فتحي التريكي: لإحياء الفلسفة لا بد من أن تنفتح على الفضاء العمومي

المفكر التونسي يرى أن هناك تجنياً على الفكر العربي... والتفلسف العربي خاصّة

فتحي التريكي: لإحياء الفلسفة لا بد من أن تنفتح على الفضاء العمومي
TT

فتحي التريكي: لإحياء الفلسفة لا بد من أن تنفتح على الفضاء العمومي

فتحي التريكي: لإحياء الفلسفة لا بد من أن تنفتح على الفضاء العمومي

> أنت رئيس «معهد تونس للفلسفة». ما الغرض من تأسيس هذا المعهد، وما إنجازاته حتى الآن؟

- تأسس «معهد تونس للفلسفة» نتيجة توصية من قبل المشاركين في الندوة العالميّة «الفلسفة والثقافة» التي انعقدت في تونس سنة 2018 برعاية وزارة الشؤون الثقافية، وقد تمحور كثير من التدخلات حول تصوّر إبداعي نقدي وتأويلي للفلسفة يقرّبها من المشاغل الفكريّة والثقافية المتنوّعة. فجرى تكوين «معهد تونس للفلسفة» سنة 2019. ويهدف «المعهد» إلى صياغة المعارف والأفكار والمفاهيم التي من شأنها تعميق المقاربات الفلسفية والثقافية في تونس والمحيط المتوسطي والعربي، والتشجيع على الاهتمام بالاختصاصات والفروع الجديدة والمتجددة في الدراسات الفلسفية والثقافية. كما يصبو إلى تنشيط الحياة الفكرية المنفتحة على الجديد في تونس وفي العالم من خلال التظاهرات الدورية والمؤتمرات والدروس الحرة والمحاضرات والندوات؛ من أجل تعزيز حضور الفلسفة والثقافة في المجتمع التونسي. وقد خصّص «المعهد» في هذا المضمار دراسات حول منزلة الفلسفة في الفكر التونسي منذ العصر القرطاجي، فأصدر مجموعة من الكتب تؤرّخ لذلك. وقد تناول نشاط «المعهد» منذ نشأته مواضيع عدّة مهمّة متّصلة بالحياة الثقافية العامة، فقد خصّص حيزاً مهماً لدراسة العلاقة بين الفلسفة والأدب والفنون، كما اهتمّ بالفلسفة التطبيقيّة، كالأخلاقيات العمليّة والكتابة النسويّة الجندريّة والفكر ضدّ الكولونياليّة والفلسفة البيئيّة؛ تلك الممارسات الفلسفيّة التي لا تُدرّس في الجامعات والتي لها صلة وثيقة بالثقافة العامة. واهتمّ أيضاً بالفلسفة التأويلية والنقديّة وعلاقتها بواقعنا الفكري. كما فتحنا مؤخّراً ملف علاقة العلوم بمجتمعاتنا لدراسة العوائق التي تجعلنا غير قادرين على الإبداع العلمي. تلك بعض المواضيع التي طرحناها للدرس والنقاش وأصدرنا حولها عشرين كتاباً.

> مؤخراً انتظمت في تونس ندوة بعنوان: «نحو تفكر فلسفي جديد» شارك فيها مفكرون مغاربة... ما حصيلة هذه الندوة؟ وما أهم الأفكار التي طرحت خلالها؟

- هي فعاليّة ذات أهمية قصوى بالنسبة إلى الفكر العربي حالياً. فقد قامت «مؤسّسة الفكر العربيّ» بالاشتراك مع «معهد تونس للفلسفة»، وبالتعاون مع «الإيسيسكو»، بتنظيم ندوة عنوانها: «نحو تفكر فلسفي عربي جديد» في تونس أيام 9 و10 و11 مايو (أيار) 2024، شاركت فيها مجموعة مهمة جداً من فلاسفة بلدان المغرب العربي؛ ونعني موريتانيا والمغرب والجزائر وليبيا وتونس، وحضرها جمهور غفير من المثقفين والمفكرين التونسيين والأجانب، وكانت هذه الندوة تحت رعاية وزارة الشؤون الثقافية التونسية. والحقيقة أنّ «معهد تونس للفلسفة» منذ نشأته سنة 2019 وهو يعمل على انفتاح الفلسفة الكامل على الفضاء العمومي خدمة للثقافة التونسيّة والعربيّة، عادّاً أنّ الفلسفة إذا بقيت سجينة الأكاديميّات والمدارس فستندثر وتتبدّد. لذلك لا بدّ من تجديدها وتحريرها والخروج بها إلى هموم الناس لتتأقلم مع احتياجات مجتمعاتنا ولتستجيب لقضايانا. فكانت الغاية من تنظيم هذه الندوة في زمن الثورة التكنولوجيّة والرقميّة الهائلة، تتمثّل في تطوير الفلسفة بمعنييها الأصلي والواقعي؛ تلك التي تهتم كما يقول الفارابي «بالفضائل النظريّة أولاً، ثمّ بالفضائل العمليّة». فالفلسفة لا تقتصر على بعدها النظري والميتافيزيقي والأنطولوجي، فهي أيضاً ذات بعد عملي تطبيقي يتلخّص في عمليّة تشخيص واقع الإنسان ومقتضياته ومستتبعاته بأدوات نظريّة وطريقة بحثيّة نقديّة تعتمد «خدمة المفاهيم» والتصوّرات. والفلسفة هي أيضاً ربط هذا التشخيص المتعلق بالواقع المعيش بإمكانيّة التغيير والإصلاح بحثاً عن سعادة الإنسان القصوى. فكان من نتائج هذه الندوة الدعوة إلى تنويع مسارات الفكر الفلسفي في ربوع البلدان العربية حتى تتجدّد وتحدث قفزة نوعيّة تجعلها مقبولة لدى الجميع. وأعطت الندوة عيّنة من هذه المسارات؛ مثل فلسفة الحياة اليوميّة، والأخلاقيات العلميّة والاجتماعيّة، والفلسفة الاجتماعيّة، وفلسفة القانون، والفلسفة النسويّة، وفلسفة الأدب، والفلسفة الموجّهة إلى الأطفال، والفلسفة الإيكولوجيّة. هذا التنوّع في المواضيع والمناهج يعطي صبغة ضروريّة للتفلسف اليوم في عالمنا العربي إذا كانت هناك إرادة للتطوّر العلمي والفكري والثقافي.

> خلال السنوات الأخيرة تكاثرت الندوات الفلسفية مشرقاً ومغرباً... فهل هناك أمل في إحياء فلسفي في العالم العربي؟

- نعم هناك أمل في إعادة إحياء الفكر الفلسفي عندنا بعد أن هيمنت على العالم العربي آيديولوجيتان خطيرتان: الآيديولوجيّة القوميّة التي وجّهت الشباب نحو تمجيد فكر فلسفي فارغ يقوم على مغالطات وسرديات منغمسة في نفخ الذات، فهو عصر «نحن والتراث» و«التراث والتجديد»؛ عصر بنية العقل العربي وكأن لكل ثقافة عقلها الخاص بها، فضاع الشباب العربي في منعطفات تلك الصراعات الآيديولوجيّة التي لا تنتهي. والآيديولوجيّة الإسلاميّة التي لا ترى في التفكير إلا صبغتها المرجعيّة لحضارة الإسلام الأولى فتكتفي بإعادة صياغتها في ضوء مستجدّات عصرنا. والآيديولوجيتان لا تقبلان النقد والتفكيك، فتنصهران في الدوغمائية التي قد تصل إلى العنف الشديد. هكذا تأدلجت الفلسفة وتاهت وكادت تنقرض في العالم العربي، لولا جهود بعض الفلاسفة والمهتمين بالشأن الفلسفي، لا سيما في تونس وفي بلدان عربيّة أخرى، وكان ذلك بالتصدي؛ نقداً وتشخيصاً وتوضيحاً، لذلك المنحى الثقافي الآيديولوجي، أو بالعودة الجريئة إلى الفلاسفة غرباً وشرقاً لإعادة قراءتهم والتعريف بهم وتحليل نظرياتهم وإبراز إضافاتهم، فلعب بذلك تاريخ الفلسفة في تونس دور الفلسفة حفاظاً على خصوصيّتها وإنقاذها من «الآيديولوجي المهيمن». وما علينا الآن إلّا أن يقوم المختص في الفلسفة بدوره لغرس الفكر النقدي لدى عامة الناس، ولن يكون ذلك سهلاً؛ لأن سلطة السياسي تعاقدت مع سلطة التكنولوجي وسلطة الديني لضرب كل فكر نقدي في عالمنا العربي، لتكون الفلسفة نضالاً مستمرّاً من أجل الفكر النقدي المبدع والخلاق.

> كيف يمكن مقاومة الإسلام السياسي فلسفياً؟ ومن هم الفلاسفة العرب والمسلمون الذين تتوجب العودة إليهم؟

- إنّنا إذا قاومنا الفكر الدوغمائي كما بينت أعلاه، فسنقاوم بطبيعة الحال الإسلام السياسي والاستعمار الجديد وكلّ ممارسات الهيمنة التي تأتي يميناً أو شمالاً. فالفلسفة تقاوم فكريّاً كلّ دوغمائيّة ولا تدخل المعارك السياسية. ذلك لا يعني أنّها بعيدة عن السياسة مطلقاً، ونحن نتذكّر ردّ سقراط على كاليكلاس في محاورة الغورجياس عندما اتهمه كاليكلاس بأنّه بعيد عن السياسة؛ إذ أجابه سقراط قائلاً بما معناه: «نعم أنا بعيد عن السياسة بالمعنى المبتذل الذي يجعل منها صراعات للوصول إلى كراسي الحكم. أمّا إذا اعتبرناها في معناها النبيل تدبيراً علمياً لشؤون الناس، فأنا سياسي؛ بل أفضل سياسي في أثينا». فالفلسفة من حيث هي جودة الرويّة لإسعاد البشريّة سياسة مُثلى بامتياز. أمّا عن الفلاسفة العرب الذين تتوجّب العودة إليهم، فشخصيّاً أعدّ أن كلّ من تفلسف يجب أن يكون مرجعاً في عملنا التفكيري، فيجب ترسيخ هذا التقليد الذي نجده في الغرب، وهو مصدر تطور فكرهم الفلسفي. هذا المرجع يكون بواسطة عمليات مختلفة، مثل التنويه، ومواصلة محوره، أو النقد وبيان قوّته وضعفه، أو بالدحض وتقديم البديل. عندئذ تكون لنا حياة فلسفيّة. مع العلم أنني شخصيّاً أفضّل العودة إلى كتاباتي حتّى بواسطة الدحض ذلك أفضل من اللامبالاة.

> هناك من يرى أن جل الأطروحات الفكرية والفلسفية في العالم العربي تفضي إلى «اللامعنى»؛ أي إنها تخوض في قضايا ومسائل لا علاقة لها بالواقع... ما رأيك؟

- مطلقاً؛ ذلك تجنٍّ على الفكر العربي عامة؛ وعلى التفلسف العربي خاصّة. وقد بيّنت في كتابي الأخير «الفلسفة في تونس... مقاربات أوّليّة» كيف كان التفلسف في تونس مواكباً لقضايا العصر. فالذين يدّعون أنّ الفلسفة عندنا تفضي إلى «اللامعنى» جميعهم يحملون نظرة احتقار عن الفلسفة وعن المفكّرين العرب. أذكّر أنّه في ألمانيا منذ مدّة قد صدر الجزء الأخير من موسوعة ضخمة عن الفلسفة في العالم الإسلامي والعربي بداية من الفترة القديمة إلى يومنا هذا، باللسان الألماني، وفي السنوات المقبلة ستصدر الترجمة عن «دار بريل» الهولنديّة باللسان الإنجليزي. وقد أصدرت «المجلّة الفلسفيّة السعوديّة» في عددها الأوّل مقالاً مفيداً حول هذه الموسوعة التي أصدرتها «مؤسسة شفاية للنشر» في بازل وبرلين بألمانيا. فالغرب يعترف بنا ونحن لا نعترف بمساهماتنا في الفكر الفلسفي.

وبالمناسبة هناك كثير من الفلاسفة التونسيين تحدّثت عنهم هذه الموسوعة. ومن المعلوم أيضاً أنّ «كرسي اليونيسكو للفلسفة بالعالم العربي» قد ساهم في إصدار «موسوعة الفلاسفة العرب» التي أعدّتها مجلّة «أوراق فلسفية» بالقاهرة، وهي تضمّ أكثر من ثلاثة آلاف صفحة تحدّثت عن فلاسفة عرب فكّروا بتواصل مع عصرهم. ولكن للأسف جاءت في طبعة رديئة وينقصها التدقيق، وذلك لعدم وجود من يدعّم مالياً هذا النوع من الأعمال في العالم العربي. نحن نثمّن كل مجهود يقوم به مفكّر فيلسوف لتحريك سواكننا، وهنا يكمن المعنى الذي نصبو إليه.



أحصنة برونزية من شبه جزيرة عُمان

حصان من الشارقة يقابله حصان من أم القيوين وثلاثة أحصنة من سلطنة عُمان
حصان من الشارقة يقابله حصان من أم القيوين وثلاثة أحصنة من سلطنة عُمان
TT

أحصنة برونزية من شبه جزيرة عُمان

حصان من الشارقة يقابله حصان من أم القيوين وثلاثة أحصنة من سلطنة عُمان
حصان من الشارقة يقابله حصان من أم القيوين وثلاثة أحصنة من سلطنة عُمان

يحوي مركز مليحة للآثار في إمارة الشارقة مجموعة من اللقى البرونزية الصغيرة الحجم، تشكّل في الواقع جزءاً من أوانٍ أثرية جنائزية خرجت من مقابر أنشئت بين القرن الثالث قبل الميلاد والقرن الميلادي الأول. تتميّز بعض هذه القطع بطابعها التصويري، وتبدو أشبه بمنحوتات منمنمة، وأشهرها قطعة على شكل رأس حصان، تتبنّى تقليداً فنياً شاع في مناطق متفرقة من شبه جزيرة عُمان، كما تشهد مجموعة من القطع الفنية تماثل في تكوينها هذا الحصان.

كشفت أعمال المسح المستمرة منذ بضعة عقود عن مجموعة من المناطق الأثرية في إمارة الشارقة، منها مليحة التي تبعد نحو 50 كيلومتراً شرق مدينة الشرق. بدأ استكشاف هذه المنطقة في 1986، وتبيّن سريعاً أنها تمثّل مدينة احتلت مركزاً تجارياً مهماً في شمال شرقي الجزيرة العربية، خلال الفترة التي سبقت ظهور الإسلام. تحتضن هذه المدينة المندثرة عدداً من المواقع الأثرية، منها سلسلة من المدافن خرجت منها مجموعات متنوّعة من اللقى، بينها مجموعة من القطع البرونزية تمثّل أواني متعدّدة، استعادت بريقها بعد أن خضعت لعملية ترميم دقيقة نقّتها من الأكسدة التي طغت عليها مع مرور الزمن.

وصل بعض من هذه الأواني بشكل كامل، ووصل البعض الآخر بشكل مجتزأ. في هذا الإطار، تبرز قطعة منمنمة على شكل رأس حصان يبلغ طولها 4 سنتيمترات، تُعرض اليوم في مركز مليحة للآثار الذي خُصّص للتعريف بميراث هذه المدينة المندثرة. بدت هذه القطعة عند اكتشافها أشبه بقطعة حديدية غشاها الصدأ، وتظهر التقارير الخاصة بترميمها كيف استعادت تدريجياً معالمها الأصلية، فظهرت أدق تفاصيلها، وتحوّلت إلى قطعة تشابه في بريقها القطع الفضية. تتميّز هذه القطعة الصغيرة بطابع نحتي تصويري يعكس حرفة فنية عالية، وتجسّد رأس حصان، مع الجزء الأمامي من بدنه المتمثل بالعنق الطويل والصدر والقائمتين الأماميتين. وتبرز في مقدمة الصدر البارز فوهة كبيرة على شكل رأس أنبوب.

يرفع هذا الحصان قائمتيه إلى الأمام ويثنيهما، وتظهر في الكتلة المجسّمة مفاصل كل قائمة، وهي ساعد الساق، ومفصل الركبة، ثم مفصل الرسغ. وتبدو كل القائمة على شكل مساحة ناتئة تمتد في وسط الصدر، وتنثني عند حدود الفوهة التي تخرق مقدّمة هذا الصدر. العنق طويل ومصقول، وتزينّه 3 خطوط بيضاوية تستقرّ عند أعلى الحنجرة. في أسلوب مواز، تحضر الناصية، وهي الشعر الذي يعلو الجبهة، وتشكل قمة الشريط الذي يحد حافة العنق العليا. وتعلو هذا الشريط شبكة من الخطوط تمثّل خصل الشعر. الأذنان طويلتان ومنتصبتان. الخدان واسعان ومستديران. الأنف طويل القصبة، ومتصل بالجبهة، مع منخرين مستديرين حُدّدا بنقش غائر بسيط. الفم بارز، مع شدقين كبيرين يفصل بينهما شق عريض.

يشكّل هذا الحصان في الواقع مصبّاً لإناء من الحجم الصغير، يحضر في نسخة أُعيد تكوينها بشكل مطابق للأصل. ويمثّل هذا الإناء طرازاً عُرف كما يبدو بشكل واسع في نواحٍ متفرّقة من شبه جزيرة عُمان، كما تؤكّد مجموعة من الشواهد الأثرية تمّ اكتشافها في العقود الأخيرة. عُثر على هذه الشواهد في مقابر أثرية متفرّقة تتوزع اليوم على مواقع تتبع مناطق مختلفة من الإمارات العربية وسلطنة عُمان، ممّا يؤكّد أنها أوان جنائزية، شكّلت جزءاً من الأثاث الخاص بهذه المقابر التي أنشئت في شبه جزيرة عُمان، واتبعت تقليداً جامعاً. على سبيل المثل، نقع على إناء من هذا الطراز مصدره قبر من موقع الدُّور الذي يتبع اليوم إمارة أم القيوين. وصل هذا الإناء بشكل كامل، وظهرت معالمه الأصلية بعد أن تمّ ترميمه وتنقيته، ويبدو حصانه مشابهاً لحصان مليحة، مع بروز طابع التحوير فيه بشكل خاص في تجسيم ملامحه العضوية، كما في شبكة الخطوط الزخرفية التي تزين أعلى ساقه.

في المقابل، نقع على قطع مشابهة مصدرها مقابر في سلطنة عُمان، أشهرها قطعة خرجت من مقبرة تقع في سمد الشأن، في ولاية المضيبي التابعة لمحافظة شمال الشرقية، وقطعة أخرى خرجت من مقبرة في ولاية سمائل التابعة للمحافظة الداخلية. تشكّل هاتان القطعتان نموذجين من هذه النماذج التي تتبع قالباً واحداً جامعاً، وتتشابه بشكل كبير، مع اختلاف في بعض التفاصيل. في شتاء 1919، أعلنت العالمة أليسندار أفزيني، رئيسة البعثة الإيطالية لجامعة بيزا، اكتشافات جديدة في متنزه حصن سلّوت الأثري الذي يقع في سهل وادي سيفم، بالقرب من ملتقى وادي بهلاء، ويتبع محافظة الداخلية. في هذا الموقع، تمّ التنقيب في سلسلة من القبور الأثرية حوت مجموعة من اللقى الأثرية «ارتبطت بمظاهر الترف والبذخ كأواني الشرب البرونزية، أهمّها إناء ذو مصب على شكل حصان». ظهر هذا الإناء في صور توثيقية تكشف عن حالته قبل الترميم وبعده، وبرزت معالم الحصان الذي يشكّل مصباً له بشكل جلي، وبدا أن هذا الحصان يتميّز بملامحه التي يطغى عليها طابع الاختزال والتحوير الهندسي.

تتواصل هذه الاكتشافات اليوم بالتزامن مع استمرار أعمال المسح والتنقيب في سائر نواحي شمال شرقي الجزيرة العربية. في خريف 2023، أعلنت دائرة الثقافة والسياحة في أبو ظبي اكتشاف مقبرة أثناء تطوير الطرق والبنية التحتية في شعبية الكويتات في وسط المدينة، شرق متحف منطقة العين. حوت هذه المقبرة نحو 20 قبراً فردياً، كشفت التنقيبات فيها عن عدد من القطع الخزفية، والأوعية البرونزية، والأواني الزجاجية والمرمرية. وسط هذه الأوعية البرونزية، يظهر إناء ذو مصب على شكل حصان، يماثل في تكوينه إناء موقع الدُّور في إمارة أم القيوين.

مثل سائر القطع المشابهة التي ظهرت من قبل، تأكسد إناء الكويتات مع مرور الزمن، وغشته طبقة من الصدأ، ومن المنتظر أن يستعيد ملامحه بعد أن يخضع لعملية ترميم دقيقة تزيل عنه هذه الطبقة الصدئة، وتُبرز معالم الحصان الرابض عند طرفه.