من التاريخ: تحتمس الثالث ومعركة مجدّو

من التاريخ: تحتمس الثالث ومعركة مجدّو
TT

من التاريخ: تحتمس الثالث ومعركة مجدّو

من التاريخ: تحتمس الثالث ومعركة مجدّو

تعد مدينة مجدّو - في شمال غربي فلسطين اليوم - أحد أهم المواقع العسكرية والروحية على حد سواء، فهذه المدينة شهدت على مدار التاريخ بعض المعارك الفاصلة في مستقبل السياسة في منطقة الشرق الأوسط، لعل آخرها كانت معركة الجنرال البريطاني إدموند اللنبي في 1918 التي هزم فيها الجيش العثماني واستولى بعدها على سوريا. ومن اسم هذه المدينة يشتقّ لفظ «أرماجدون» الوارد في العهد القديم (التوراة) الذي يشير إلى المعركة الفاصلة بين المسيح بعد نزوله مرة أخرى ليحارب الشيطان ويهزمه ويسود الأمن والأمان والإيمان ربوع العالم.
الثابت تاريخيًا أنه قبل المعارك التالية فإن معركة مهمة جدًا وقعت على أرض هذه المدينة الفلسطينية حسمت تاريخ الشرق الأوسط لعدة قرون تالية، وهي المعركة الشهيرة لتحتمس الثالث فرعون مصر بمواجهة ملك قادش وتجمّعات الدويلات السورية للتخلص من الهيمنة المصرية وإمكانية احتلال مصر والقضاء على قوتها العسكرية والثقافية.
واقع الأمر أن مصر كانت قد تخلّصت من احتلال الهكسوس (الملوك الرعاة) للدلتا على أيدي الفرعون أحمس - جد تحتمس الثالث - في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي. وعمد أحمس لمد نفوذ الدولة المصرية شرقًا من منظور أن هذه المنطقة تمثل محوَر الأمن المصري، فضلاً عن كونها مركز التجارة البري الأساسي الذي يربط مصر بالعالم الخارجي. وكانت سياسة هذا الفرعون الحكيم هي العمل على جعلها منطقة عازلة بين الحضارة المصرية والعالم الخارجي، ولقد اتبع أولاده نفس السياسة من بعده، حتى الملكة حتشبسوت، زوجة تحتمس الثاني، التي اغتصبت الحكم تدريجيًا كأول ملكة لمصر - ولكن ليس بالضرورة الأخيرة.
وعند موت هذه الملكة تولى تحتمس الثالث الحكم في مصر وهو يناهز العشرين من عمره ولم يكن له خبرة عسكرية أو إدارية على الإطلاق. ولكن هذا الشاب كان يملك البصيرة السياسية والجرأة والقناعة بأن الإله «رع» يرعاه ويحبه، وعندما تولى الحكم قام على وجه السرعة بإعداد الجيش المصري من أجل مواجهة ملك قادش الذي جمع قواته من شتات سوريا وبدعم من الممالك المختلفة التي سعت لكسر النفوذ المصري بكل قوة من بينها مملكة الميتاني بشمال شرقي سوريا، وغيرها من الإمارات التي دعمت ملك قادش ليقود الثورة فمدته بالمال والعتاد. وأصبح الوضع حرجًا للغاية بالنسبة لتحتمس، لأن الملك السوري كان يأمل في احتلال مصر ذاتها بعد موت الملكة القوية، ولم يقف أمام طموحاته إلا شاب صغير لا خبرة له وجيش مصري يمكن تجهيزه بسرعة.
تحتمس الثالث كان، في الحقيقة، عاقد العزم على السيطرة على الوضع في مصر بقوة، فبادر إلى تجميع الجيش المصري من الفلاحين المصريين ومن النوبة وغيرها من مناطق البلاد المختلفة. ومن ثم حشد جيشه في (أراضي محافظة) الشرقية بعدما أكمل تحضيراته السريعة ووضع نظامًا لوجيستيًا قويًا لتوفير الإمدادات للجيش وقرر أن يتحرك بسرعة البرق للوصول إلى مجدّو ودحر ملك قادش وجيشه. وخلال أقل من عشرة أيام وصل الجيش سيرًا على الأقدام إلى غزة في مسيرة غير معهودة. وتحرك منها بسرعة مذهلة نحو مدينة مجدّو والعزة تملأه وثقته في الانتصار لا يشوبها أي شك. وعند وصوله إلى نقطة محوَر الطرق المؤدية إلى مجدّو كان أمامه ثلاثة خيارات: الأول أن يمضي بالجيش إلى الشرق ثم إلى الشمال ليصل إلى المدينة من الجنوب الشرقي. والطريق الآخر من الشمال ليصل إلى المدينة من غربها. ولكن الملك الشاب آثر أن يأخذ الطريق الثالث المباشر المعروف بمضيق أرونا (وادي عارة اليوم)، وهو الأقصر لكنه يمر بمنطقة جبلية وعرة يمكن أن تكون فرصة مواتية لملك قادش أن ينصب كمائنه ويقضي على الجيش المصري.
ورفض تحتمس كل النصائح من قادة جيشه وقرر المضي قدمًا إلى قادش مباشرة، وأيًا كانت الأسباب التي جعلت هذا الملك يسلك هذا الطريق بشكل غير آمن، فإن أغلب الظن أنه فضل مباغتة ملك قادش الذي لم يكن على الأرجح يتوقع من الجيش المصري سلوك هذا الطريق الوعر والخطير، وهكذا يكون تحتمس الثالث خالف توقعات عدوه، مع العلم أن هذا الطريق – كما سبق – هو الأقرب، وكان الملك الشاب يريد الوصول لعدوه بأسرع وقت.
وبالفعل، نفذ تحتمس خطته وعبر بجيشه هذا المضيق الصعب، وكان محقًا في حساباته. إذ إن ملك قادش كان قد وضع الأكمنة في الطريق الشرقي، واستطاع الجيش المصري أن يواجه بعض المقاومة إلى أن استطاع عبور المضايق بعدما وضع خطة دفاعية لحماية هذا العبور بشكل متدرج. وعندها فوجئ ملك قادش بالجيش المصري أمامه جاهزًا لخوض المعركة الفاصلة في مجدّو لتحديد مستقبل الشرق.
وعلى الفور جمع الملك السوري جيوشه ووضعها أمام المدينة بشكل منمق ومدروس، وهو نفس ما فعله تحتمس الثالث الذي تولى بنفسه قيادة القلب بينما وضع جناحيه على منطقة مرتفعة لتستعد لقطع الطريق أمام فرار العدو مع تأمين الطريق في حالة هزيمته لإنقاذ جيشه. وبدأت المعركة وجيش التحالف ضد مصر في وضع هرولة، وبالفعل استطاع الجيش المصري أن يهزم الخصم في وقت غير طويل، ولكن بدلاً من التحرك صوب المدينة والاستيلاء عليها انغمس الجيش المصري في عملية جمع الغنائم، وهو ما سهل الفرصة أمام فلول جيش العدو للاحتماء في المدينة. وهو ما اضطر تحتمس الثالث لفرض الحصار المُحكم على المدينة تمهيدًا للاستيلاء عليها، ولكن بحكمته العسكرية غير المتوقعة وضع فيها معبرًا لكل من يريد الخروج من المدينة بشكل آمن، وهو التكتيك العسكري الذي يطلق عليه في بعض الأحيان «الجسر الذهبي»، وهدفه الأساسي هو ألا يُحكم الخناق على العدو لمرحلة تجعله مستبسلاً للدفاع عن المدينة بانعدام وجود البديل.
ولم تحسم المراجع التاريخية مدة الحصار المفروض على المدينة إلا أنه لم يتخط بضعة أشهر حتى اضطرت المدينة للتسلم الكامل وغير المشروط للفرعون. وحده ملك قادش رفض الاستسلام، وتمكن من الفرار بعد المعركة مباشرة، ولكن أسرته خضعت للحصار.
وبعد الاستسلام اتبع تحتمس سياسة حكيمة للغاية، فلم ينكل بالأعداء، كما كان يحدث في معظم الظروف التاريخية المشابهة، بل على العكس أصر على أن يأخذ أبناء الملوك والأمراء المتآمرين إلى مصر وجعلهم ينصهرون في الثقافة والمصرية، واجتذبهم له بشدة وعاملهم برفق ولين شديدين. وكان هذا، بالتالي، أول استخدام واسع لمفهوم «القوة الناعمة المصرية»، مع أن هذا لم يمنعه من أخذ غنائم أذهلت مصر، منها قرابة ثلاثة آلاف فرس، وما يقرب من ألف عربة حربية وما يوازي ثلاثمائة كلغم من الذهب، ثم قام بعد ذلك بالتوجه نحو لبنان حاليًا حيث دانت له الكثير من المدن وأمّن هذه المنطقة الجبلية.
حقيقة الأمر أن هذه المعركة لها مدلولات كثيرة، لعل أهمها: حسم هذه المعركة لتوجه جيو - استراتيجي مصري تأكد مع مرور التاريخ، وهو أن أمن مصر في أغلب الأحيان يمر عبر «بوابة الشرق»، ذلك أن معظم الغزوات التي واجهت مصر جاءت من هذه المنطقة باستثناءات قليلة على رأسها الاحتلال الفاطمي الذي جاء من الغرب، والغزو النازي الذي دحره الحلفاء في معركة العلمين الشهيرة. هذا هو النسق الذي جعل قادة مصر دائمًا ينظرون إلى الشرق على اعتباره نسيجًا هامًا في أمن مصر، ولعل هذا ما يبرر توجه كل من حكم مصر لتأمين الجبهة الشرقية المصرية.
ثم إن هذه الملحمة السياسية عززت ظاهرة متكررة في تاريخ مصر على مر العصور، وهي المرتبطة بفكرة «المنقذ السياسي للدولة المصرية» في الظروف الصعبة. فعند موت الملكة حتشبسوت بدت الدولة على وشك الانكسار داخليًا وخارجيًا، لكن القدر وضع تحتمس الثالث - ذلك الشاب الحدث - الذي استطاع في وقت قياسي أن يقود الحملة إلى الخارج، ومن بعدها شن ما يقرب من خمس عشرة حملة عسكرية أخرى وصل بعضها حتى نهر الفرات.
ولكن السؤال الذي فرض نفسه علي خلال كتابة هذه السطور هو السبب الذي جعل بعض المؤرخين يطلقون على تحتمس الثالث لقب «نابليون الشرق». والإجابة التي استلهمتها من قراءة سيرته هي أن السبب قد يرجع إلى أنه لم يكن هناك قائد قبله يمكن أن يُكنى باسمه. فأغلب الظن أنه أول قائد سياسي وعسكري من هذا الطراز في التاريخ، فضلاً عن أن نابليون استخدم الكثير من تكتيكاته العسكرية في معاركه وعلى رأسها سرعة الحركة ومفاجئة الخصم بقوة والجرأة في التحرك الخ...
ومع ذلك فالسؤال الثاني الذي ساورني هو سبب عدم إطلاق لقب «تحتمس الغرب» على قادة عظام مثل «الإسكندر الأكبر» أو «يوليوس قيصر» ونعتهم بهذه الكنية، ولكن الإجابة في تقديري تحتاج لتأملات واسعة النطاق لا مجال لحصرها هنا.



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر