«النبوغ المكتسب» يطلق العِنان للمواهب الخارقة

العلماء يدرسون تأثيرات تلف الدماغ على ظهوره

«النبوغ المكتسب» يطلق العِنان للمواهب الخارقة
TT

«النبوغ المكتسب» يطلق العِنان للمواهب الخارقة

«النبوغ المكتسب» يطلق العِنان للمواهب الخارقة

تكشف ظاهرة «متلازمة النبوغ المكتسب» ما يحدث عندما يُطلق تلف الدماغ العنان للألمعية.

حالة مرَضية: الألوان والأشكال

كانت «ديانا دي أفيلا» في حوض سباحتها ذات يوم من عام 2017 عندما وكأنها «سقطت فجأة على سطح القمر» كما تقول. كانت قد وصلت لتوها إلى المنزل من المستشفى، حيث عولجت من التهاب العصب البصري ومن الدوار، وكانت تحاول الاسترخاء في الماء الهادئ.

وفجأة، بدأت الألوان والأشكال الزاهية تظهر أمامها. كان اللون الأصفر يأخذ شكل مثلث، أما اللون البرتقالي فكان على شكل مستطيل. فشعرت كما لو أنها تستطيع أن تمد يدها وتلمسها. وأقوى ما في الأمر أنها شعرت برغبة عارمة في الإبداع. تقول دي أفيلا: «كان الأمر أشبه بالبرق الخاطف. مثل شيء ما يحدث في برهة. لقد كان ذلك لغزاً بالنسبة لي».

وقالت إنها بدأت الرسم على الفور. لم يكن لديها تدريب في الفن، لكن يديها كانتا تعرفان ما يجب عليهما فعله. تقول دي أفيلا: «لقد كان من المريح ربط الخط والشكل. إنني أدع الأمور تسترشد بالحدس». وبعد ساعتين، كان القماش مغطى ببقع من اللون الأزرق المخضر، والبني، والبرتقالي. وقد أطلقت على لوحتها الأولى عنوان «الفقاعات والبوميرانغ».

ثم غلب عليها الإكراه. لقد صنعت خمس أو ستة قطع في اليوم، يوماً بعد يوم. كانت تستيقظ في منتصف الليل لصنع فنونها. كانت تعزف الموسيقى، وأحياناً الأغنية نفسها بشكل متكرر، لتهدئ ذهنها المهووس. وبعد بضعة أشهر، كانت منهكة تماماً.

أجرت بعض الأبحاث ووجدت شخصاً ربما يعرف ماذا يجري لها. كتبت: «أنت لا تعرفني من زمن آدم، ولكن قل لي ماذا يحدث لي؟».

متلازمة النبوغ المكتسب

كانت «دي أفيلا» في خضم ظاهرة نادرة للغاية «متلازمة النبوغ المكتسب» acquired savant syndrome. في هذه الحالات، يصبح الفرد فجأة عبقرياً، ويُظهر موهبة لا تصدق في مجال معين «عادة الموسيقى، أو الفن، أو حسابات التقويم، أو المهارات الرياضية والرقمية، أو المهارات الميكانيكية أو المكانية، فضلاً عن قدرات الذاكرة المذهلة» التي يبدو أنه لا توجد سابقة لها في تجربة حياتهم السابقة. وقد تتجسد المتلازمة بعد الإصابة، أو المرض، أو السكتة الدماغية، أو الخرف، أو الاعتداء. ومتلازمة النبوغ المكتسب نادرة للغاية: تم تحديد 32 حالة في تقرير عام 2015. أما التقديرات الحالية فأعلى قليلاً، ومن المؤكد أن هناك حالات موجودة لم تُسجل في الأدبيات.

أصيب 10 في المائة من الموهوبين بمتلازمة النبوغ المكتسب، في حين أن الغالبية العظمى منهم يعانون من متلازمة النبوغ الخَلَقِية congenital savant syndrome.

لوضع الأمر في سياقه؛ تؤثر متلازمة النبوغ الخلقية على 10 في المائة من الأشخاص المصابين بالتوحد، وأقل من 1 في المائة من الأشخاص الذين يعانون من الإعاقات الذهنية و- أو النمائية.

أما 50 في المائة من الأشخاص المصابين بمتلازمة النبوغ المكتسب فهم من المعانين من التوحد autism، في حين أن البقية يعانون عموماً من اضطرابات أخرى في النمو.

ويفوق عدد الذكور النوابغ المكتسبين عدد الإناث بنسبة 6 إلى 1. ويروي فيلم «رجل المطر»، الذي ربما يكون التصوير الأكثر شعبية لمتلازمة النبوغ المكتسب، قصة «كيم بيك» الحقيقية الذي يستطيع، من بين العديد من المهارات الأخرى، قراءة صفحتين من كتاب في الوقت نفسه، وحفظ المادة كاملة بعد قراءة واحدة.

وبينما يعدّ التعايش بين الموهبة الفائقة والإعاقة الذهنية في متلازمة النبوغ الخلقية أمراً جديراً بالملاحظة في حد ذاته، فإن هناك شيئاً ما حول متلازمة النبوغ المكتسب يُحيّر العقل، وهو الفرز الحاد بين الإصابة والنمو، وبين المأساة والانتصار.

جزر النبوغ وإعاقات الدماغ

كان «دارولد تريفرت» أحد الأشخاص الذين فتنتهم هذه الظاهرة. وبصفته طبيباً نفسياً حديث العهد في عام 1962، كُلف تريفرت ببدء وحدة للأطفال في معهد «وينيباغو» للصحة العقلية في ولاية ويسكونسن. وسرعان ما أصبح لديه 30 مريضاً يعانون من تحديات وإعاقات عقلية بالغة. ومع ذلك برز أربعة فتيان صغار. أحدهم حفظ نظام سير الحافلات في ميلووكي بأكمله. والثاني كان ينظر إلى أحجية مكونة من 500 قطعة، وإلى جانبه الصورة الكاملة، ويُعيد بناءها بسلاسة. ويقرأ الثالث ما حدث في «مثل هذا اليوم» بذاكرة موسوعية. والأخير كان يسدد الرميات الحرة في كرة السلة مع دقة واتساق أشبه بالماكينة.

كتب تريفرت: «صُدمتُ (بجزر النبوغ) هذه، إذ غمرني فيها بحر من الإعاقات العقلية الشديدة والمتغلغلة. فكيف يمكن لذلك أن يكون؟».

أصبح تريفرت المرجع الدولي بشأن متلازمة النبوغ المكتسب، وتراسل مع أو التقى المئات من النوابغ طوال حياته. كانت العلاقات التي شكّلها ذات صفة تحويلية للكثيرين منهم. توفي تريفرت عام 2020، بعد أن ساهم في تشكيل المفهوم الحالي لمتلازمة النبوغ.

فرضيات علمية

لا توجد نظرية واحدة يمكن أن تفسر جميع حالات متلازمة النبوغ. ولكن إحدى الفرضيات الرئيسية، لا سيما لمتلازمة النبوغ المكتسبة، هي أن الشذوذ أو التلف في نصف الكرة الأيسر من الدماغ يعيد توصيل الدماغ بشكل أساسي، ويُجند قدرة جديدة أو يُحرر قدرة ساكنة من نصف الكرة الأيمن السليم، تماماً مثلما يعتمد الشخص المصاب بكسر في الساق بشكل أكبر على الطرف المقابل السليم، مما يقوي من قدرته.

غالباً ما يكون التمييز بين نصفي الدماغ مبالغاً في تبسيطه، لكن الاختلافات موجودة: إذ يتخصص النصف الأيسر من الدماغ في العمليات المنطقية، والتتابعية، والعمليات القائمة على اللغة، بينما يتخصص النصف الأيمن في العمليات الإبداعية والفنية.

تنطوي متلازمة النبوغ المكتسب بشكل كبير على تلف النصف الأيسر من الدماغ والمهارات المتخصصة في النصف الأيمن. فالإصابة، أو المرض، أو العجز «يُحرر» الدماغ بصفة رئيسية، ما يؤدي إلى «تفجُر» منطقة معينة في الأداء والازدهار. وبعد عاصفة عنيفة، تتفتح نباتات جديدة مزدهرة.

تدعم الأبحاث دور الاختلافات الدماغية النصف كروية في النبوغ. وقد خلصت أبحاث التصوير إلى أن بعض مناطق الدماغ لدى النوابغ تكون أكبر حجماً، وتركيزات الناقلات العصبية أعلى، وأن الاتصال أقوى في النصف الأيمن من المخ مقارنة بالنصف الأيسر.

تقول نيفا كوريغان، عالمة الأبحاث في جامعة واشنطن، إن الناقلات الكهربائية صارت أكثر قوة، ما ينسجم مع الأبحاث التي تُثبت أن النصف الأيمن من المخ يستخدم طاقة أكبر لتوليد نشاط أكثر من النصف الأيسر، قياساً على استهلاك الغلوكوز والأكسجين. وفي حالة متلازمة النبوغ المكتسبة، يقول إيريم أونين من جامعة إسطنبول ميديبول، والمؤلف المشارك لمقالة مراجعية عام 2023 حول متلازمة النبوغ: «يَضعُف اليسار، ويتحرر اليمين».

التوحد والموهبة

لماذا فقط يكون بعض الناس المصابين بالتوحد من النوابغ؟ لماذا يكتسب بعض الأشخاص فقط الذين يعانون تلفاً في الجهاز العصبي النبوغ؟ الجواب ليس واضحاً تماماً.

قد ينطوي الأمر على اختلافات عصبية فردية أو مكان التعرض للإصابة بالضبط. قد تلعب البيولوجيا دوراً، حيث إن زيادة هرمون التستوستيرون في الرحم يمكن أن يُغيّر نمو نصف الدماغ الأيسر، ما قد يُفسر لماذا يكون الرجال أكثر إصابة بالتوحد والنبوغ من النساء. وقد تلعب الجينات دوراً، إذ إن العديد من الجينات مسؤولة، وغالباً ما تظهر قدرات خاصة لدى أقارب المصابين بمتلازمة النبوغ. ولكن الجينات وحدها لا تكفي لإنتاج هذه الظاهرة.

إصابات وإبداعات

عانت السيدة «دي أفيلا» عدداً من إصابات الدماغ على مر السنين. وكمراهقة، كانت تعرف أنها تريد الخدمة في الجيش. في اليوم الذي بلغت فيه 18 عاماً، التحقت بالشرطة العسكرية. بعد بضعة أشهر فقط في الخدمة، تعرضت لحادث دراجة نارية الذي ألحق الضرر بالمنطقة الجبهية الصدغية اليسرى من دماغها.* مجلة «سايكولوجي توداي»

- خدمات «تريبيون ميديا»



إعلان الجوائز الأسبوع المقبل... 4 اكتشافات «مذهلة» كانت تستحق «نوبل» ولم تفز بها

سيتم الإعلان عن جوائز «نوبل» في الفيزياء والكيمياء والطب الأسبوع المقبل (رويترز)
سيتم الإعلان عن جوائز «نوبل» في الفيزياء والكيمياء والطب الأسبوع المقبل (رويترز)
TT

إعلان الجوائز الأسبوع المقبل... 4 اكتشافات «مذهلة» كانت تستحق «نوبل» ولم تفز بها

سيتم الإعلان عن جوائز «نوبل» في الفيزياء والكيمياء والطب الأسبوع المقبل (رويترز)
سيتم الإعلان عن جوائز «نوبل» في الفيزياء والكيمياء والطب الأسبوع المقبل (رويترز)

سيتم تسليط الضوء على أفضل العقول في مجال العلوم الأسبوع المقبل عندما يتم الإعلان عن جوائز «نوبل» في الفيزياء والكيمياء والطب.

وتحتفي الجوائز، التي أسس لها رجل الصناعة السويدي ألفريد نوبل منذ أكثر من قرن من الزمان، بالأعمال الرائدة التي قد يستغرق إكمالها عقوداً.

ومن الصعب للغاية التنبؤ بمن سيفوز بأعلى مراتب الشرف في العلوم. وتظل القائمة المختصرة والمرشحين سراً، ويتم إخفاء الوثائق التي تكشف عن تفاصيل عملية الاختيار عن الرأي العام لمدة 50 عاماً.

ومع ذلك، هناك بعض الاكتشافات «المذهلة» التي كانت تستحق جائزة «نوبل» ولم تحصل عليها، وفق ما ذكرته شبكة «سي إن إن» الأميركية.

أول جينوم بشري

أحد أبرز الاكتشافات التي كانت مرشحة للحصول على جائزة «نوبل» هو رسم خريطة الجينوم البشري، وهو مشروع جريء بدأ في عام 1990 واكتمل في عام 2003.

أول خريطة كاملة للجينوم البشري (أ.ب)

وشارك في فك الشفرة الوراثية للحياة البشرية اتحاد دولي يضم آلاف الباحثين في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان والصين.

وكان لهذا المسعى تأثير بعيد المدى على علم الأحياء والطب والعديد من المجالات الأخرى. لكن أحد أسباب عدم حصول المشروع على جائزة «نوبل» هو العدد الهائل من الأشخاص المشاركين في هذا العمل الفذ.

ووفقاً للقواعد التي وضعها نوبل في وصيته عام 1895، لا يمكن للجوائز أن تكرم إلا ما يصل إلى ثلاثة أشخاص لكل جائزة، وهو تحدٍ متزايد نظراً للطبيعة التعاونية لكثير من الأبحاث العلمية الحديثة.

الذكاء الاصطناعي

يعمل الذكاء الاصطناعي على تغيير حياة الناس بوتيرة غير مسبوقة. وهو «مجال مزدحم»، لكن يبرز فيه اسمان، وفقاً لـ«ديفيد بندلبيري»، رئيس تحليل الأبحاث في معهد «كلاريفيت» للمعلومات العلمية.

ويحدد بندلبيري الأفراد «الجديرين بالحصول على جائزة نوبل» من خلال تحليل عدد المرات التي يستشهد فيها زملاؤهم العلماء بأوراقهم العلمية على مر السنين.

والشخصيتان البارزتان هنا هما ديميس هاسابيس وجون جامبر، مؤسسا شركة «ديب مايند» التابعة لـ«غوغل» اللذان أنشآ «AlphaFold» وهو نموذج ذكاء اصطناعي للتنبؤ بهياكل البروتين من تسلسل الأحماض الأمينية بدقة عالية، والذي استخدمه ما لا يقل عن مليوني باحث حول العالم، وفق «سي إن إن».

ديميس هاسابيس (يسار) وجون جامبر يتسلمان أحد الجوائز في لوس أنجليس (سي إن إن)

ويساعد «AlphaFold» في تسريع التقدم في علم الأحياء الأساسي والمجالات الأخرى ذات الصلة. ومنذ نشر العالمان بحثهما الرئيسي حول هذه القضية في عام 2021، تم الاستشهاد به أكثر من 13 ألف مرة، وهو ما يصفه بندلبيري بـ«الرقم الاستثنائي»، لأنه من بين إجمالي 61 مليون ورقة علمية، تم الاستشهاد بنحو 500 ورقة فقط أكثر من 10 آلاف مرة.

فهم ميكروبيوم الأمعاء

تعيش تريليونات من الميكروبات (البكتيريا والفيروسات والفطريات) في جسم الإنسان، وتُعرف مجتمعة باسم «الميكروبيوم البشري». ومع التقدم في التسلسل الجيني خلال العقدين الماضيين، أصبح العلماء أكثر قدرة على فهم ما تفعله هذه الميكروبات، وكيف تتفاعل مع بعضها أو مع الخلايا البشرية، وخاصة في القناة الهضمية.

ويقول بندلبيري إن هذا «مجال طال انتظار» أن يحصل عالم فيه على جائزة «نوبل». ويعد عالم الأحياء الأميركي، الدكتور جيفري آي. غوردون، رائداً في هذا المجال.

عالم الأحياء الأميركي الدكتور جيفري آي. غوردون (أرشيفية)

وسعى غوردون إلى فهم الميكروبيوم المعوي البشري وكيفية تشكيله لصحة الإنسان، بدءا من الأبحاث المعملية على الفئران. وقاد بحثاً توصّل إلى أن ميكروبيوم الأمعاء يلعب دوراً في التأثيرات الصحية لنقص التغذية، الذي يؤثر على ما يقرب من 200 مليون طفل على مستوى العالم. ويعمل غوردون على تطوير "تدخلات غذائية" تستهدف تحسين صحة الأمعاء.

الجينات المسببة للسرطان

في السبعينيات، كان من المفهوم أن السرطان ينتقل في بعض الأحيان بين العائلات، لكن التفكير السائد حول سرطان الثدي لم يأخذ في الاعتبار أي قابلية وراثية للإصابة بهذا المرض. ومع خلفيتها في البحث عن الاختلافات الجينية بين البشر والشمبانزي، اتبّعت ماري كلير كينغ، عالمة الوراثة الأميركية وأستاذة الطب وعلوم الجينوم، نهجاً جديداً.

ماري كلير كينغ تظهر مع الرئيس الأميركي حينذاك باراك أوباما بعد حصولها على الميدالية الوطنية للعلوم في حفل بالبيت الأبيض في مايو 2016 (سي إن إن)

وعملت كينغ قبل فترة طويلة من حصول العلماء على رسم خريطة الجينوم البشري، وأمضت 17 عاماً في اكتشاف وتحديد الدور الذي تلعبه طفرة «جين BRCA1» في سرطاني الثدي والمبيض.

وقد أتاح اكتشافها إجراء اختبارات جينية يمكنها تحديد النساء المعرضات بشكل متزايد لخطر الإصابة بسرطان الثدي، بالإضافة إلى الخطوات التي يجب اتخاذها لتقليل المخاطر، مثل الفحص الإضافي والعمليات الجراحية الوقائية.