يحتفي معهد «مسك» للفنون، برواد الفن السعوديين، ويطلق سلسلة من المعارض الفردية التي تعكس تجاربهم ورحلتهم الفنية العريضة، التي بدأت في قفر من التجارب الشحيحة، وزرعوا في الفضاء الثقافي بذور البدايات، ثم تعاهدوها بالإصرار والصبر، ومهّدوا الطريق للأجيال الفنية التي رعتها تلك التجارب الرائدة، وحصدوا اليوم ثمرة عزمهم على إغناء الوسط الفني والمشهد الثقافي السعودي.
الحديث هنا عن أعمال طه الصبان ويوسف جاها، التي زينت صالة الأمير فيصل بن فهد في مدينة الرياض، بنحو 70 لوحة متعددة الموضوعات ومتفاوتة التوقيتات، ويستعرض فيها الصبان الهويات المختلفة للمرأة وعلاقتها بالمجتمع والتقاليد، بينما توثق أعمال الفنان يوسف جاها اهتمامه ببيئته ومحيطه العمراني، ومن ذلك بيوت مكة العتيقة وتفاصيل أحيائها القديمة التي ولد فيها، وترعرعت موهبته وذائقته بين أروقتها ورواشينها.
صورة فريدة عن المجتمع
يقدم المنظور الفني لطه الصبان صورة فريدة عن المجتمع، ويجسد التأثيرات النسائية عليه والتي شكلت نظرته عن العالم، خصوصاً أنه تعلم الفن ذاتياً، وطوره بالممارسة، ولعب دوراً مهماً في تنمية المجتمع الفني في جدة، وشغل منصب أول رئيس لبيت التشكيليين في جدة، ولمع نجمه، وأثبت حضوره المحلي والعالمي بوصفه أحد رواد الفن في المشهد السعودي، حاضراً بكل ما تحمله الثقافة من إمكانات وعناصر فبدأ رحلته في تصوير العمارة التقليدية في رسوماته.
ومع ملازمته الفنان السعودي عبد الحليم رضوي ازداد شغفه بالرسم، وتميزت أعماله بالتجريب، واستكشاف الأساليب المتنوعة، وطوال مسيرته المهنية، شارك بنشاط في أكثر من 15 معرضاً فردياً و35 معرضاً جماعياً محلياً وعالمياً، وفاز بأكثر من 15 جائزة، ومن خلال 45 لوحة يتيحها المعرض، يتعرف الزائر على تجربة الصبان العريضة تحت عنوان «عقلية الخيال»، وعلى حضور المرأة البارز في لوحاته، بوصفه رمزية فنية شكلت المعنى العميق لديه، وارتبطت بذاكرته الزمانية والمكانية، وظل تأثير المرأة على أعمال الصبان حاضراً من أعماله المبكرة إلى أحدثها، ويتناول المعرض جوانب من المفاهيم والدلالات التي تعد جزءاً مهماً من أفكار الصبان كمكانة المرأة في المجتمع، ومشاركتها الثقافية وهوياتها المختلفة، وعلاقتها بالبيئة الطبيعية المحيطة بها.
بيوت مكة العتيقة
من جهته، اشتهر ابن مكة الفنان يوسف جاها بلوحاته التصويرية للمناظر الطبيعية، وتميزت رحلته الفنية بالتفاني في تجسيد جوهر بيئته، وقد حصل على جائزة تجميل مكة المكرمة عام 2010 التي زينت جدران وميادين العاصمة المقدسة بمحاكاة مفردات من تراث البيئة المكية، والبُعد الإسلامي وأعمال الخط العربي الفريدة. وتأثرت ممارساته الفنية ببيئته المحلية، حيث أصبح معلماً لمادة التربية الفنية لطلاب المرحلة الابتدائية بعد التحاقه بمعهد التربية الفنية في الرياض عام 1972م، ثم حصل على شهادة في الفنون من جامعة أم القرى عام 1983م، وخلال رحلته العملية نال كثيراً من الجوائز منها الجائزة الأولى في المعرض الفني العام الثالث للرئاسة العامة لرعاية الشباب في الرياض عام 1979م، وشارك في كثير من المعارض والبيناليات المحلية والدولية مثل بينالي القاهرة الدولي الثامن في مصر عام 2001م، ومعرض Edge of Arabia في المملكة المتحدة عام 2008م.
وبين طيات التجارب الإبداعية والجمالية استوى نجم الفنان يوسف جاها في سماء جمعته بروّاد الفن السعودي، فترك بصمته على المشهد الفني وعلى المجتمع المحلي، ومن هذا الدور الذي شكله على قصة الفن في السعودية انطلق معرضه الفردي «تحرّي المطر» ضمن سلسلة المعارض الفردية التي أطلقها معهد «مسك»، توثيقاً لاهتمامه ببيئته ومحيطه العمراني، من خلال سلسلة أعماله ما بين 1991 - 2022م التي يتجلى فيها الربط بين التوثيق المعماري والتعبير الفني التجريدي.
ويجد المتطلع على أعماله المعروضة في صالة الأمير فيصل بن فهد بالرياض، مدى التناغم بين الإنسان والطبيعة، والاندماج الروحي بين عناصر الطبيعة المختلفة ومجموعة من نظريات علم النفس، حيث يُجسد هذا المعرض نهجه الفني وممارسته في مجموعة متنوعة من الأعمال التجريدية التعبيرية ولوحات لمناظر طبيعية كالسحب الممطرة على الأقمشة، التي تحتل مركز الصدارة في أعماله التجريدية، وتقدم منظوراً تصويرياً واتجاهاً يتجاوز حدود الرسم، وتعد أسلوباً مكوناً للوحته.
وتستمر أعمال سلسلة المعارض الفردية في صالة الأمير فيصل بن فهد للفنون بالرياض التي تضم معرضين فنيين مُتميزين يُسلطان الضوء على تجارب الرائدين طه الصبان ويوسف جاها، حتى الـ19 سبتمبر (أيلول) 2024م؛ تقديراً لدورهما وجهودهما الإبداعية التي ناقشت مختلف المواضيع الاجتماعية والثقافية، ولمساهماتِهما الفريدة التي امتدت 50 عاماً من العطاء.
ويهدف «مسك للفنون» إحدى الجهات التابعة لمؤسسة محمد بن سلمان «مسك»، من خلال إقامة سلسلة المعارض الفنية إلى توثيق وحفظ إرث الفن السعودي، وضمان الحفاظ على الأعمال الفنية للجيل الحالي وأجيال المستقبل، بما يسهم في استكشاف الفنون والاستلهام من رسالتها الإبداعية، كما يسعى إلى تحقيق رسالته المُتمثِلة في تمكين الفنانين الصاعدين من خلال منظومة متكاملة من التعليم والدعم والخبرات والمعارض لإتاحة فُرص جديدة للارتقاء بالفن؛ وذلك من خلال الإسهام في إثراء وتوثيق المشهد الفني المحلي والإقليمي، وتطوير الرؤى والأفكار الفنية، وتوفير مساحات فنية مُخصَّصَة للنقاش والتواصل مع الفنانين.