معجم لأغان وأبيات شعرية في أدب محفوظ

دراسة تكشف انعكاسها على أعماله الروائية والقصصية

معجم لأغان وأبيات شعرية في أدب محفوظ
TT

معجم لأغان وأبيات شعرية في أدب محفوظ

معجم لأغان وأبيات شعرية في أدب محفوظ

يكشف كتاب «الغناء والطرب في أدب نجيب محفوظ» للباحث والأديب علي قطب، مدى انعكاس عالم الموسيقى والتطريب في قصص وروايات أديب نوبل. ويوثق هذا بمعجم للأغاني وأبيات الشعر الواردة في هذه الأعمال.

صدر الكتاب أخيراً عن «دار الحكمة» بالقاهرة، وفي بدايته يشير المؤلف إلى جماليات توظيف محفوظ لأغاني الروح الشعبية الجمعية، وكيف يتمثلها تمثيلاً تعبيرياً بارعاً. كما استخدم النموذج الغنائي لعرض قضية الفن من منظور رمزي، مستحضراً -على سبيل المثال- شخصية المطرب الشعبي محمود شكوكو، بدمجها في نسيج الأحلام، بما فيها من عبور إلى عالم اللاوعي، عن طريق المفردات اليومية الحيوية التي تحمل في الأحلام دلالات عميقة.

يكتب محفوظ في «أحلام فترة النقاهة» قائلاً: «وصلتني دعوة عشاء في بيت قريب عزيز، ولما اقتربت من الباب رأيت أفواجاً من المدعوين يدخلون، فأدركت أن الدعوة عامة، ورأيت بين القادمين نخبة من جيل الأساتذة، وأخرى من جيل الزملاء، وتبادلنا التحية وبعض الكلام. كان ما أجمعوا عليه أنهم يقيمون الآن في قرية كرستوفر، وقبل أن أفيق من دهشتي رأيت شكوكو قادماً نحوي قابضاً على فخذة خروف محمرة، وسلمها لي يداً بيد، وذهب وهو يضحك».

وبما أن الأغنية عمل فني جماهيري له حضوره في الذاكرة الشعبية، فإن ذكرها يأتي في أعماله محيلاً إلى الواقع أو التاريخ، أو إلى موقف له رصيده في السياق الجمعي. ومن خلالها استطاع محفوظ أن يصل النص السردي بالعالم الذي يعبِّر عنه ويتلقاه من جهة، وأن يفتح أفقاً جديداً للأعمال السينمائية التي تتناول نصوصه من جهة أخرى.

وعلى سبيل المثال: تعاون السرد والفيلم معاً على بلورة صورة لحقبة الستينات، حين تناول المخرج كمال الشيخ رواية محفوظ الشهيرة «ميرامار»، وهي تقوم على تعدد الأصوات في بنية دائرية. وهذه الأعمال من الصعب تناولها في السينما بالبناء نفسه. تقيم الشخصيات معاً في «بنسيون ميرامار» الذي تديره «ماريانا» اليونانية، وتخدم فيه «زهرة» الريفية المصرية، ويشترك الجميع في الاستماع إلى حفل أم كلثوم الشهير الذي يُبث كل شهر من المذياع على الهواء.

لم يحدد نجيب محفوظ أغنيات معينة تقولها أم كلثوم في السياق الروائي؛ لكن الفيلم كان في حاجة إلى صوت أم كلثوم بالطبع ليُظهر انفعالات الشخصيات بالغناء، وكيف أن كل شخصية ستتفاعل مع الغناء بطريقتها، ومن خلال ذلك التفاعل ستتضح ملامح الشخصيات بعمقها الشعوري وذوقها وتوجهاتها الفكرية. واختار سيناريو الفيلم الذي أعده ممدوح الليثي أغنية «إنت عمري» لتكون الخلفية التي يسهر عليها رواد البنسيون وصاحبته «ماريانا» والعاملة «زهرة». وهذا الاختيار يمثل مرحلة الستينات في عمل تاريخي معروف في الحياة الفنية المصرية والعربية بـ«لقاء السحاب» بين كوكب الشرق وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.

كذلك في رواية «المرايا» يعلن الراوي عن نفوره الطبيعي من الغناء «الإفرنجي»؛ لكنه يتابع ذاك الغناء بموسيقاه وعروضه من باب الاطلاع فقط. هذا الراوي الذي وضعه المؤلف لإدارة الخطاب والحركة الدرامية والربط بين الشخصيات المنفصلة، يبدو قريباً من شخصية نجيب محفوظ نفسه الذي تعلم العزف على آلة «القانون» بشرقيتها الشجية.

ويوضح المؤلف أن الأغاني لم تكن حاضرة عند نجيب محفوظ بوصفها وحدات ربط مع المرجعية الواقعية أو التاريخ فقط، ولم يستخدمها كقطع للديكور أو الزينة في أعماله، إنما يعبر بها عن المكون النفسي للمجتمع، ويستخرج من الظاهرة الغنائية قضايا مهمة، كما في راوية «السراب»؛ حيث يعالج قضية الصراع الحضاري من داخل البنية الدرامية، فيتخذ من شخصية الطبيب الذي تعلم في الغرب نموذجاً للشخص المغرم بالثقافة الأوروبية؛ لكنه يظل محتفظاً برابط يصله بالذوق الشرقي. وهذا ما يتضح في هذا المقطع: «ضحك جبر بك وقال: ما زلتَ ساخطاً متبرماً، ألا تجد في مصر ما يستحق إعجابك وتقديرك؟ فأدار الدكتور عينيه البراقتين في الحاضرين، وقال مبتسماً: بلى، أم كلثوم. وضجوا جميعاً بالضحك، وجعلت أصغي إليه باهتمام واستغراب، ولكني لم أكد أفقه معنى لما يقول، وعجبت لمن يشغلون أنفسهم بهذه الأمور وأمثالها. أليس في حياتهم هموم تشغلنا عنها؟ وتمثل لي في حديثه رجل علم ورأي وثورة، بادي الغرور والعجرفة، وكم كانت دهشتي كبيرة حين ذكر أم كلثوم كالشيء الوحيد الذي يستحق إعجابه في البلد. وتساءلت في حيرة: أيعشق الغناء حقاً من كان ذا جد وصرامة وحدة كهذا الدكتور المجنون؟ ولما كنت أحب الغناء فقد ارتحت لهذه المشاركة الوجدانية».

وفي رواية «خان الخليلي» يعكس محفوظ أجواء جلسة مناقشة بصدد الغناء، يشترك فيها أهل الحي في حضور شخصية الوافد الجديد «أحمد عاكف» الذي يحاول إثبات وجوده في الحوار، لحذره من شخصية «أحمد راشد» المحامي الذي يمثل الثقافة المتطورة في الحي. ويظهر الراديو في الحوار بوصفه مصدر الغناء، في إشارة لتطور سبل الحياة آنذاك، وهو الخط الذي يحرص محفوظ على متابعته، ويتجلى في روايته «زقاق المدق»، حين يطرد المعلم «كرشة» عازف الربابة الذي يحكي السيرة الشعبية من المقهى، وفي «الثلاثية» حين ينطلق صوت الراديو في فضاء البيت، ويطلب «سي السيد» من «الست أمينة» أن تترك الراديو دائراً حتى بعد نومه.

يضع نجيب محفوظ الحوار بصدد الأغاني لتصوير الحركة الذهنية لدى شخصية «أحمد عاكف»: «كان الراديو يذيع بعض الأسطوانات، بينما أخذ الرجال في الحديث، وأراد كمال خليل أن يشرك القادم في حديثهم، فقال له متسائلاً: وما رأي الأستاذ أحمد عاكف في الغناء؟ أيفضل القديم أم الحديث؟ ويل للشجي من الخلي. ولكن ألم يجئهم ملتمساً العزاء في لغوهم؟ بلى. وإذن فليدل بدلوه، وليكونن من الشاكرين. وكان مغرماً بالغناء، وهل تلد أمه إلا مغرماً بالغناء؟ إلا أنه يفضل القديم وما يتبع طريقته من الحديث بحكم العادة وبوحي النشأة الأولى، فقد سمع أول ما سمع أغنيات القيان وأسطوانات منيرة المهدية وعبد الحي والمنيلاوي، فاختلس نظرة من خصمه أحمد راشد المخبأة معارفه وراء النظارة السوداء، ثم قال: الغناء القديم هو الطرب الذي يأسر نفوسنا بغير عناء، فصاح المعلم زفتة بسرور: الله أكبر، وصفق المعلم نونو ثلاثاً، أما سيد عارف فتساءل: وأم كلثوم وعبد الوهاب؟ فقال أحمد عاكف، وقد اختلس من خصمه نظرة أخرى: عظيمان حين يرددان من وحي القديم، تافهان فيما عداه. فقال سيد عارف: أم كلثوم عظيمة ولو نادت: ريان يا فجل». بما أن الأغنية فن جماهيري

له حضوره في الذاكرة الشعبية

فإن ذكرها يأتي في أعمال محفوظ

محيلاً إلى الواقع أو التاريخ

أو إلى موقف ما


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.