«الهلال» المصرية.. تعيد مائة عام من وعد بلفور إلى الذاكرة العربية

في عدد تاريخي ضم وثائق وشهادات ودراسات وصورًا فوتوغرافية

«الهلال» المصرية.. تعيد مائة عام من وعد بلفور إلى الذاكرة العربية
TT

«الهلال» المصرية.. تعيد مائة عام من وعد بلفور إلى الذاكرة العربية

«الهلال» المصرية.. تعيد مائة عام من وعد بلفور إلى الذاكرة العربية

بعد نحو مائة عام مرت عليه، وفي عدد تاريخي، أعادت مجلة «الهلال»، أعرق المجلات الثقافية المصرية، وعد بلفور إلى الذاكرة العربية، داعمة القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني، وذلك بالكشف عن دهاليز هذا الوعد المشئوم، الذي تم تدشينه في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، وشكل حجر الأساس في قيام إسرائيل واغتصاب دولة فلسطين.
خصصت المجلة في عددها لشهر نوفمبر الحالي ملفا واسعا موثقا بالصور الفوتوغرافية، والعديد من الوثائق والدراسات والشهادات والرؤى، بعنوان «وعد بلفور.. 98 عاما من ضرب جهاز المناعة الفلسطيني»، ناقشت فيه الأبعاد الخفية والمستترة لهذا الوعد، من شتى الجوانب التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية، كما رصد الملف مظاهر المقاومة والنضال الفلسطيني، منذ بدايات تجسده فعليا على التراب الفلسطيني، وأيضا متابعة أصدائه التي لا تزال حية، في انتفاضات الفلسطينيين ضد القمع الإسرائيلي، وأبرزها في الآونة الأخيرة، انتفاضة نساء فلسطين من أجل فك الحصار الصهيوني للمسجد الأقصى، في إطار سياسة التهويد التي تمارسها إسرائيل لمدينة القدس، سعيا لأن تصبح عاصمة رسمية لها.
أعدت الملف الكاتبة الفلسطينية المقيمة بالقاهرة بيسان عدوان، وقدم له الكاتب الروائي سعد القرش رئيس تحرير المجلة في افتتاحية العدد، قائلا: «استبق الفلسطينيون ذكرى وعد بلفور بانتفاضة جديدة، ثورة على الاحتلال الصهيوني بإمكانات متاحة، تمرد على الثمار السياسية لاتفاقيات أوسلو التي عارضها في حينها ذو البصائر».
وربط القرش في مقارنة لا تخلو من التفاؤل بين تجربة الاستعمار الفرنسي للجزائر، والاستعمار الصهيوني الاستيطاني لفلسطين، مؤكدا أن الثوار الجزائريين نجحوا في تحرير بلادهم، وإن كان الثمن أرواح مليون ونصف المليون شهيد. وربما يخسر المناضلون الفلسطينيون جولة لكنهم سيربحون الحرب وينتزعون دولتهم المستقلة ذات السيادة.. المهم ألا تنكسر إرادتهم «القضية».
شكل الملف بانوراما حية تشابكت فيها الأزمنة والفواصل المعقدة والسرية لمؤامرة احتلال فلسطين، كما كشف عن نزعة استشراقية مستترة، أسهمت في اختراع دولة إسرائيل، على يد شعراء وكتاب ومفكرين وفنانين غربيين، من أبرزهم الكاتب الأميركي مارين توين. كلهم أسهموا بدرجات متفاوتة في خدمة المخطط الصهيوني، وغرس إسرائيل كفزاعة وشوكة في ظهر العالم العربي، الذي لم يكد آنذاك ينفض عن كاهله أعباء حقبة استعمارية، استنفدت طاقاته ومقدراته الذاتية.
استهلت بيسان عدوان الملف بالكشف عن أجواء مخاض وعد بلفور، ونشر الرسائل المتبادلة بشأنه بين وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور، ومسؤولين من الاتحاد الصهيوني، كما أوضحت كيف مهدت لهذا الوعد اتفاقية «سايكس بيكو» الشهيرة والتي جرى بموجبها تقسيم الدول العربية إلى مناطق نفوذ استعمارية بين فرنسا وإنجلترا.
وتكشف الكاتبة المصرية من أصل مقدسي د.هند البديري، في دراستها بعنوان «الوسية»، الدور الذي لعبه انهيار الإمبراطورية العثمانية في بلورة المشروع الصهيوني، لافتة إلى أنه بعد حرب القرم وازدياد قروض الدول العثمانية للدول الأجنبية، سهلت مهمة تغلغل القوى الاستعمارية عليها والتدخل السافر في شؤونها الداخلية، مما حدا ببريطانيا أن تتعهد في عام 1841 بمشروع إسكان لليهود في فلسطين.
ويحلل الباحث الفلسطيني إبراهيم سالم الزاملي «مراوغة المصطلح بين وطن.. ودولة» وكيف أصبح ذلك قناعا، انتقلت من تحته فكرة الصهيونية من النطاق النظري إلى النطاق العملي، خاصة بعد تزعم تيودور هرتزل الحركة الصهيونية، وعقده المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897، وكانت ثمرته مطالبة اليهود الدول الكبرى بوطن قومي لهم، تعويضا عما لحق بهم جراء الحرب العالمية الثانية.
ويكتب الطبيب والباحث الفلسطيني د.إسماعيل أبو شيمس عن المسافة الزمنية «من بلفور حتى النكبة.. وكيف التفت النخبة على الحركة الشعبية». ويستعرض الباحث المصري أشرف راضي «قصة وعد بلفور» كما ترويها الوثائق البريطانية.
وتعيد الناقدة المصرية شذى يحيى قراءة أسطورة «أرض الميعاد» في الذهن الأميركي، وكيف أصبح العرب هنودا حمرا شرقيين، من خلال تحليل ما كتبه مارك توين «عراب أسطورة أرض الميعاد».
ويستعرض الكاتب المصري نبيل حنفي محمود «أول رشوة علمية في التاريخ تثمر دولة لقيطة»، وكان بطل المقايضة حاييم وايزمان. وتتناول الباحثة والناشطة الفلسطينية جنان عبده، التي أسهمت في تأسيس وإدارة جمعيات أهلية فلسطينية ريادية في مناطق 48، جانبا من «التاريخ النضالي للمرأة الفلسطينية»، وهو ما يستعرضه أيضا الكاتب والشاعر الفلسطيني د.فاروق مواسي في توثيقه لأول انتفاضة نساء في فلسطين.
ويخلص الملف إلى أنه لا رهان على تحرير فلسطين إلا بالوعي وعلى هذا الوعي، وأن الحل يأتي من الداخل، وبالإمكانات المتاحة، حتى يقتنع رعاة إسرائيل بأن إقامة الدولة المستقلة - الدولة لا الحكم الذاتي - أخف ضررا، وأقل كلفة للغرب ولإسرائيل من استمرار الوضع القائم.
ويذكر الملف بأن الحتمية التاريخية تنتصر لفكرة زوال الكيانات المضادة للتاريخ، وفي مقدمتها إسرائيل. وهذا ما قاله أرنولد توينبي: «عمر هذا الكيان لن يزيد على مائة عام»، والسؤال الآن: «وماذا سنفعل حتى عام 2048؟».
وعلاوة على هذا الملف الوثيقة، ضم عدد المجلة نصوصا لشعراء من مصر والعراق وتونس ومصر. كما ترجم حسين عيد بعض كتابات سفيتلانا ألكسيفيتش، وترجمت الشاعرة السورية صبا القاسم قصيدتين لديرك والكوت.
وضم العدد دراسة للشاعر محمود قرني عن رواية «سقوط الإمام» لنوال السعداوي، وتناول الناقد السوري محمد ياسين صبيح ديناميكية النص الأدبي في جهود الدكتور محمد مفتاح، وكتب د.عارف كرخي أبو خضيري دراسة نقدية لديوان «لمسة سلام» للشاعر البروناوي شكري زين، وقدم الكاتب د.صبحي شفيق شهادة شخصية على مقدمات ثورة الجزائر من القاهرة.
وبالعدد أيضا حوار متخيل يجريه الشاعر العراقي أسعد الجبوري مع الشاعر المغربي أحمد بركات (1960 - 1994)، وصورة قلمية لـ«سوق مايو» يكتبها من الخرطوم عبد الغني كرم الله، وتعيد المجلة نشر دراسة إدوارد سعيد عن رواية «الزيني بركات» لجمال الغيطاني الذي رحل عن عالمنا الشهر الماضي. أما الصفحة الأخيرة للعدد فكتبها الأديب فؤاد حجازي بعنوان «تاريخ مصر يباع خردة».



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».