في هذا الحي المصري العتيق سياحة من نوع آخر، مزارات مغايرة لأي مكان آخر، إنه حي «السيدة زينب» جنوب القاهرة؛ حيث عراقة المكان، وخصوصية الهوية البصرية؛ وحميمية الروح الإنسانية. ستخوض هنا تجربة «السياحة الشعبية» أو للدقة «السياحة الفلكلورية»؛ فتتنقل داخل أزقة تفوح منها رائحة الماضي، تعيش في عالم الموشحات، وحلقات الذكر والموالد والحواة والمشعوذين والسقاءين، وستلتقي داخل الأزقة والدهاليز عادات وتقاليد سكان الأحياء القديمة والعمارة البدائية لبيوت عتيقة تحتضن بين جدرانها سحر الحكايات.
في شوارع «السيدة زينب» وميادينها سيستوقفك منظر عربات «الحنطور» وهي تقل السياح ليشاهدوا أماكن سطرت على أرضها صفحات لا تٌنسى من التاريخ، سيقترح عليك حتماً سائق العربة البدء بذلك الشارع المعروف عند عامة المصريين باسم «شارع السد»، وهو يحتل مكانة كبيرة عندهم، لا سيما في شهر رمضان؛ تلفه الأجواء الروحانية، وتقام في أرجائه شوادر الفوانيس.
في هذا الحي يمثل التراث الغذائي المصري بين يديك؛ إذ يشتهر الحي العتيق بمطاعمه الشعبية المتنوعة وكأنها تسرد حكاية فلكلور الطعام، إلى حد أن شهرة تلك المطاعم وصلت إلى الأعمال السينمائية والدرامية، ومن أشهرها «كبدة فتحي».
أما إذا كنت تريد المزيد من تذوق ما يعرف عند المصريين بـ«الحلويات» وهي (الممبار، الفشة، الكوارع، الطحال، الكرشة، لحمة الرأس، والنيفة) فأنصحك أن تتوجه إلى مكان قريب من هذا الحي، وهو مسمط «بحة» بالناصرية، على أن تعود مرة أخرى إلى قلب «السيدة زينب»؛ لتواصل التواصل مع الفلكلور الغذائي؛ فتأكل من مطعم «الجحش»؛ فهناك ستستمتع بواحدة من أشهر الأكلات المصرية الشعبية، وهي الفول والطعمية، بينما ستجد رائحة الشواء والطواجن الغنية القادمة من «كبابجي الرفاعي» تدعوك إلى تناولها مع أطباق الملوخية وطاجن البامية باللحم الضاني، فضلاً عن المحاشي، وغير ذلك من أكلات محلية شهية.
ستأخذك منطقة «السيدة زينب» كذلك إلى رحلة بين الفنون اليدوية والحرف التقليدية؛ حيث تضم مجموعة كبيرة من الورش المتخصصة لمشاهير الأسطوات والفنانين، مثل «أيمن برويز» مبدع الزجاج المعشق، الذي طاف العالم بفنه الأصيل، وغيره كثيرون، ستجدهم يتيحون لك اقتناء روائع من «الهاند ميد» تجسد قِطعاً من التراث المصري.
المساجد الأثرية والأضرحة جانب آخر يتميز به الحي العتيق؛ ما يجعله قِبلة لعشاق السياحة الدينية أيضاً، حيث يوجد مسجد «السيدة زينب» الذي اشتق اسمه منه. ولا يمكن أن تزور «السيدة زينب» دون أن تشاهد النموذج الفريد في تاريخ العمارة الإسلامية، في مسجد «أحمد بن طولون» وسط الحي، فإلى جانب تميزه المعماري، يتمتع بتاريخ طويل؛ فهو ثالث مسجد بني في مصر الإسلامية بعد «عمرو بن العاص» في الفسطاط، وجامع «العسكر» في مدينة العسكر، اكتمل بناؤه عام 879م. وسيلفت نظرك عند زيارته تمتعه بالهوية المعمارية العراقية؛ بسبب تأثر بن طولون بنشأته في العراق، وظهور تلك المؤثرات على عمارة المسجد من ناحية التصميم والزخرفة على السواء.
استكمل جولتك التاريخية الاستثنائية عبر زيارة «متحف جاير أندرسون» المعروف باسم «بيت الكريتلية» والمجاور للمسجد، وهو من المعالم الأثرية المهمة في الحي الشهير؛ لذلك أنصحك ألا تفوتك زيارته، هناك ستتعرف على قصة شيقة تخصه، وسر أنه يتكون من منزلين، ولماذا تقدم الضابط الإنجليزي جاير أندرسون باشا إلى لجنة حفظ الآثار العربية عام 1935 بطلب لاستئجارهما على أن يقوم بترميمهما وبتأثيثهما على الطراز الإسلامي.
ستبهرك داخله مجموعة نادرة من المقتنيات الأثرية المصرية القديمة، والإسلامية، كان يمتلكها الضابط، فضلاً عن مقتنياته التي ترجع إلى عصور وحضارات من بلدان مختلفة، منها الهند، والصين، وتركيا، وإيران، وإنجلترا، ودمشق، وكأن حضارات العالم اجتمعت داخله، لا يقل روعة عن ذلك الطراز المعماري للمتحف - مساحته الكلية نحو 4000م - وستبهرك تفاصيل قاعاته (29 قاعة) المتميزة بأسقفها الخشبية المزدانة بالزخارف.
على بعد أمتار من مسجد «السيدة زينب»، يقع «درب الجماميز» الذي أُطلق عليه هذا الاسم؛ نظراً لأنه كان يضم عدداً كبيراً من أشجار «جماميز السعدية» منذ العصر المملوكي في مصر؛ حيث كان سكناً للأمراء والنبلاء، في عصور المماليك والعثمانيين والعلويين، وأقاموا به قصورهم ومنشآتهم الدينية؛ لذلك حين تزوره ستجد مباني قديمة متنوعة، وقد احتضن الدرب كذلك أول مدرسة للفنون الجميلة والتي تخرج فيها كبار الفنانين وأبرزهم الفنان محمود مختار؛ كما شهد أول مكتبة في تاريخ مصر وهي «الكتبخانة».
من أشهر الحكايات الشعبية المرتبطة بالحي، والتي يتداولها سكانه منذ مئات السنين، والتي سيقصها بالضرورة عليك أحدهم حين تزوره هي تلك الحكاية المرتبطة بـ«الحوض المرصود»، وهو كما جاء في كتاب «وصف مصر» تابوت فرعوني من الجرانيت الأسود، قام أحد بكوات المماليك بوضعه أمام جامع «سنجر الجاولي» في الحي، وكان الأهالي يملأونه بالمياه ليشرب منه المارة، ثم انتشر بين الناس، أن من يرتوي بمياهه يُشفي من أوجاع العشق والفراق!، ويقال إن مجموعة من الفرنسيين قاموا بتجربة تأثير مياهه بهدف الشفاء من الحب، واندهشوا لما حدث لهم!؛ فأطلقوا عليه اسم «ينبوع العشق»، وأطلق عليه المصريون اسم «الحوض المرصود» أي «الحوض المسحور»، إلا أنه لم يتبق منه سوى اسمه الذي أطلق على أحد مستشفيات القاهرة، وسيبلغك بعض أبناء الحي، بقية القصة، وهي أن علماء الحملة الفرنسية من فرط إعجابهم بالتابوت أخذوه معهم إلى باريس أثناء خروجهم من مصر سنة 1801مع حجر رشيد!
من أهم النشاطات التي يمكن أداؤها في الحي هو التوجه إلى «بيت السناري»، وهو بيت أثري تابع لمكتبة الإسكندرية، يقيم الكثير من الفعاليات الثقافية والفنية والفلكلورية، مثل المعارض والندوات والمحاضرات والعروض السينمائية.