«تسعون» ميخائيل نعيمة بتوقيع مارون بغدادي

فيلم عُثر عليه بعد 30 سنة ويجول لبنان

 عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
TT

«تسعون» ميخائيل نعيمة بتوقيع مارون بغدادي

 عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر
عرض الفيلم في الرابطة الثقافية بطرابلس وتظهر خلال المناقشة من اليمين إلى اليسار سهى حداد وثريا بغدادي ونجا الأشقر

بعد أكثر من ثلاثين سنة على غياب المخرج اللبناني مارون بغدادي التراجيدي، ها هي جواهره لا تزال تظهر وتمتع وتدهش.

قلة هم الذين سجّلوا أفلاماً وثائقية مع أدباء كبار غادرونا، تلاحق تفاصيلهم اليومية. كان لبغدادي حظ أن طلب منه عمل فيلم مع ناسك الشخروب، عندما كان الرئيس إلياس سركيس في سُدة الحكم، وأحبّ عمل أسبوع تكريمي لنعيمة بين 7 و14 مايو (أيار) من عام 1978، ببرنامج تضمّن مسرحية أخرجها يعقوب الشداروي، وكان هذا الفيلم الذي فقد أثره، ولم يعرف أحد شيئاً عنه، ويبدو أنه عُرض لمرة واحدة على «تلفزيون لبنان»، واختفى بعدها مثل كثير من كنوز الأرشيف اللبناني الذي أكلته الحرب.

«نادي لكل الناس» بالتعاون مع زوجة المخرج الراحل ثريا بغدادي، وهما يحاولان لململة أرشيفه، عثرا على نيغاتيف هذا الفيلم في فرنسا، وتمكنا من الحصول عليه بعد دفع تكاليف باهظة، ورقمنته، وإعادته إلى الجمهور.

في أحضان الطبيعة

الأزمات المتلاحقة، ومنها الانهيار الاقتصادي الذي ضرب لبنان، والوباء، من بعده، حالت دون أن يأخذ الفيلم حقه، لكن نجا الأشقر، مدير «نادي لكل الناس»، وثريا بغدادي، وسهى حداد (وحيدة ميّ ابنة شقيق نعيمة)، يواكبون الفيلم في جولاته اللبنانية، التي بدأت من بيروت، ومرّت ببسكنتا، قرية نعيمة، وأماكن أخرى، ووصلت إلى طرابلس، حيث عُرض الفيلم بمبادرة من الشاعرة ميراي شحادة، مؤسسة «منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة»، على هامش «معرض كتاب طرابلس». تلا العرض نقاش حول الفيلم المفاجأة الذي تبلغ مدته 56 دقيقة، ويحاور فيه المخرج ميخائيل نعيمة في بسكنتا، والشخروب، ويجول معه في مختلف المحطات، وصولاً إلى بيته الساحلي في الزلقا، ويذهب به إلى متحف جبران في بشري، في وقفة أدبية مؤثرة يخاطب خلالها صديقه الغائب جبران وكأنه لا يزال حياً، وكذلك نرى نعيمة يتحدث عن الحرب من وسط بيروت المدمر.

الفيلم الذي صُوّر بعد اندلاع الحرب الأهلية بثلاث سنوات، بكاميرا حسن نعماني، حرص على أن يكون أميناً لروح نعيمة، لحبه للطبيعة، للمكان الذي وُلد فيه. تشاهد الفيلم وكأنك تقرأ كتاباً لنعيمة، تدخل معه في ثنايا فلسفته، وهو يشرح ما يفكر به، ما يعتقده، ما يعيشه، بكلمات بسيطة، بعبارات تصل للمشاهد العادي.

تسع وثمانون سنة عمر ميخائيل نعيمة عند تسجيل الفيلم، لكنه يتحدث بنضارة ووضوح شديدين، يشرح بانسيابية لافتة بالنسبة لرجل يقارب التسعين، مما أوحى للمخرج بالعنوان الذي أطلق على الشريط، قياساً على اسم الكتاب الشهير لنعيمة «سبعون».

نرى نعيمة يتحدث عن غربته في نيويورك، عن أنفته من الضجيج، عن رغبته العارمة التي سكنته للعودة إلى أحضان الطبيعة، للإصغاء إلى ما تقوله له الأشجار، الصخور، السماء الصافية، كيف تخاطبه الجداول، هو المنخرط في هذا الوجود الجميل الذي وُلد فيه، حتى شعر بـ«أن الإنسانية كلها موجودة في داخلي».

تنقل الكاميرا بحب الجمال الأخّاذ الذي عانقه نعيمة طوال حياته، سواء في بسكنتا، أم الشخروب، في الصحو، وحين يهطل المطر وتتلبد السماء، عندما تحلّ الثلوج البيضاء على الجبال. لا يتعب نعيمة من الكلام على ما يعتمل داخله من خشوع وسكينة أمام هذا الجمال الطبيعي المهيب. وينطلق الأديب في شرح رؤيته للتقمص، وللانخراط اللانهائي في الوجود، مما يجعل فكرة الموت غير موجودة في ذهنه، بل هي الحياة المتجددة، الممتدة. لهذا ربما حين نشاهد نعيمة وسط الدمار في بيروت، يقول إنه يشعر بالأمل، وبأن كل هذا سينتهي، وستعود الحياة إلى المدينة، فهو برؤيته الخاصة، لا سبيل للهلاك، بل للولادة الدائمة، لكنه يحزن أمام مشهد القمامة في منزله بالزلقا، حيث عبثت يد الإنسان وجلبت البشاعة.

يرى أن المدينة تجتذب مختلف العناصر، بخيرها وشرّها، وهو ما يجعله يأنف منها، فيما القرية تبقى قادرة على تطهير نفسها، واستعادة نقائها.

يجيب بلا تأتأة ولا تردد عن الأسئلة الوجودية التي تُطرح عليه، عن علاقته بعائلته، بوالده الأمي، وأم لا تفك الحرف والتي كانت سعيدة، برؤية الأقلام والأوراق في البيت، محتفية بابنها الكاتب، لكن الوالدة لم تكن لتتصور أن الكتابة ستجعل ابنها ينسى حاجته للطعام، ويعفّ عن الزواج، هذا كان مما أحزنها.

نرى نعيمة في الصور مع أفراد العائلة، ومرة أخرى نشاهده يتبادل حواراً شقياً مع سهى حداد التي رافقته مع والدتها في مختلف مراحل حياته، وشاركت في الحوار حول الفيلم. لكن المشاهد الأكثر قوة هي التي يتحدث فيها عن الأرض، عن أن منها يأكل الإنسان، ويلبس ويشرب، هي للإنسان كل شيء، ومع ذلك ثمة من يتكبّر على التراب ويأنف من أن يلامس رجليه.

أما حين يتحدث عن جبران، فهنا يقطع ناسك الشخروب كل شكّ حول تلك الأقاويل التي تتهمه بعدم الود لصديقه، يخبرنا نعيمة أنه كان قد قابل جبران، قبل أيام قليلة من تدهور حالته في أميركا، وحين عرف بالأمر هرع إليه في المشفى، وبقي إلى جانبه ما يقارب خمس ساعات، ولم يغادره إلا بعد أن لفظ أنفاسه الأخيرة.

يصف جبران بأنه كان يعمل كالمحموم، يتجاهل مرضه وتعبه، ويرى أنه كان يعيش بقلبه وعاطفته، مع أنه كان يُعمل العقل، لكن العاطفة عنده كانت أقوى.

ويقف نعيمة أمام الكاميرا في متحف جبران في بشري وراءه لوحاته، ويخاطب صديقه وكأنه يحدثه، بروحانية وشفافية مؤثرتين، كان ثمة علاقة تفوق تلك التي سكبها وهو يروي سيرة صديقه جبران خليل جبران في كتاب خصصه له، فقد أعمل نعيمة النقد والعقل، ليخرج بكتاب للتاريخ، أكثر مما ترك عاطفته تنساب لتكتب عن الإنسان الذي عايشه ورافقه في الغربة.

تقول ثريا بغدادي إنها طوال 12 سنة من حياتها مع مخرج الفيلم لم يحدثها قط عن هذا الشريط، ولم تكن تعلم بوجوده، وأنها ذهلت حين رأته، وعملت على ترجمته، وها هي تجول به؛ لأنها، كما كل المهتمين بالعمل، تعتقد أنه وثيقة نادرة، وأنه يجب أن يُرى وأن يُعرَض في المدارس والجامعات، وأن يصل إلى أكبر عدد من المتفرجين.

أما سهى حداد فتروي حكايتها مع جدو ميشا، كما تسمي ميخائيل نعيمة الذي رباها وعاش معها ومع والدتها بعد طلاق والديها، عن كرمه مع عائلته، عطائه الذي لم ينقطع. حين نسألها عن الشائع عنه أنه كان لا يحب الاختلاط بالناس، تجيب بأنه لم يكن يخرج لزيارة أحد، بل كان هو من يستقبل رواده الدائمين، وأن انسيابية حديثه في الفيلم وهو في هذه السن المتقدمة، لأنه كان دائم الحوار مع زواره الذين لم ينقطعوا عنه مطلقاً. وذكرت أن منزله في الزلقا وكل أغراضه نقلتها إلى منزل جديد في منطقة المطيلب، المفتوح لمن يريد الزيارة. أما الجزء الأكبر والمهم من مكتبته فهو الموجود في منزله الثاني ببسكنتا، ولا تزال محفوظة.

ويؤكد نجا الأشقر ضرورة أن يجد هذا الفيلم الذي عمل، كما بقية أفلام مارون بغدادي، على رقمنته وحفظه ونشره، لا بد أن يشاهَد على أوسع نطاق؛ لأهميته كوثيقة فريدة عن كاتب لعلّ لبنان، اليوم، وكل المنطقة العربية بحاجة إلى سعة أفقه، ورجاحة موازينه.



محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.