في الوقت الذي أكد فيه وزير المالية السعودي محمد الجدعان أن بلاده ستتكيف مع التحديات الاقتصادية والجيوسياسية الحالية، وستعمل على مراجعة «رؤية 2030» لتحويل اقتصادها وفقاً لما تقتضيه الظروف، ما يقلص حجم بعض المشروعات ويسرع وتيرة مشروعات أخرى، أثنى مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، الدكتور جهاد أزعور، على هذه التوجه قائلاً « أن السعودية تعي اليوم التغيرات العالمية التي تحصل بشكل متسارع، وأن عليها مواكبتها بمراجعة رؤيتها». وشدد على أهمية الإصلاحات الهيكلية التي تشكل الجزء الأكبر من عملية التحول الاقتصادي، لافتاً في المقابل إلى أن هناك عدداً من الإصلاحات المطلوبة، التي من شأنها أن تشجع دول «مجلس التعاون الخليجي» بأكملها على تكامل أفضل.
وأظهر التقرير السنوي لـ«رؤية 2030»، الصادر في ذكرى إطلاقها في 25 أبريل (نيسان) من عام 2016، أن 87 في المائة من أهداف هذه الخطة الطموحة مكتملة، أو تسير على الطريق الصحيحة، لكن التحديات المتنامية تعني أنه سيتم إجراء تعديلات على بعض الجوانب منها، كما أعلن وزير المالية السعودي محمد الجدعان، خلال فعاليات الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي، الذي انعقد في الرياض. إذ قال: «لقد تحقق كثير من الأهداف بشكل فائض عن الحد. ومن الواضح أن هناك تحديات... ولهذا أقول إنه ليس لدينا غرور، سنغير المسار، سنتأقلم، سنوسع بعض المشروعات، سنقلص حجم بعض المشروعات، وسنسرع وتيرة بعض المشروعات».
وفي جلسة حوار نظمها مركز «ثينك»، للأبحاث والاستشارات، التابع لـ«المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام»، حول «توقعات لاقتصادات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا... سياسات للتغلب على التحديات وتسخير الفرص»، وأدارتها المستشارة الأولى في الاقتصاد والسياسات العامة، هزار كركلا، قال أزعور إن رحلة التحول في السعودية مرت بـ3 مراحل، الأولى صياغة الرؤية، والثانية التأكد من نجاح التنفيذ، والثالثة أن تتكيف الاستراتيجية دوماً مع التغييرات والأولويات، «وهو ما يحصل اليوم، فالسعودية تعي أن هناك تغيرات عالمية تحصل بشكل متسارع، وعليها أن تواكب هذا الأمر بتعديل رؤيتها... وإلى جانب ذلك، فإن تركيز السعودية ينصب على معالجة نقاط الضعف، والتعرف على العناصر الناجحة، وضمان القدرة على الصمود في مواجهة الصدمات الاقتصادية... إن التحرك بسرعة هو عنصر من عناصر النجاح».
وحدّد أولوية المرحلة الراهنة بالقدرة على التنبؤ، وفتح المجال أمام القطاع الخاص، عبر تعزيز الأسواق المالية من أجل الاستثمارات، وتحسين بيئة الأعمال والقدرة على الوصول إلى تمويل على مستوى الشركات الصغيرة والمتوسطة.
وكان صندوق النقد الدولي قد خفّض توقعاته لنمو اقتصاد السعودية إلى 2.6 في المائة هذا عام من توقعاته السابقة في يناير (كانون الثاني) بـ2.7 في المائة، وقام في المقابل برفع توقعاته لنمو عام 2025 إلى 6 في المائة، مقابل 5.5 في المائة في توقعات يناير.
وقال أزعور: «قد يركز الناس دوماً على الأرقام الرئيسية للمشروعات الاستثمارية الكبرى، لكن ما صنع الجزء الأكبر من التحول هو الإصلاحات الهيكلية التي ساهمت في تحسين الإنتاجية وتقليص الحواجز وزيادة الوصول إلى الإصلاحات... أتت الإصلاحات الهيكلية ثمارها في تحديث الدولة، كما أثبتت خدمات الدولة فاعليتها. هناك تغيير وتحول في الذهنية ساعد في تسريع تلك الإصلاحات التي أصبح الناس الآن أكثر توافقاً معها... حتى إن الاصلاحات التي كانت الأكثر تحدياً تبين أنها قابلة للتنفيذ، وهناك اليوم نية لزيادة الأهداف التي وضعتها المملكة».
وأشار إلى أنه خلال السنوات الماضية بات اقتصاد السعودية أكثر ارتباطاً دولياً، حيث سمحت عضويته في مجموعة العشرين بأن يصبح تحت الأضواء، وأن يصار إلى تسريع الإصلاحات ليكون الاقتصاد أكثر إنتاجية وأكثر تنافسية، وذلك من خلال تنويع الإيرادات.
«لا شك أن هناك عدداً من الإصلاحات المطلوبة التي من شأنها أن تشجع دول مجلس التعاون الخليجي بأكملها على تكامل أفضل... ومن الممكن تسريع هذا التكامل بالتفكير مرة أخرى في السوق الموحدة، لتصبح دول مجلس التعاون الخليجي بأكملها أكثر قدرة على المنافسة، في عالم أصبحت فيه المنافسة أكثر صعوبة بسبب التطورات الجيوسياسية»، بحسب أزعور.
وعدّ أن «مجلس التعاون الخليجي» نقطة مضيئة في المنطقة التي تستمر فيها الأزمات. ففي الوقت الذي يشهد فيه الاقتصاد العالمي تحولاً كبيراً، هناك تغيرات كبيرة تحدث في المنطقة، حيث تسارع خلال السنوات الأخيرة تنفيذ برنامج التحول الوطني، وبدأت المحركات الرئيسية للنمو تتحول من القطاعات الهيدروكربونية إلى الأنشطة غير الهيدروكربونية.
ولفت إلى أن الإصلاحات الهيكلية مكّنت دول «مجلس التعاون الخليجي» من إدارة الصدمات بفاعلية، ما أظهر قوتها خلال جائحة «كوفيد 19»، التي كانت اختباراً للإصلاحات التي نفّذتها. إذ نجحت في الحفاظ على جودة حياة المواطنين وتأمين حاجاتهم، والمحافظة على عمل الاقتصاد. مع إشارته إلى أنه «على الرغم من تشابه اقتصادات دول (مجلس التعاون الخليجي)، فإن المملكة العربية السعودية تمثل نحو 50 في المائة من الاقتصاد الإقليمي، ما يسلط الضوء على التحديات في المقارنة».
التعاون بين السعودية وصندوق النقد
هناك تعاون تاريخي بين صندوق النقد الدولي والسعودية، إذ شاركت المملكة بشكل كبير في التنسيق المالي العالمي، وكانت نشطة جداً في التفاعل، ومستوى تعاونهما عميق. وقال أزعور: «أصبح دعم صندوق النقد الدولي الآن أكثر تنسيقاً، والدعم السعودي هو واحد من أعلى الدعم، ويذهب مباشرة إلى البلدان التي تحتاج إلى المساعدة، أو من خلال وكالات مثلنا أو المنتدى الاقتصادي العالمي». وطالب في هذا الإطار الدول بأن تبدأ الإصلاح، قبل أن تطلب المساعدة أو الدعم.
الاستثمار الأجنبي
في شقّ آخر، قال أزعور إن الاستثمار الأجنبي المباشر شهد تراجعاً في العقد الماضي في المنطقة، بما في ذلك دول «مجلس التعاون الخليجي». إذ كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكثر المناطق جذباً للاستثمار الأجنبي المباشر قبل «كوفيد 19».
لكنه لفت إلى أنه «يتعين علينا أن يكون لدينا إيقاع مستدام للنمو والاستثمار الأجنبي المباشر... فحجم القطاع العام لا يزال مرتفعاً، كما عدد الكيانات المملوكة للدولة، وهناك عدد قليل من الدول الإقليمية التي يمكنها المنافسة على المستوى العالمي، ونحن بحاجة إلى مزيد منها. هناك حاجة إلى المنافسة بين مشروعات الدولة ومشروعات القطاع الخاص. وهذه هي إحدى فوائد المعجزة الآسيوية لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وجعل الاستثمار الأجنبي المباشر أكثر تأثيراً من حيث النمو».
والمعجزة الآسيوية حصلت عندما حقّقت منطقة شرق آسيا معدلات قياسية مرتفعة من النمو الاقتصادي المستدام على مدى عقود من الزمن.
مخاطر
إلى ذلك، عدّ أزعور أن المخاطر السلبية أثّرت على البلدان ذات مستويات الديون المرتفعة، و«من الأهمية بمكان أن تقوم بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بخفض ديونها لتقليل آثار التضخم». وشرح أن «أزمة الشحن عبر البحر الأحمر تشكل صدمة، لكن إذا تم قياسها، فإن تكلفة الشحن عبر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تزال منخفضة نسبياً... الأمر الأكثر صعوبة في القياس هو إمكانية التنبؤ بما يحصل لقناة السويس التي يمر عبرها ثلث حاويات التسوق العالمية، ما يعكس أهميتها على المستوى العالمي».
ومن بين المخاطر أن اقتصادات دول «مجلس التعاون الخليجي» لا تتمتع جميعها بمستويات مرتفعة من الاحتياطيات، «وبالتالي، فإن تلك التي لا تزال احتياطياتها دون المستوى المطلوب لا يزال يتعين عليها التأكد من مقومات استقرار اقتصادها الكلي».
وكانت المديرة التنفيذية لمركز "ثينك" للابحاث والاستشارات نداء المبارك أكدت في بداية اللقاء على أهمية هذا الحوار في ظل التغيرات الحاصلة في المنطقة، وأشارت إلى أن المركز سينظم لقاءات حوارية لاحقة على مواضيع تهم المنطقة.