هل جعلت الفلسفة للحضارة الغربية؟

لا تنتعش ولا تزدهر إلا بمقتضى عواملَ سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة

جورج طرابيشي
جورج طرابيشي
TT

هل جعلت الفلسفة للحضارة الغربية؟

جورج طرابيشي
جورج طرابيشي

يبدو أنّ الناس يختلفون اختلافاً خطيراً في مسألة الاستئثار بنعمة العقل الفلسفيّ. لا بدّ في هذا السياق من التذكير بما قاله عظيمُ فلاسفة فرنسا دِيكارت (1596 - 1650) حين أعلن أنّ العقل أعدلُ المزايا قسمةً بين الناس. أعتقد أنّ مثل هذا القول يَهدم جميع الأحكام الاستئثاريّة الاستعلائيّة. غير أنّ دِيكارت لم يشرح لنا الأسباب التي تجعل هذه الثقافة تستثمر استثماراً ذكيّاً مُغنياً نصيبَها من العقل الفلسفيّ، وتمنع تلك الثقافة من التمتّع ببركات التفكير العقليّ المحض. الواضح أنّ نشأة الفلسفة في المدينة الإغريقيّة لها أسبابُها السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. هذا أمرٌ أجمع عليه العقلاء، ولو أنّ بعض المعارضين ما برحوا يُصرّون على انبثاق التفكّر الفلسفيّ من الشرق.

ديكارت

إذا أردنا أن نعالج المسألة معالجةً موضوعيّةً مُنصفة، كان علينا أن نُعرّف العقل ونُعرّف الفلسفة، حتّى نتبيّن وجه الصواب في قضيّة استثمار الفلسفة. ذلك بأنّ تعريف العقل تعريفاً منحازاً قد يجعل الناس الذين يؤمنون بالأساطير والميتولوجيات والماورائيّات والغيبيّات من أشدّ المدافعين عن مقام العقل، ويجعل الذين يعتصمون بمبادئ العقل الأساسيّة المستندة إلى أصول المعاينة العلميّة الواقعيّة الموضوعيّة المجرّدة من أسوأ أعداء النظر العقليّ. كذلك القول في الفلسفة؛ إذ إنّ تعريف الفلسفة يختلف من ثقافةٍ إلى أخرى.

يدرك الجميع أنّ بعض مباحث الفلسفة، كالمِتافيزياء والفِنومِنولوجيا وفلسفة الدِّين، تميل إلى مراعاة الفرضيّة الماورائيّة وتقبل بوجود عالمٍ علويٍّ آخر يختلف عن عالم المكان والزمان. إذا كانت المِتافيزياء تنظر في ما وراء الطبيعة، والفِنومِنولوجيا تترصّد طاقات الاعتلان في الظاهرات المتجلّية، لاسيّما ظاهرة الحياة الأرحب، وفلسفة الدِّين تتدبّر اختبارات التجاوز الذي ينعقد عليه فعلُ الإيمان، فإنّ العقل الفلسفيّ المحض يحرص على ضبط النزعة الشطحيّة والإمساك بالميل الانعتاقيّ الذي يدفع بالإنسان إلى التضجّر من حدود المكان والزمان، والترحّل إلى عالم الخيال الخصب والتوهّم المنعش. من واجب الفلسفة أن تحاذر الانشطاح والانفلات والانعتاق، وتناصر المحايثة والحيثيّة والموضعيّة والانتسابيّة. كلُّ تفكيرٍ يزيّن للناس أنّ الفلسفة تجيز لنفسها الخروجَ من دائرة المكان والزمان يجب أن يسوّغ علميّاً مرتكزات الانعتاق ومستندات التجاوز. كان مؤسّسُ الفِنومِنولوجيا الألمانيّ هوسّرل (1859 - 1938) شديدَ الحرص على استثمار الظاهرة (الفِنومِنون) في قابليّاتها الكشفيّة الذاتيّة التي لا تقذف بها في رحاب اللامكان واللازمان واللاتاريخ. جلُّ عنايته أن يكشف لنا عن أنّ الواقع ينطوي بحدّ ذاته على طاقاتٍ اعتلانيّةٍ رحبةٍ ينبغي استثمارُها في قرائن الانتماء الرضيّ إلى المحدوديّة الطبيعيّة الراهنة.

هوسرل

وعليه، إذا كان الشطح الصوفيّ والانعتاق المكانيّ والمعاندة الزمانيّة في أصل فعل التفلسف، فإنّ ثقافات الحضارات الآسيويّة والأفريقيّة مارست الفلسفة منذ أقدم الأزمنة. أمّا إذا اعتمدنا تعريفَ العقل أداةً بحثيّةً تفترض صونَ المحدوديّة المكانيّة - الزمانيّة، ومراعاة الانتماء التاريخيّ الدهريّ، وتعزيز انتساب المحايثة التي تجعل الإنسان يقيم حيث هو، ولا ترمي به في لجج الرغبات التجاوزيّة ومتاهات المكاشفات الافتراضيّة، فإنّ الثقافات التي نهجت نهجَ المدينة الإغريقيّة وانتشرت في الغرب الأُوروبّيّ أقربُ إلى ممارسة التفكير الفلسفيّ الأصيل. فضلاً عن ذلك، ليست الفلسفة حدساً التماعيّاً أو نوراً مُلهِماً تقذفه الحكمةُ الكونيّةُ في صدر الإنسان، بل مراسٌ منهجيٌّ متطلّبٌ يستلزم النظر في شتيت الاختبارات الإنسانيّة واستخراج المعنى الهادي الذي يلائم وضعيّة الناس وطرائق تفكيرهم في زمنٍ من الأزمنة.

أعود فأكرّر أنّ لكلّ إنسان الحقّ في ادّعاء التفلسف الحرّ. غير أنّ الثقافات الإنسانيّة تميّزت بميولٍ ونزعاتٍ وتيّاراتٍ جعلت بعضها أقربَ إلى الفلسفة العقلانيّة منها إلى الشطح الوجدانيّ الصوفيّ. لستُ أظنّ أنّ الشعوب الهنديّة، على سبيل المثال، أجادت في ممارسة الفلسفة العقلانيّة، وأنّ الشعوب الأُوروبّيّة تألّقت في الخوض في رحاب الوجدانيّات الصوفيّة المتعالية. قد يفيدنا أن نستذكر ما قاله أبو حيّان التوحيديّ (923 - 1023) بشأن توزيع مواهب الأمَم: «صار الاستنباط والغوص والتنقير والبحث والاستكشاف والاستقصاء والفكر لليونان، والوهم والحدس والظنّ والحيلة والتحيُّل والشعبذة للهند، والحصافة واللفظ والاستعارة والإيجاز والاتّساع والتصريف والسحر باللسان للعرب، والرويّة والأدب والسياسة والأمن والترتيب والرسوم والعبوديّة والربوبيّة للفرس» (الإمتاع والمؤانسة، ص 211 - 212). من البديهيّ أن يبتسم المرءُ حين يقع على مثل هذا النصّ، ولو أنّ عباراته تنطوي على بعضٍ من الحكمة والإصابة. الابتسامة عينها ترتسم على وجهنا حين يطالعنا فيلسوف الأمّة الجرمانيّة هايدغر (1889 - 1976) برأيه الاستفزازيّ ليحصر دعوة الفلسفة بشعبَين اثنَين: الإغريقيّ والألمانيّ.

ليس من الفطنة أن نذهب هذا المذهب؛ إذ إنّ لكلّ شعبٍ القدرة الذاتيّة على ممارسة الفلسفة. والعرب أثبتوا أنّهم خليقون بالتفلسف في العصور الوسيطة. بيد أنّ شروط الإقبال على الفلسفة لا تنعقد في جميع المجتمعات وفي جميع العصور. هذا واقعٌ لا مهرب منه. لذلك أجمع الباحثون على القول إنّ الفلسفة لا تنتعش ولا تزدهر إلّا بمقتضى عواملَ سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة تتيح انبثاق التفكّر العقلانيّ السليم. أخطر العوامل السياسيّة الحرّيّاتُ الفرديّة والجماعيّة والتسالم الهنيّ في حضن المدينة الإنسانيّة. أمّا العوامل الثقافيّة فتقترن أوّلاً بطبيعة اللغة وطاقاتها التعبيريّة ومَسار تطوّرها المعجميّ. من الطبيعيّ ألّا تزدهر الفلسفة في لغةِ قبيلةٍ أمازونيّةٍ لا تتجاوز مفرداتها 5000 كلمة! كذلك اللغة التي تُفرِد للأسد مائة مرادف إنّما تضع قوّتها في غير موضع التفلسف النظريّ التجريديّ المتطلّب، ناهيك بالتجمّد النحويّ المفروض على الناس من جرّاء الائتمار بأحكام النصّ الدِّينيّ. لا ريب في أنّ اللغة المقيّدة بقوانينَ وقوالبَ ثابتة لا تتيح التفلسف. ومع ذلك، فإنّ آليّات التجديد ليست مستحيلة، بل معطّلة تعطيلاً آيديولوجيّاً. أمّا العوامل الاجتماعيّة فتفترض أنّ الناس بلغوا شأواً عظيماً في فهم معاني الاختلاف والتنوّع، واستبصروا في ضرورات الفكر ومنافع القراءة وثمار المناقشة الحرّة الراقية.

تلك كانت حال المدينة الإغريقيّة التي نشأ فيها البناء الفلسفيّ المنهجيّ المتّسق. غير أنّ القول بصدارة التفلسف الإغريقيّ الأصليّ لا يعني تعزيز المركزيّة الثقافيّة الأُوروبّيّة، بل يحرّض الجميع على ابتكار الفلسفة المحلّيّة التي تصون أصول التفلسف والبناء المنهجيّ والتماسك المنطقيّ والاتّساق الهندسيّ في بناء العمارة الفلسفيّة. يعرف الجميع أنّ بضعةً من فلاسفة المدينة الإغريقيّة، ومنهم بارمنيذيس وهيراقليطوس وزينون وبروتاغوراس وأفلاطون وأرسطو وسواهم، إمّا هاجروا إليها وإمّا سافروا منها إلى الشرق للتكسّب المعرفيّ والاختبار الوجدانيّ. ولكنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الفلاسفة المهاجرين هؤلاء، على حدّ تعبير جيل دُلوز، سرقوا البناء الفلسفيّ المكتمل من الشرق، بل تأثّروا بفكرةٍ أو حدسٍ أو التماعٍ وضّاء، وعادوا فبنَوا ما بنَوه في المدينة الإغريقيّة التي أتاحت لهم التفلسف الحرّ.

نادى جورج طرابيشي بضرورة الثورة العلميّة في العالم العربيّ حتّى تنشأ لنا فلسفة عربيّة أصيلة.

خلاصة القول أنّ الفلسفة ليست عنصريّة، بل متطلّبة! شأنها شأن العلم الذي لا يمكن أن يرتجله الناسُ ارتجالاً. والحال أنّ المجتمعات التي لم تحرز التقدّم العلميّ باءت بالإخفاق الفلسفيّ. لذلك نادى الفيلسوف السوريّ جورج طرابيشي (1939 - 2016) بضرورة الثورة العلميّة في العالم العربيّ حتّى تنشأ لنا فلسفة عربيّة أصيلة. لا عجب، من ثمّ، في أن تتكاثر أعداد المختصّين بالآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعات اللبنانيّة والعربيّة، في حين أنّ المطلوب تعزيز البحث العلميّ حتّى يتحرّر العقل من قيود الجهل والآيديولوجيا. لا تستطيع الفلسفة وحدها أن تحرّر العقل من قيوده، بل يجب أن يؤازرها الوعيُ العلميّ. يعتقد بعضنا أنّ الفلسفة العربيّة الوسيطة لم تزدهر إلّا لأنّ الفلاسفة كانوا يوازون العلماء مقاماً وشأناً وسلطاناً فكريّاً؛ لا بل كان معظم الفلاسفة علماء.

اعتقادي الراسخ أنْ لا قيام لفلسفةٍ عربيّةٍ معاصرةٍ ترفض محاورة الفلسفات العالميّة، الأُوروبّيّة والأمِريكيّة والآسيويّة والأفريقيّة، بحجّة أنّ الفكر العربيّ لا يحتاج إلى النظر في ما أبدعه الآخرون، والاستناد إليه والانطلاق منه، أو انتقاده وإصلاحه وتجويده. وحده التحاور التفاعليّ التضامنيّ يتيح للفلسفة العربيّة المعاصرة أن تبني عمارتها بناءً مندمجاً في قرائن اهتمامات الإنسان المعاصر الوجوديّة المصيريّة. ليست الفلسفة قلعةَ الدفاع عن الذات، بل سبيلُ الإفصاح عن خصوصيّة الحسّ الذاتيّ في تناول قضايا الوجود الإنسانيّ العالميّ. من الضروريّ أن ينشأ لنا قولٌ فلسفيٌّ عربيٌّ معاصرٌ يستجيب لمتطلّبات الوعي الإنسانيّ العالميّ، فيُقبِل عليه الآخرون يتأمّلون في مُلاءماته الصائبة ومقاصده الصالحة.


مقالات ذات صلة

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

ثقافة وفنون جين اوستن

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا».

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه.

إبراهيم اليوسف
ثقافة وفنون أسئلة شائكة مطروحة على عصرنا

أسئلة شائكة مطروحة على عصرنا

عن دار «خطوط وظلال» بعمان، صدر لفاضل السلطاني كتاب «البربرية الثقافية... وقائع الانهيار». وضم مقالات في الفكر والثقافة والأدب واللغة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون محمود البريكان... شعرية الاغتراب

محمود البريكان... شعرية الاغتراب

تجربة الشاعر محمود البريكان، بوصفه أحد شعراء الحداثة العراقيين، المجايلين للشاعر بدر شاكر السياب، منذ خمسينات القرن الماضي، تجربة شعرية متفردة إلى حدٍ كبير.

فاضل ثامر
ثقافة وفنون قصص قصيرة من أفريقيا

قصص قصيرة من أفريقيا

ضمن سلسلة «آفاق عالمية» التي تصدرها «الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة»، صدرت «أنطولوجيا القصة القصيرة السواحيلية» التي تضم عدداً من النصوص الإبداعية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.


«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن
TT

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا»، يضم رسائل تبادلتها الروائية مع أختها الكبرى كاسندرا.

الحدث، وفق تقارير الصحافة الأدبية، مهم، فنحن إذا استثنينا بعض المذكرات المختصرة التي نشرها أقارب جين أوستن في القرن الـ19، ورغم المكانة الرفيعة التي تحظى بها الكاتبة اليوم، فإن ما نملكه من معطيات عن حياتها لا يزال محدوداً نسبياً. ولذا؛ فإن مبادرة دار النشر «فينيتيود» جاءت لتقدّم فتحاً لافتاً، حيث أصدرت لأول مرة النص الكامل للرسائل المتبادلة بينها وبين شقيقتها، وهي تقدر بنحو 89 رسالة تبادلتها الأختان بين يناير (كانون الثاني) 1769 وأبريل (نيسان) 1816، بينما كان الباحثون قد قدروا عدد الرسائل التي كتبتها جين في حياتها بنحو 300، لم يبقَ منها سوى 116، حيث حرقت كاسندرا جزءاً منها؛ حمايةً لسمعة جين بعد وفاتها، خصوصاً أن كثيراً منها تضمن تعليقات غير مُحبّذة أو جارحة بحق بعض الأقارب والأصدقاء، أو إشارات إلى مسائل خاصة بالصحة والعلاقات.

«عزيزتي كاسندرا» ليست مجرد مراسلات عائلية بين أختين تجمعهما علاقة قوية، بل وثائق تاريخية تكشف عن امرأة رفضت الخضوع لتقاليد عصرها... اختارت الكتابة على الزواج المريح، وحولت معاناتها الشخصية إلى فن راقٍ، حيث نرى جين أوستن الحقيقية: المرأة الذكية، والساخرة، والمحبة لعائلتها، والملتزمة بفنها حتى النفس الأخير.

في رسائلها المبكرة، تكشف جين، البالغة من العمر 20 عاماً، لأختها وكاتمة سّرها كاسندرا عن علاقة عاطفية مع المحامي الآيرلندي الشاب توم ليفروي، التي يُعتقد أنها ألهمت شخصية «السيد دارسي» في روايتها «كبرياء وتحامل»، حيث كتبت إلى كاسندرا في 9 يناير 1796: «كاسندرا... أخشى أن أخبرك كيف تصرفت أنا وصديقي الآيرلندي. تخيلي كل ما هو صادم وفاضح في الرقص والجلوس معاً...». وفي 15 يناير، كتبت إليها مجدداً بنبرة مختلطة؛ بين الدعابة والأسى: «اليوم هو اليوم الذي سأغازل فيه توم ليفروي لآخر مرة، وحين تصل إليك هذه الرسالة، فسيكون كل شيء قد انتهى. دموعي تنهمر وأنا أكتب هذه الفكرة الكئيبة».

واللافت أن جين بدأت كتابة المّسودة الأولى لرواية «كبرياء وتحامل» في أكتوبر (تشرين الأول) 1796، أي بعد أشهر قليلة من رحيل ليفروي إلى لندن لإكمال دراسته القانونية؛ مما يعزز فرضية تأثير هذه التجربة العاطفية على إبداعها الروائي. وعكس الرواية التي حملت نهاية سعيدة، فان جين لم تتزوج توم بسبب وضعها المادي ومعارضة العائلة هذه العلاقة. وهو ما تُظهره رسائل أخرى مكتوبة بين عامي 1801 و1806، حيث تبدو في مواجهة تحديات مالية واجتماعية قاسية، بعد أن قرّر والدها التقاعد والانتقال إلى مدينة باث، وهو ما صدم جين بعمق، حيث كتبت في 5 مايو (أيار) 1801 واصفة بلهجة ساخرة: «المنظر الأول لباث في طقس جميل لا يوافق توقعاتي. أعتقد أنني أرى بوضوح أكثر من خلال المطر...». وتضيف في موضع آخر: «كل شيء بخار وظلال ودخان وارتباك».

وفاة والدها المفاجئة عام 1805، تركت جين وكاسندرا ووالدتهما في وضع مالي صعب، حيث اضطررن إلى الاعتماد على المساعدات السنوية من الأشقاء الذكور، والتنقل بين منازل الأقارب.

خلال هذه الفترة العصيبة، توقفت جين بشكل شبه كلي عن الكتابة، حيث بدأت رواية «ذا واتسونز» لكنها لم تكملها، والرواية تتحدث عن قسّ مريض فقير وبناته الأربع غير المتزوجات؛ مما فُسر بأنه صدى واضح لمحنتها الشخصية. الاستقرار لم يأتِ إلا في عام 1809 عندما وفر لهن شقيقها الغني إدوارد منزلاً في تشاوتون، حيث عاشت جين أكثر سنواتها إنتاجاً أدبياَ هناك مع كاسندرا التي تولت إدارة المنزل، لكي تتفرغ جين للكتابة. في هذه الفترة، أنتجت خمساً من أشهر رواياتها: «العقل والعاطفة» و«كبرياء وتحامل» و«متنزه مانسفيلد» و«إيما» و«إقناع». ورغم وضعها المادي، فإن جين أوستن لم تكن تقبل بالنفاق أو بالتنازل عن مبادئها، وهو ما وثقّته الرسائل بشكل غير مباشر من خلال قصّة خطبة هاريس بيغ ويذر، الذي فاجأها بعرض زواج خلال زيارتها عائلته في مانيداون بارك. وبعد قبولها العرض، غيّرت رأيها في الصباح التالي، وفرّت إلى باث مع شقيقتها كاسندرا في حالة من الاضطراب الشديد.

هذا الرفض لم يكن مجرد قرار عاطفي، بل كان قراراً مصيرياً رفضت فيه جين الأمان المالي والمكانة الاجتماعية من أجل مبادئها. وقد انعكست هذه التجربة في رواياتها، خصوصاً في شخصية «شارلوت لوكاس» في «كبرياء وتحامل» التي قبلت بالزواج من «السيد كولينز» لأسباب مادية، وفي علاقة «فاني» و«هنري» في «متنزه مانسفيلد». وقد كتبت جين لاحقاً في إحدى رسائلها عام 1814 ناصحة: «كل شيء يُفضّل، أو يُحتمل، ما عدا الزواج من دون عاطفة».

الرسائل أظهرت أيضاً شخصية جين المحترفة الحريصة على التفاصيل والدقة في تحرّي المعلومات، حيث نراها تناقش أختها تفاصيل عن سفن البحرية لتضمن دقة الوصف في «متنزه مانسفيلد»، وقد غيرت كثيراً من التفاصيل بعد أن استشارت شقيقها الضابط.

في رسائلها الأخيرة (1816 - 1817)، ورغم المرض الذي بدأ ينهش جسدها الذي يُعتقد اليوم أنه كان مرض «أديسون»، فإن جين استمرت في الكتابة بروح متفائلة، حيث بدأت رواية «ساندايتون»، لكنها لم تكملها بسبب ضعفها. وفي إحدى رسائلها الأخيرة لأختها كاسندرا في يناير عام 1817، كتبت بروحها المرحة المعتادة رغم معاناتها الواضحة، قائلة: «أعيشُ غالباً على الأريكة، لكني حصلت على تصريح بالمشي من غرفةٍ إلى أخرى؛ خرجتُ مرةً أتنفس الهواء بعد أن تناولت قرص دواء، ووُضعت على كرسيٍّ محمول...»، وهي عبارةٌ تُظهِرُ قدرتها على المزاح رغم المرض.


«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى
TT

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 265 صفحة)، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه، ويستقبله بلد آخر بصفته «أجنبياً» لا بصفته ذاتاً كاملة. يتموضع هذا الجزء بوصفه بناءً تمهيدياً لمشروع سردي أطول، يقدّم الشخصيات والفضاء واللغة والحدث من دون إغلاق أي سؤال، بل عبر تثبيت قاعدة الانطلاق فقط.

يتمحور السرد حول حركة انتقال واحدة: خروج من فضاء مهدَّد في الوطن الأول، ودخول إلى فضاء منضبط وبارد في بلد اللجوء. غير أنّ الكاتب لا يتعامل مع هذه الحركة بوصفها رحلةً درامية أو ملحمة عبور، بل على أنها تحوّل بطيء في إيقاع حياة بطل واحد هو «شفان»، الذي يُعاد تشكيله داخل نظام كامل من الملفات والمقابلات والاستمارات وأسئلة الهوية، بحيث يُطلَب منه أن يسوّغ وجوده باستمرار. الحدث الرئيس ليس سلسلة وقائع، بل اصطدام يومي بين ما يراه «شفان» في نفسه وبين ما تراه المؤسسة عنه.

قوّة السرد تكمن في تجنّب الروائي الإفراط الدرامي؛ فلا مطاردات البتة، ولا مشاهد عبر الحدود، ولا بكائيات... إنما ثمة توتر منخفض يستمدّ قوته من الانتظار الطويل، وبطء الإجراءات، وقلق المستقبل. يكتب الروائي تجربة اللجوء بطريقة أقرب إلى الواقع منها إلى الصورة التلفزيونية. وبذلك يصبح الشعور بالاختناق البارد هو المسرح الداخلي للرواية، لا مشاهد العنف أو المآسي الصارخة.

شخصية «شفان» تُبنى عبر طبقات شفّافة، فلا يُقدَّم بطلاً ولا ضحية، بل إنساناً عادياً يحمل ذاكرة قاسية لكنه يعيش لحظة الحاضر تحت سطوة إجراءات يومية. الماضي يظهر بوظيفة تفسيرية لا استطرادية، بحيث لا يطغى على الحاضر. كما أن التغيير في الرواية ليس طفرة ناتجة عن حدث كبير، بل حصيلة مواقف صغيرة متراكمة، منها: تعلُّم الوقوف أمام الموظف، وكبح الغضب أمام النظرة المتعالية، وفهم شروط المكان الجديد... تكلفة الخطأ عالية، لذا يأتي النضج بطيئاً وحذراً.

إلى جوار «شفان» تتحرك شخصيات ترسم محيط التجربة. فـ«خبات» لا يظهر بوصفه نموذجاً مثالياً بل مهاجراً متعباً، يساعد ويتردد ويخاف، فتنعكس فيه صورة احتمال آخر لمصير «شفان». أمّا «بروين» فتمثل خطاً عاطفياً محتَملاً لا يكتمل، لأن المنفى لا يمنح علاقة مستقرة بسهولة. الحوار بينهما مشحون بالحذر، كأنّ كل كلمة اختبار لخطوة آتية قد تُبنى أو تُلغى. بهذا تُظهر الرواية بعداً آخر للمنفى: المنفى عن الطمأنينة العاطفية، لا عن الوطن وحده فقط. أما الظلّ فيأتي بوصفه أداة فنية ذكية تتيح مساءلة الذات من دون تنظير مباشر. إنه صوت عميق يسأل عن جدوى الرحيل، وإمكان العودة، ومعنى العيش بين هويتين، مما يمنح البنية النفسية للرواية بعداً هادئاً، يكشف عمّا هو أعمق من السرد المباشر.

المكان في «الأوسلاندر» ليس فضاءً جغرافياً بل شبكة ضغط. الوطن الأول يُستحضر بإشارات موجزة تكفي لتبيان أنّ وراء الخروج خوفاً حقيقياً. بينما البلد الأوروبي لا يرسمه الروائي جحيماً ولا فردوساً، بل منظومة صلبة في إجراءاتها، دقيقة إلى حدّ الإرهاق والاختناق. حيث تكفي غرف الإيواء الضيقة، والأسرّة المتجاورة، والمطابخ المشتركة، وأرقام الانتظار، والممرّات الرسمية، لتأسيس شعور الرقابة المستمرة. حتى الأماكن المفتوحة كالغابة أو المقهى تُستخدم كتخفيف مؤقت من الجدران لا كرموز فلسفية.

الزمن في الرواية يُبنى بنظامين؛ أحدهما زمن إداري تحدّده المواعيد والدوائر والرسائل، وثانيهما زمن داخلي يتشكّل في لحظات الانتظار الطويلة، حيث يتسلل الماضي إلى الوعي من دون أن يخطف مركزية الحاضر. فلا قفزات زمنية معقدة ولا نهايات مغلقة. إنها قطعة من مسار أطول، مرحلة من تشكّل هوية «الأوسلاندر» التي من المفروض أن تُستكمل في الجزأين التاليين.

وبوصف اللغة عنصراً رئيساً ومهماً في بناء العالم السردي، يختار خالد إبراهيم، القادم من الشعر، لغة نثرية اقتصادية، بجمل قصيرة، ومشاهد محكمة، بلا زخرفة أو استعارات مبهرة. هذا الخيار الجمالي يكسر السرديات المعتادة حول اللجوء، التي كثيراً ما استدرجت الخطاب العاطفي أو الإنشائي. هنا تُستخدم اللغة أداة إضاءة، لا وسيلة لاستدرار التعاطف. ورغم ذلك يسمح الكاتب لجملته أحياناً بأن تتباطأ وتتأمل، لكنها تبقى لحظات عابرة لا تغيّر من نبرة الأساس.

لا يحصل قارئ رواية «الأوسلاندر» في نهاية الجزء الأول على أي يقين حول مصير «شفان»... الماضي مفتوح على تهديد محتمل، والحاضر لم يتحول إلى إقامة مستقرة، والمستقبل لا يظهر إلا من زاوية الشك. هذه اللّاخاتمة ليست ضعفاً، بل هي جزء من مشروع الرواية كما نعتقد: ترك الباب مشرعاً أمام التكوين المستمر لشخص يتشكّل تحت ضغط تصنيف قاسٍ اسمه «الأوسلاندر».

بهذا الاشتغال الدقيق على الشخصية والزمان والمكان واللغة، يقدّم الجزء الأول من «الأوسلاندر» نموذجاً لرواية تُراكم ولا تُعلن، وتكشف ولا تستعرض، وبذلك تضع القارئ داخل التجربة لا خارجها.