أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

ليلى المطوع تربك مسلمات القارئ في روايتها الجديدة

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن
TT

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

أن تكون واقعاً في الأسر بين ماءيْن

لم أحسب، وأنا أقلب الصفحات الأولى من رواية ليلى المطوّع «المنسيون بين ماءيْن»، الصادرة عن «دار رشم» للنشر والتوزيع (2024 )، أنني سأقضي أياماً حافلةً بالدهشة والمتعة والذهول، وأنا مأسور بهذا الكتاب، بصفحاته الـ430، وهو الأسر الذي لا يشتهي المرء التحرّر منه... تماماً كالحب، كالصداقة، كالكتابة.

لم أحسب ذلك لأن ليلى المطوّع كاتبة بحرينية تنتمي إلى الجيل الجديد من كتّاب الرواية الذين ما زالوا يتحسسون طريق الإبداع للوصول إلى موضع التميّز والفرادة. لقد سبق للكاتبة أن أصدرت روايتها الأولى والوحيدة «قلبي ليس للبيع» في عام 2012 ثم توقفت سنوات عن الكتابة.

إزاء الكتابات الشابة، يتوقع المرء أن يقرأ عملاً عادياً أو جيداً، لكن أحياناً يأتي عمل شاب ويخرّب بقوة وفاعلية مثل هذا التوقّع الأرعن. هذا ما حدث لي وأنا أحسب أنني سأقرأ عملاً عادياً لأتفاجأ بوقوعي في شرَك (وهو شرك جميل وفاتن) نصٍ قوي، ناضج، مدهش، سوف يأسرني أياماً وأنا أنتقل من صفحة إلى أخرى، من شخصية إلى أخرى، من حدث إلى آخر، من صورة بديعة إلى أخرى لا تقل عنها فتنةً.

كيف نجحت ليلى المطوّع في فعل ذلك، في أن تجعل ساعات القراءة متخمةً بما هو آسر ومذهل، في انتزاعي من بلادة اليقين وقذفي في لجّ السؤال والغموض.

مونتاج بارع

الكاتبة هنا تتقن ببراعة عملية التلاعب بالقارئ، ليس بالمفهوم السلبي، لكن بالمعنى الدقيق للإثارة والتشويق. هي لا تسرد الحدث كحكاية تقليدية ذات بداية ووسط ونهاية، بل تلجأ إلى تقطيع الحدث وبعثرته، عبر مونتاج بارع، لكي يتولى القارئ بنفسه تركيب أجزاء الحكاية وتوصيلها، واستنباط المغزى والمعنى. وهي لا تعتمد البناء السردي التقليدي، وإنما تلجأ إلى التشظي والانتقالات المفاجئة، معتمدةً - كمراجع ومصادر - على كمٍّ هائل من الوثائق والكتب التاريخية والأساطير القديمة والحكايات والمعتقدات الشعبية والمقابلات المعاصرة والدراسات في علم البيئة والإنسان والميثولوجيا.

بين الوثائقي والسردي، الواقعي والتاريخي أو الأسطوري، اليومي والسحري، العادي والشعائري، العقلاني والغيبي، التقريري والغرائبي، المباشر والمتخيّل، تنقلنا الكاتبة، بمهارة وبراعة، من موضع إلى آخر، فتأخذنا إلى البعيد القديم ثم تعيدنا إلى الحاضر القريب، لتأخذنا ثانيةً... هكذا ذهاباً وإياباً، وتدعنا نتأرجح بين الأزمنة، بين الماضي والحاضر، مأخوذين باللغة الجميلة والسلسة، بالصور النابضة الحيّة، بالسرد الشيّق، بالوصف الباهر، بالانتقالات الرشيقة، بالمخيّلة الخصبة، بالحساسية الشعرية العالية.

بفعل ذلك، الكاتبة لا تدع القارئ في وضع الاسترخاء والاطمئنان، والثقة بقدراته الخاصة في التقييم والتحليل والحكم، بل تربك مسلّماته وترجّ ما استقر عليه من فهم وإدراك، ليجد نفسه مرغماً على استجواب أفكاره ومفاهيمه وتصوراته بشأن رؤيته للتاريخ والماضي، ولعلاقة الإنسان ببيئته ومحيطه وعالمه، ولدور المعتقدات في تشكيل وعيه.

والكاتبة لا تكتفي بهذا وإنما تمعن في إثارة القارئ وتحفيزه، واقتحام المواضع المستقرة في وعيه وإدراكه بما يستفزّه ويحثّه على البحث والمساءلة والجدل، إذ كلما ظن أنه اكتفى ورأى ما يكفي ليستوعب، فاجأته بما هو أكثر إثارةً وغموضاً.

وأنت تقرأ من الأفضل أن تؤجل البحث عن أجوبة لأسئلتك الوفيرة، وأن تكبح رغبتك المعتادة في فك شفرات النص والحفر في الرموز والمجازات، حتى تنتهي من قراءة الكتاب كله. بين الصفحة والأخرى يمكنك أن تتوقف قليلاً وتتأمل في ما قرأت، ثم تواصل. لكن تجنّب إطلاق الأحكام السريعة، التي تعتقد أنها ذكية وحاسمة، بشأن ما تقرأه في كل صفحة. ثق بالكاتبة، ستكون دليلك الأمين. سرْ معها على مهل وبرويّة. من دونها تضيع. ستأخذك في رحلة طويلة إلى أقاليم لم ترها ولم تختبرها من قبل، وسوف تتمنى ألا تنتهي هذه الرحلة.

ستأخذك الرواية إلى عوالم بعيدة وأخرى قريبة عبْر ذاكرة المكان، ذاكرة الماء، ذاكرة النوارس، ذاكرة بشر يتأرجحون بين حاضر يتآكل وماضٍ يزداد غموضاً.

سوف ترتاد مناطق يحرص سكانها على قراءة البحر والريح والنجوم والنخيل، وسوف يطلبون منك أن تتبع الماء والشمس والطيور والأسماك... حتى تصل ولا تضيع، حتى يكتشف الأشخاص ذواتهم، هوياتهم.

حضور مائي طاغ ومقدس

طوال الرحلة سيكون البحر حاضراً بكل تناقضاته وصوره المتباينة المتنوعة. بكل وداعته وجبروته، طيبته ووحشيته، كرمه وجشعه، حنانه وغدره.

وللماء، في الرواية، حضوره المتعدّد والكلّي.. وله قدسيته «لا تطأ الماء إلا بنيّة صافية». مياه عذبة ومياه مالحة.. يلتقيان لكن لا يختلطان.

وأنت تقرأ، تحس بالماء يحيط بك، يتحسسك، يغمر حواسك، يدخل فيك، من فمك وأنفك وأذنيك، لكنه لا يغرقك مثلما يفعل مع من يقطن النص. الماء في كل مكان. تسمع، وأنت تقرأ، خريره، انسيابه، ارتطامه الوديع بك.

لكن الماء يعاقب أيضاً. إنه يجلد من يرتكب إثماً أو خطيئة. يخطف، يخنق.

البحر لا أمان له. يلبس جلد الأرض ليخدع البشر ويبتلعهم، ثم يخلع الجلد. أحياناً يتداخل الكائن والبحر، يتمازجان، يتحدان. وأحياناً يتحوّل الكائن إلى شبيه، أو إلى آخر. وقد يصبح مسخاً.

طوال الرواية نشهد الصراع العنيف بين عناصر تعايشت لآلاف السنين حتى وقع الشر وحدث الشقاق نتيجة جشع وجهل وقسوة قوى خارجية، دخيلة. صراع بين بحر يدافع عن وجوده بعد أن تمت محاصرته وتطويقه، ثم خنقه بالرمال عبْر الردم والدفن، حيث تسبّب ذلك في جفاف العيون والينابيع، وموت الشجر، وهجرة الطيور.. وأرض، يابسة، تريد التوسّع أكثر، لإقامة المشاريع العمرانية والطرق العامة، فتقرض البحر جزءاً جزءاً حتى تدفنه.

عنف وقرابين

العنف ملمح بارز في الرواية. يمارسه الإنسان في دفاعه عن نفسه وأهله وموطنه، وفي محاولته للامتلاك ملبياً غريزة الجشع والشهوة والجوع والحاجة والسلطة. وتمارسه الطبيعة عندما تغضب وتهيج ويتلاعب بها الناس.

الرواية حافلة بالقرابين، الأضاحي، البشرية والحيوانية والنباتية... وفي كل قربان عنف... بصورة أو بأخرى.

ثمة شخوص تظهر وتختفي، بعد أن تترك أثراً غائراً في متن النص، وفي وعي القارئ وذاكرته. إذ حتى في غيابها تظل حاضرة. ولكل شخصية سماتها المتميزة، أبعادها الخاصة، همومها، طموحها، أسرارها:

ناديا هي الشخصية المحورية، المعاصرة، التي تمسك بكل الخيوط، بالشخوص والأحداث. إنها تشهد حوادث عديدة مبهمة ولا تفسير لها. وهي تسعى إلى الكشف عن غموض الظواهر الغريبة التي تحدث من حولها. تبحث في أوراق جدها، وجدتها التي كانت متيّمة بالنخيل والينابيع، ودافعت بشراسة عن حق البحر في الوجود. ناديا ممسوسة بفكرة من سيكتب سيرة الماء. يوماً ما تنفجر فجأة العيون والينابيع في الجزيرة، ويختفي الأطفال، ومن بينهم ابنتها.

سليمة الحبلى، الثكلى بعد تقديم ابنتها الصغيرة، الوحيدة، قرباناً لنبع ماء آخذ في الزوال، وبعد مقتل زوجها بوحشية على يد الوالي. إنها تلاحق شخصاً معيّناً من أشراف أهل الجزيرة وأشجعهم وأشعرهم، هو طرفة بن العبد. من أجل أن يرى جنينها النور ولا يموت مثل بقية أولادها، يتوجب عليها أن تنتظر مقتل طرفة، فتقفز على جسده المحتضر يميناً ويساراً حتى تتبارك بآخر أنفاسه. وهذا ما يحدث بالفعل، لكن الوالي يأمر بقتلها فتهرب، ولكي تنجو عليها أن تتبع الماء.

إيا ناصر، البذرة الطالعة من رحم ما يعدّه المعبد خطيئة، فيحكمون على أبيه بالموت غرقاً، وتنتحر أمه حزناً. رضع إيا من ثدي امرأة مسكونة بالأرواح وتعيش مثل البهيمة. يكبر ويبرع في نقش الأختام. يرسله المعبد مع آخرين في بعثة للدراسة. أثناء الرحلة يقتل تلميذاً، وصديقه يتحوّل إلى وحش بحري. عندما يختارون حبيبته لتكون قرباناً، يحاول إنقاذها فيعصي بذلك تعاليم المعبد.

إزاء الكتابات الشابة يتوقع المرء أن يقرأ عملاً عادياً أو جيداً لكن أحياناً يأتي عملٌ ويخرّب بقوة وفاعلية مثل هذا التوقّع

تأرجح بين المتناقضات

في حكاية أخرى، نجد مراهقاً يعشق امرأة ليكتشف أنها مجرد نبع يتجسد في هيئة امرأة جميلة تختطف الرجال والأطفال. هي تبادله العشق وتريد امتلاكه. عندما توشك على ابتلاعه، يتخلص منها. يتزوج ابنة عمه. هي تتمكن من اختطاف ابنه. ينتقم منها بدفن العين، بخنقها. غير أنها تنطلق من أسرها وتأخذه معها إلى باطن الأرض، في عناق طويل وأبدي.

يعقوب، الطويل والقوي، يكرّس نفسه للآلهة. يعمل في الدير خادماً للرب. طموحه أن يتقدّس ويسير على الماء. يعشق امرأة وهبت نفسها للدير، فقد جاءت إلى هنا لتكفّر عن ذنبها، إذ أغرقت أبناءها الصغار في البحر نذراً له. هي تبادل يعقوب العشق. تحبل منه. وعندما يحين المخاض لا تجد القابلة في الرحم غير الماء. فيما يعومان ليلاً، يغافله البحر ويغرقها. يغضب يعقوب ويمارس شعائر طرد البحر. عقاباً له على فعلته، يدفنونه في الرمل لكي يغرقه البحر.

درويش، البارع في نقش أبيات الشعر والآيات على الحجر والأجساد والجدران وشواهد القبور، لا يشعر بالانتماء إلى المكان والناس. يسمونه عاشق أو عابد الحجر. في النهاية يذهب صاغراً إلى البحر ليبتلعه.

ومع مهنا ننتقل إلى فترة الغوص. هو ابن غواص. ينتزعه النوخذة وهو صغير من أمه ليسدّد ديون أبيه، الذي تسبب النوخذة في موته. يكبر مهنا ويصير غواصاً. في هذا الفصل، تكشف الكاتبة عن معرفة غزيرة وعميقة بعالم البحر، في مستوييه السطحي والعمقي. في الواقع، نلمس هذه المعرفة العميقة في كل فصول الكتاب.

نلاحظ أن أغلب الشخوص تتأرجح بين البراءة والخطيئة، الخوف والجسارة، العفة والشبق، الوداعة والعنف، المقدّس والمدنّس، الولادة والموت.

تنتهي الرواية برؤيا غريبة، مخيفة، إذ يتحوّل سكان الجزر إلى بحر.. بالأحرى، إلى موجة واحدة عالية تلتهم كل شيء.

بهذا النص الفاتن، تخلق ليلى المطوّع أسطورتها الخاصة، معلنةً بثقة أنها واحدة من أهم كتّاب الرواية العربية.

* كاتب وناقد بحريني


مقالات ذات صلة

الانفعال بين علم النفس والأدب

كتب توماس ديكسون

الانفعال بين علم النفس والأدب

كتاب صغير عن موضوع كبير. ففي نحو 150 صفحة من القطع الصغير، تحت عنوان «تاريخ الانفعالات: مدخل بالغ الإيجاز»

د. ماهر شفيق فريد
كتب غلاف موت صغير

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

كان لترجمة الدكتورة، مارلين بوث، رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» دور في تقوية اهتمام صغير لديّ؛ الاهتمام بتغيّر، أو ضياع العناوين الأصلية لبعض الروايات العربية

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة

حامل الطير... تمثال برونزي من موقع «مليحة» الأثري

من موقع «مليحة» الأثري في إمارة الشارقة، خرجت مجموعة من القطع البرونزية المتعدّدة الأشكال والأنواع، منها تمثال برونزي من الحجم الصغير يمثّل شاباً فتياً

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الطفولة المهدرة والشباب الضائع في «ليالي الرقّة الحمراء»

الطفولة المهدرة والشباب الضائع في «ليالي الرقّة الحمراء»

صدرت حديثاً عن منشورات رامينا في لندن رواية «ليالي الرقّة الحمراء» للروائيّ الكرديّ السوريّ آلان كيكاني.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

إسماعيل كاداريه وكوابيس ألبانيا

إن الكاتب العظيم الذي يعيش معزولاً ليس له سوى أن ينتظر الساعة التي يُرسل فيها إلى القبر.

حسونة المصباحي

حامل الطير... تمثال برونزي من موقع «مليحة» الأثري

تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
TT

حامل الطير... تمثال برونزي من موقع «مليحة» الأثري

تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة
تمثال برونزي من محفوظات مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة

من موقع «مليحة» الأثري في إمارة الشارقة، خرجت مجموعة من القطع البرونزية المتعدّدة الأشكال والأنواع، منها تمثال برونزي من الحجم الصغير يمثّل شاباً فتياً يقف منتصباً بثبات، حاملاً بيده اليمنى طيراً.

تتبع هذه المنحوتة بشكل واضح نسقاً فنياً نشأ في جنوب الجزيرة العربية، وانتشر في نواحٍ كثيرة من هذا الإقليم، غير أنها تتميّز بحضور عنصر تصويري غير معهود، يتمثّل في هذا الطير فوق يد حامله المرفوعة نحو الأعلى.

يبلغ طول هذا التمثال البرونزي 18 سنتيمتراً، ويتألف في الأصل من قطعة واحدة تعرّضت للتلف، فانقسمت، وباتت مكوَّنة من كتلتين منفصلتين، عُثر على الكتلة العليا في موقع، وعُثر على الكتلة السفلى في موقع آخر، وجرى جمعهما وترميمهما، فاستعاد التمثال شكله الأصلي، غير أنه فقد للأسف جزءاً كبيراً من ذراعه اليسرى.

اكتُشف هذا المجسّم في أثناء أعمال المسح والتنقيب «على سطح» الأنقاض، كما يشير التقرير العلمي، أي خارج موقعه الأصلي، ويوحي حجمه وتكوينه بأنه تمثال نذري يعود إلى معبد أو إلى مزار خاص بأحد المساكن، وقد خرج من موقعه، وغرق تحت رمال الصحراء مع اضمحلال مملكة «مليحة» وتلاشيها في القرن الميلادي الرابع.

تُجسّد هذه المنحوتة الجذابة شاباً أمرد يقف منتصباً في وضعية يغلب عليها الجمود؛ الصدر عارٍ، واللباس يقتصر على مئزر طويل يلتفّ حول الخصر، وينسدل حتى أخمص الساقين، كاشفاً عن قدمين عاريتين مستقيمتين، حُدّدت أصابعهما بشكل هندسي، فقد هذا المئزر سمات تفاصيله، وما بقي منها يُظهر شقاً عمودياً في الوسط، وحزاماً معقوداً ذاب في الكتلة البرونزية. يستقرّ الرأس فوق عنق عريضة تخرج من وسط كتفين مستقيمتين، منتصباً في وضعية المواجهة، محدّقاً إلى الأمام. الوجه دائري، العينان حدقتان فارغتان ومجردتان من أي تفصيل، والأنف كتلة مستطيلة ناتئة، والثغر شق مقوّس يرسم ابتسامة جليّة تُضفي على هذا الوجه طابعاً نضراً جذاباً.

خصل الشعر التي تكلّل الرأس ذائبة في الكتلة البرونزية، وهي محاطة بإكليلَين متوازيَين يشكّلان على ما يبدو طرف قلنسوة. الصدر أملس، ويخلو من أي إشارة إلى مفاصله. الجزء الأعلى من الذراع اليسرى ملتصق بالبدن.

في المقابل، تخرج الذراع اليمنى عن حالة الجمود التي تسود القامة، وترتفع نحو الأعلى، حاملة فوق قبضة يدها طيراً يظهر في وضعية جانبية تخلو من أي حركة حية، يحضر هذا الطير في قالب تحويري مجرّد بحيث يصعب تحديد فصيلته، وهو من الحجم المتوسط، ويتميز بمنقار طويل بارز، وعنق عريضة، وذنَب قصير.

في الخلاصة، يحضر هذا الشاب الأمرد في وضعية المتعبّد المبتهل، ويقف بخشوع حاملاً إلى معبوده تقدمة تتمثّل بطير يبدو أشبه بعصفور كبير فحسب.

يتبنّى هذا التمثال طرازاً معروفاً نشأ في جنوب الجزيرة، حيث عرف انتشاراً واسعاً على مدى قرون من الزمن، ويتجلّى هذا الطراز في كتلة واحدة مستطيلة تخرج منها ذراعان متقدّمتان إلى الأمام في خطوط شبه مستقيمة، بحيث تمثّل كل ذراع في ثنيتها زاوية قائمة، يخلو الجسد من النسب التشريحية، وتبدو نسبته صغيرة للغاية قياساً إلى رأسه الكبير. الوجه في أغلب الأحيان دائري، والرقبة غليظة وقصيرة. العينان لوزتان واسعتان، الأنف مستقيم، والثغر منمنم، ويتألف من شفتين مضمومتين تكشفان في كثير من الأحيان عن ابتسامة لطيفة تميّز بها هذا النسق الفني الخاص بجنوب جزيرة العرب.

اتخذ هذا النسق في بعض الأحيان طابعاً مختلفاً تجلّى في ظهور المبتهل بقامة طويلة تراعي النسب التشريحية الواقعية، غير أن هذه القامة حافظت على الوضعية الأصلية التي عُرف بها، وبقيت ذراعاها مرفوعتين إلى الأمام في وضعيّة الابتهال التقليدية، ويظهر هذا النسق في كثير من التماثيل، أشهرها تمثال محفوظ في متحف صنعاء يُعرف بتمثال «معدي كرب»، وهو اسم صاحبه الذي كرّسه للمعبود «ألمقة»، سيد السلامة والحماية في مملكة سبأ، كما تقول الكتابة المنقوشة على ثوبه.

يتبنّى التمثال طرازاً معروفاً نشأ في جنوب الجزيرة حيث عرف انتشاراً واسعاً على مدى قرون من الزمن

إلى جانب هذا التمثال الذائع الصيت، تحضر تماثيل نذرية كثيرة تشابه في تكوينها تمثال «مليحة»، منها على سبيل المثل تمثال آخر من محفوظات متحف صنعاء، مصدره معبد أوام، الشهير بمحرم بلقيس.

بلغ هذا الطراز نواحي أخرى تقع خارج جنوب الجزيرة، كما يشهد تمثال برونزي من الحجم الصغير محفوظ في متحف قسم الآثار الخاص بجامعة الملك سعود في الرياض، مصدره قرية الفاو، القالب واحد وثابت، والرأس منتصب في وضعية المواجهة فوق كتفين مستقيمتين، تتقدّم الذراع اليسرى إلى الأمام بثبات، وتشكّل في ثنيتها زاوية مستقيمة.

في المقابل، ترتفع الذراع اليمنى نحو الأعلى، وتظهر في قبضة يدها عصاً ذات رأس دائري يصعب تحديد هويّتها.

على صدر هذا التمثال تظهر كتابة منقوشة تتألف من 4 أسطر، ضاع الجزء الأكبر من أحرفها، ويوحي حضور عبارة تعني «أهدى» بأن هذه القطعة هي في الأصل تمثال نذري أهداه متعبّد إلى معبود ضاع اسمه للأسف.

يبدو تمثال «مليحة» مشابهاً لتمثال الفاو، غير أنه لا يماثله بشكل مطابق، من جهة أخرى، يتميّز هذا المجسّم بحضور الطير الذي يرفعه حامله كأنه تقدمة يُهديها إلى معبوده، ويبدو أنّه يتفرّد بهذه التقدمة غير المألوفة.

كشفت حملات التنقيب المتواصلة في «مليحة» عن نقوش سبئية كثيرة، كما كشفت عن مسبوكات تحمل كتابات بهذا الخط، كذلك خرجت من هذا الموقع قطع فنية تحمل الطابع الفني الخاص باليمن القديم، ويبدو تمثال حامل الطير قطعة من هذه المجموعة التي تظهر العلاقة التي ربطت «مليحة» بجزيرة العرب، في زمن احتلّت فيه مكانة عالية على طريق الحرير البحري، وشكّلت محطّة تجارية رئيسية في هذه الناحية من شمال شرقي شبه الجزيرة.