقية الرئيسي لصحيفة «نيويورك تايمز»، وأعمل من كينيا، تابعت الصراع من كثب، لكن كتابة تقرير من داخل السودان عما يجري بدت لي مستحيلة.

كان الحصول على تأشيرات لدخول السودان أمراً صعباً؛ إذ لم يتمكن سوى عدد قليل من الصحافيين من الدخول منذ بدء الحرب. لكن، ذات يوم في ربيع هذا العام، وبعد لقاء صدفة مع أحد معارفي القدامى، وجدت طريقة للدخول. وفي أبريل الماضي سافرت إلى بورتسودان، العاصمة الفعلية للبلاد في زمن الحرب، بصحبة المصور إيفور بريكت، وجون، مستشار شؤون السلامة لدى «نيويورك تايمز».

قلق في مكتب الهجرة

في مكتب الهجرة بالمطار، راقبت بقلق شديد جوازات سفرنا (بالمصادفة، كلها آيرلندية) يجري تمريرها بين ثلاثة مسؤولين. وكان عمال في مجال الإغاثة قد حذّرونا سابقاً من احتمال رفض دخولنا، رغم وجود تأشيرات.

وأخيراً، حصلنا على ختم الدخول من آخر مسؤول تسلّم جواز السفر.

لقد تمزّق السودان جراء الحرب الدائرة بين الجيش الوطني ومنافسه شبه العسكري (الدعم السريع)، وتشظت ثالث أكبر دولة في أفريقيا من حيث المساحة إلى فسيفساء متقلبة بين جبهات القتال المتحركة. ومع ذلك، استمرت بيروقراطيتها.

قضينا أيامنا الأولى في الاجتماعات، وملء الاستمارات، وإقناع المسؤولين بإصدار التصريح الذي نحتاج إليه لكتابة تقاريرنا بحرية. وكان الانتظار محبطاً، خصوصاً لإيفور بريكيت، المصور الصحافي. وفي إحدى الأمسيات، في ميناء «بورتسودان»، احتفلت العائلات في آخر أيام عيد الفطر في ضوء المساء الخافت، لكن كان على إيفور ترك كاميرته في السيارة، والاكتفاء برؤية المشهد يتكشّف أمامه.

أسعار تنافس لندن ونيويورك

تحوّل ميناء بورتسودان، الذي كان ذات يوم ميناءً هادئاً، إلى مدينة غارقة بأعداد الفارين من القتال. ارتفعت الإيجارات إلى مستويات تقارب أسعارها في لندن ونيويورك، ووصلت الأسعار إلى مستويات باهظة. ففي فندق «كورال بورتسودان»، وهو فندق متداعٍ، كان الأرقى في المدينة، ذات يوم طلبنا ثلاث شطائر ومشروبات غازية وقهوة على الغداء، فبلغت قيمة الفاتورة 90 دولاراً أميركياً، دفعتها بكومة من الجنيهات السودانية، عملة البلاد المنهارة، التي حملتها معي في حقيبة تسوق.

محمود إسماعيل (39 عاماً) جندي في الجيش السوداني في أثناء تغيير ضمادته من قِبل طبيب في مستشفى عسكري في بورتسودان (نيويورك تايمز)

بعد أسبوع من وصولنا، مسلحين بأوراق السفر وكتابة تقارير من العاصمة السودانية الخرطوم، انطلقنا 500 ميل إلى الغرب؛ إذ اندلعت الحرب قبل عام. كان الطريق وعراً ومليئاً بالحفر، وتقطع بنا المسير جراء العواصف الرملية التي هبّت دون سابق إنذار، ما أُجبرنا أحياناً على التوقف التام. وبعد قضاء ليلة في مدينة عطبرة، اتجهنا جنوباً بمحاذاة النيل نحو الخرطوم، ومررنا بـ25 نقطة تفتيش، وفي مرحلة ما جرى اصطحابنا إلى مكتب استخبارات للفحص.

وعند الغروب، وصلنا إلى أم درمان، واحدة من ثلاث مدن تشكل العاصمة الكلية للخرطوم؛ إذ تغطي قشرة رقيقة من الحياة الطبيعية عنف الحرب.

الدمار في الخرطوم يذكّرني بالذي حدث في الموصل والرقة، المدينتين العراقيتين أيام تنظيم «داعش»، في عامي 2017 و2018.

المصور الفوتوغرافي إيفور بريكيت

في الجزء الشمالي من المدينة، الذي لم يتأثر بالقتال نسبياً، كان الأطفال يلعبون كرة القدم على جانب الطريق، ويتسوّق الناس من محال البقالة. ومع ذلك، دوّى صوت المدفعية وتصاعدت أعمدة الدخان الأسود من معركة على الجانب الآخر من النهر.

روح الضيافة رغم الحرب

على مدار الأيام الخمسة التالية، لم نقابل أجنبياً واحداً، ولم تكن هناك فنادق. لذلك، مع حلول الظلام في ليلتنا الأولى، تجوّلنا في الشوارع بحثاً عن غرفة للإيجار، لكن مساعينا فشلت واحدة تلو الأخرى، إلى أن وجد مترجمنا عبد الرحمن الطيب، أخيراً، منزلاً بالقرب من منزله كان مهجوراً قبل عام، كان كل شيء في داخله مغطى بالغبار والرمل الناعم.

إلا أنه في غضون دقائق، حضرت مجموعة من الجيران، وبروح الضيافة التي يشتهر بها السودان، ساعدوا في تنظيف غرفة لننام فيها.

صبيحة اليوم التالي، انتظرنا خمس ساعات حتى ظهر مرافق عسكري، لنتمكن من بدء العمل. كان حجم الدمار مروعاً؛ إذ قال المصور إيفور إن ذلك يذكّره بدمار الموصل والرقة، المدينتين العراقيتين اللتين صوّر فيهما حرباً ضد تنظيم «داعش» في عامي 2017 و2018 لصحيفة «نيويورك تايمز». بالنسبة لي، كان هذا تحولاً مأساوياً لمدينة كنت فخوراً بها ذات يوم، وزرتها لأول مرة منذ ما يقرب من 25 عاماً.

مشهد لمدينة الخرطوم مسرح أعنف المعارك... في حين يظهر من الجانب الآخر من نهر النيل «مستشفى علياء» التخصصي في أم درمان (نيويورك تايمز)

صعدت إلى نقطة مراقبة في مبنى مستشفى مدمر مرتدياً سترة واقية، ونظرت عبر النيل إلى البقايا الغريبة لوسط مدينة الخرطوم. عبر الخط الأمامي، رأيت بقايا محترقة لمباني المكاتب الشاهقة، إذ أجريت مقابلات مع مسؤولين في السابق، ومبنى فندق مهجوراً أقمت فيه ذات يوم.

يمكنني رؤية ركن جسر معلّق يؤدي إلى «جزيرة توتي»، وسط النيل. وكنت قبل خمسة عشر شهراً شاهدت أزواجاً يضحكون ويلتقطون صور «سيلفي» تحت الجسر. وقد أصبحت المنطقة الآن تحت سيطرة مقاتلين من «قوات الدعم السريع»، وهي القوة شبه العسكرية التي تقاتل الجيش الوطني السوداني للسيطرة على المدينة والبلاد.

ويعاني سكان العاصمة من نقص في كل شيء؛ الدواء والمياه النظيفة والغذاء بأسعار معقولة والأمان. كما أنهم بحاجة إلى الاهتمام. وعلى الرغم من أن الإنترنت كان متقطعاً، فإن الناس يعلمون أن حرب السودان لم تحظَ بتغطية كبيرة، وشعروا أن محنتهم يجري تجاهلها. وكان البعض حريصاً على التحدث، بغض النظر عن ظروفهم.

حسن وأمه

في مستشفى «النو»، وهي منشأة مزدحمة بصورة كارثية بالقرب من الخطوط الأمامية، التقينا صبياً يبلغ من العمر 14 عاماً يُدعى حسن آدم، أُصيب برصاصة في معدته قبل أيام قليلة، وقد بدأ لتوه الأكل مرة أخرى. بدا حسن يعاني من سوء تغذية شديد، خصوصاً عندما جلس على السرير، في حين كانت والدته تعد طبقاً من الطعام.

كان إيفور يلتقط صورة لحسن بهدوء، نُشرت لاحقاً في الصفحة الأولى من صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى جانب مقالي، في حين أشار إليه حسن لمشاركته الطعام. وحسب إيفور، بدا أن هذه الإيماءة اللطيفة تجسّد صمود وكرامة كثير من الناس الذين التقيناهم.

ثم جاءت واحدة من أصعب اللحظات في جناح سوء التغذية، إذ جلست مع أم شابة، وهي تحتضن توأمها البالغين من العمر سبعة أشهر. كان كلاهما يعاني من سوء تغذية حاد، وهما أحدث ضحايا المجاعة التي تلوح في الأفق بالسودان، التي يحذّر عمال الإغاثة من أنها قد تكون الأسوأ في المنطقة منذ عقود.

إيمان وأيمن التوأمان داخل وحدة سوء التغذية بمستشفى الأطفال بأم درمان (نيويورك تايمز)

ولأنني أب لتوأمين صغيرين، وكذلك صحافي، نظرت إلى الطفلين لوهلة وتخيّلت طفلاي مكانهما.


مقالات ذات صلة

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

شمال افريقيا علي عبد الرحمن الشهير بـ«علي كوشيب» المتهم بجرائم حرب في إقليم بدارفور (موقع «الجنائية الدولية»)

«الجنائية الدولية»: ديسمبر للمرافعات الختامية في قضية «كوشيب»

حددت المحكمة الجنائية الدولية ومقرها لاهاي 11 ديسمبر المقبل لبدء المرافعات الختامية في قضية السوداني علي كوشيب، المتهم بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية بدارفور.

أحمد يونس (كمبالا)
الولايات المتحدة​ مسعفون من جمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» ومتطوعون في الفريق الوطني للاستجابة للكوارث (أ.ب)

الأمم المتحدة: عمال الإغاثة الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر

أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن عدد عمال الإغاثة والرعاية الصحية الذين قُتلوا في 2024 أعلى من أي عام آخر، بحسب «أسوشييتد برس».

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
شمال افريقيا سودانيون فارُّون من منطقة الجزيرة السودانية يصلون إلى مخيم للنازحين في مدينة القضارف شرق البلاد 31 أكتوبر (أ.ف.ب)

مقتل العشرات في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة

مقتل العشرات في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة، فيما تعتزم الحكومة الألمانية دعم مشروع لدمج وتوطين اللاجئين السودانيين في تشاد.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا النيران تلتهم سوقاً للماشية نتيجة معارك سابقة في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور (أ.ف.ب)

السودان: توغل «الدعم السريع» في النيل الأزرق والجيش يستعيد بلدة

تشير أنباء متداولة إلى أن الجيش أحرز تقدماً كبيراً نحو مدينة سنجة التي سيطرت عليها «قوات الدعم السريع»، يونيو (حزيران) الماضي.

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا عائلة تستريح بعد مغادرة جزيرة توتي التي تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في أم درمان بالسودان يوم 10 نوفمبر 2024 (رويترز)

السودان: 40 قتيلاً في هجوم لـ«قوات الدعم السريع» بولاية الجزيرة

أفاد طبيب بمقتل 40 شخصاً «بالرصاص» في السودان، بهجوم شنّه عناصر من «قوات الدعم السريع» على قرية بولاية الجزيرة وسط البلاد.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
TT

القاهرة تعزز مشاركتها في قوات حفظ السلام بأفريقيا

بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)
بدر عبد العاطي يلتقي كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

تأكيدات مصرية على لسان وزير الخارجية، بدر عبد العاطي، بشأن «الدور النبيل» الذي تقوم به القوات المصرية ضمن بعثات حفظ السلام عبر «تعزيز السلم والأمن» في أفريقيا، وأنها تعكس «الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في القارة السمراء».

تصريحات وزير الخارجية جاءت خلال زيارته للكتيبة المصرية ضمن قوات حفظ السلام في الكونغو الديمقراطية، التي تأتي أيضاً قبيل أسابيع من مشاركة جديدة مرتقبة مطلع العام المقبل في الصومال ضمن قوات حفظ سلام أفريقية، وسط تحفظات إثيوبية التي أعلنت مقديشو استبعاد قواتها رسمياً، وأرجعت ذلك إلى «انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الزيارة المصرية للقوات التي يمر على وجودها نحو 25 عاماً، تعد بحسب خبراء تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، تأكيداً على «الحضور المتنامي للقاهرة، وتعزيزاً لمشاركاتها بالقارة السمراء»، مستبعدين أن تتحول أي تحفظات إثيوبية تجاه الوجود المصري بمقديشو لمواجهات أو تصعيد عسكري.

وبحسب ما كشفته «الخارجية المصرية» في أواخر مايو (أيار) 2024، «فمنذ عام 1960، عندما أرسلت مصر قواتها إلى عمليات الأمم المتحدة في الكونغو، خدم ما يزيد على 30 ألفاً من حفظة السلام المصريين في 37 بعثة لحفظ السلام في 24 دولة، وبصفتها واحدة من كبريات الدول التي تسهم بقوات نظامية في عمليات حفظ السلام، تنشُر مصر حالياً 1602 من حفظة السلام من النساء والرجال المصريين في عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام في الكونغو الديمقراطية والسودان وجنوب السودان والصحراء الغربية».

ووفق تقديرات نقلتها «هيئة الاستعلامات» المصرية الرسمية، منتصف يونيو (حزيران) 2022، تسترشد مصر في عمليات حفظ السلام بثلاثة مبادئ أممية أساسية، وهي «موافقة الأطراف والحياد، وعدم استعمال القوة إلا دفاعاً عن النفس، ودفاعاً عن الولاية».

بدر عبد العاطي يصافح كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في حفظ السلام بالكونغو (الخارجية المصرية)

وتاريخياً، شاركت مصر في قوات حفظ السلام بأفريقيا في «الكونغو أثناء فترة الحرب الأهلية من 1960 إلى 1961، ثم من نوفمبر (تشرين الثاني) 1999، وكوت ديفوار لمساعدة الأطراف الإيفوارية على تنفيذ اتفاق السلام الموقع بينهما في يناير (كانون الثاني) 2003، والصومال في الفترة من ديسمبر (كانون الأول) 1992 إلى فبراير (شباط) 1995، وأفريقيا الوسطى من يونيو 1998 إلى مارس (آذار) 2000، وأنغولا من 1991 وحتى 1999، وموزمبيق من فبراير 1993 إلى يونيو 1995، وجزر القمر من 1997 وحتى 1999، وبوروندي منذ سبتمبر (أيلول) 2004، وإقليم دارفور بالسودان منذ أغسطس (آب) 2004».

وضمن متابعة مصرية لقواتها، التقى بدر عبد العاطي، الجمعة، مع أعضاء كتيبة الشرطة المصرية المُشاركة في مهام حفظ السلام ضمن بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في الكونغو الديمقراطية خلال زيارته التي بدأت الخميس، واستمرت ليومين إلى العاصمة كينشاسا، لتعزيز التعاون بكل المجالات، وفق بيان صحافي لـ«الخارجية المصرية».

وقال عبد العاطي إن «مصر إحدى كبرى الدول المساهمة في قوات حفظ السلام الأممية»، مؤكداً أن «وجود الكتيبة المصرية في الكونغو الديمقراطية يعكس عمق العلاقات التاريخية بين البلدين وأهمية الشراكة الاستراتيجية مع دول حوض النيل الجنوبي». كما نقل وزير الخارجية، رسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسيكيدي، من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تتضمن سبل تعزيز العلاقات، وإحاطة بما تم توقيعه من اتفاقيات تعاون خلال زيارته وتدشين «مجلس أعمال مشترك».

ووفق الخبير في الشؤون الأفريقية، عبد الناصر الحاج، فإن كلمة السر في مشاركة مصر بشكل معتاد ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا بشكل عام هي «طبيعة القوات المصرية حيث تتجلى الإمكانات العالية والخبرات التاريخية المتراكمة، ما جعل مصر دائمة المشاركة والحضور ضمن قوات حفظ السلام منذ أزمان بعيدة»، مؤكداً أن لمصر تجارب عدة في العمل ضمن بعثات حفظ السلام في كثير من دول أفريقيا التي شهدت نزاعات وأوضاع أمنية بالغة التعقيد، مثل ساحل العاج، والكونغو، وأفريقيا الوسطى، وأنغولا، وموزمبيق، وليبيريا، ورواندا، وجزر القمر، ومالي وغيرها.

جانب من كتيبة الشرطة المصرية المشاركة في مهام حفظ السلام بالكونغو الديمقراطية (الخارجية المصرية)

الحاج أشار إلى أنه رغم أن الاضطرابات السياسية التي تشهدها كثير من دول أفريقيا «تزيد من تعقيد» عمل بعثات الأمم المتحدة الخاصة بحفظ السلام في أفريقيا، وعدم قدرة هذه البعثات على إحراز أي تقدم في ظل نقص المؤسسات الديمقراطية الفعالة في عدد من البلدان الأفريقية؛ فإن مصر تدرك جيداً مدى أهمية تكثيف حضورها الأمني في القارة السمراء، باعتبار أن «العدول عن المشاركة المصرية ضمن بعثات حفظ السلام، سوف يترك فراغاً عريضاً» ربما تستغله دول أخرى تنافس مصر في خارطة التمركز الفاعل في أفريقيا.

الخبير الاستراتيجي المصري، اللواء سمير فرج، أوضح أن هناك قوات لحفظ السلام تتبع الأمم المتحدة، وأخرى تتبع الاتحاد الأفريقي، وكل له ميزانية منفصلة؛ لكن يتعاونان في هذا المسار الأمني لحفظ الاستقرار بالدول التي تشهد اضطرابات ومصر لها حضور واسع بالاثنين، مؤكداً أن مشاركة القاهرة بتلك القوات يتنامى ويتعزز في القارة الأفريقية بهدف استعادة الحضور الذي عرف في الستينات بقوته، وكان دافعاً ومساهماً لتأسيس الاتحاد الأفريقي والحفاظ على استقرار واستقلال دوله.

وهو ما أكده وزير الخارجية المصري خلال زيارته للكتيبة المصرية بالكونغو الديمقراطية بالقول إن «المشاركة في بعثات حفظ السلام تعكس الالتزام المصري التاريخي بدعم الاستقرار في أفريقيا، والمساهمة الفاعلة في صون السلم والأمن الدوليين».

هذا التأكيد المصري يأتي قبل نحو شهر من المشاركة المصرية في قوات حفظ السلام الأفريقية، بالصومال، حيث أكد سفير مقديشو لدى مصر، علي عبدي أواري، في إفادة، أغسطس الماضي، أن «القاهرة في إطار اتفاقية الدفاع المشترك مع الصومال ستكون أولى الدول التي تنشر قوات لدعم الجيش الصومالي من يناير 2025 وتستمر حتى عام 2029. بعد انسحاب قوات الاتحاد الأفريقي الحالية»، قبل أن تعلن مقديشو، أخيراً «استبعاد القوات الإثيوبية رسمياً من المشاركة في عمليات البعثة الجديدة؛ بسبب انتهاكها الصارخ لسيادة واستقلال الصومال».

الرئيس الصومالي خلال توقيعه قانوناً في يناير الماضي يُبطل مذكرة تفاهم «أرض الصومال» وإثيوبيا (حساب الرئيس الصومالي على «إكس»)

ولم تعلق أديس أبابا رسمياً على هذا الاستبعاد، لكن تحدّث وزير الخارجية الإثيوبي السابق، تاي أصقي سيلاسي، في أغسطس الماضي، عن الموقف الإثيوبي بشأن البعثة الجديدة لقوات حفظ السلام في الصومال، حيث طالب بـ«ألا تشكّل تهديداً لأمننا القومي، هذا ليس خوفاً، لكنه تجنّب لإشعال صراعات أخرى بالمنطقة»، مؤكداً أن بلاده «أصبحت قوة كبرى قادرة على حماية مصالحها».

وعدَّ الخبير الاستراتيجي المصري أن استمرار الوجود المصري في قوات حفظ السلام على مدار السنوات الماضية والمقبلة، لاسيما بالصومال له دلالة على قوة مصر وقدرتها على الدعم الأمني والعسكري وتقديم كل الإمكانات، لاسيما التدريب وتحقيق الاستقرار، مستبعداً حدوث أي تحرك إثيوبي ضد الوجود المصري في الصومال العام المقبل.

فيما يرى الخبير في الشؤون الأفريقية أن الاستعداد القوي الذي أظهرته مصر للمشاركة ضمن بعثة حفظ السلام في الصومال، يأتي من واقع الحرص المصري على استتباب الأمن في هذه البقعة الاستراتيجية في القرن الأفريقي؛ لأن استتباب الأمن في الصومال يعني تلقائياً تأمين حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومن ثم ضمان انسياب الحركة التجارية الدولية عبر قناة السويس. فضلاً عن أن مصر لن تنزوي بعيداً وتترك الصومال ملعباً مميزاً للقوات الإثيوبية، خصوصاً بعدما أبرمت إثيوبيا اتفاقاً مطلع العام مع إقليم «أرض الصومال» لاستغلال منفذ «بربرة» البحري المطل على ساحل البحر الأحمر.

وفي تقدير عبد الناصر الحاج فإن نجاح مصر في أي مشاركة فاعلة ضمن قوات حفظ السلام في أفريقيا، يتوقف في المقام الأول، على مدى قدرة مصر في انتزاع تفويضات واسعة من مجلس السلم والأمن الأفريقي لطبيعة عمل هذه البعثات، بحسبان أن إحدى المشكلات التي ظلت تسهم في إعاقة عمل بعثات حفظ السلام، هي نوعية التفويض الممنوح لها؛ وهو الذي ما يكون دائماً تفويضاً محدوداً وقاصراً يضع هذه البعثات وكأنها مُقيدة بـ«سلاسل».

وأوضح أنه ينبغي على مصر الاجتهاد في تقديم نماذج استثنائية في أساليب عمل قواتها ضمن بعثات حفظ السلام، بحيث يصبح الرهان على مشاركة القوات المصرية، هو خط الدفاع الأول لمدى جدواها في تحقيق غاية حفظ السلام.