زكي ناصيف... 20 عاماً على الغياب وأغنيتُه ما زالت «تعمّر»

القيّمون على إرث الموسيقار اللبناني يتحدّثون لـ«الشرق الأوسط» عن رحلة الحفاظ على فنّه وإحيائه

الفنان اللبناني الراحل زكي ناصيف على شرفة منزله في بيروت (أرشيف أ.ف.ب)
الفنان اللبناني الراحل زكي ناصيف على شرفة منزله في بيروت (أرشيف أ.ف.ب)
TT

زكي ناصيف... 20 عاماً على الغياب وأغنيتُه ما زالت «تعمّر»

الفنان اللبناني الراحل زكي ناصيف على شرفة منزله في بيروت (أرشيف أ.ف.ب)
الفنان اللبناني الراحل زكي ناصيف على شرفة منزله في بيروت (أرشيف أ.ف.ب)

بعض الغياب لا يقوى عليه الزمن، كما أغاني زكي ناصيف التي، وبعد 20 سنة على رحيله، ما زالت تنبعث فراشاتٍ وأزهاراً، وتحلمُ بلبنان الراجع من كبوته.

حتى الرمق الأخير ومن على سرير المستشفى، ظلّ الفنان اللبنانيّ يؤلّف الكلام والألحان. كان الوداع في 10 مارس (آذار) 2004 مظلّلاً بالموسيقى، على ما يخبر ابن شقيقه د. نبيل ناصيف «الشرق الأوسط». لم يكن الموسيقار يعرف حينها أنّ بيت الطفولة في مشغرة البقاعيّة سيصير متحفاً، ولا أنّ مكتبته الموسيقيّة ستنتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت تحت رعاية «برنامج زكي ناصيف للموسيقى»، ولا أنّ الأجيال الآتية بعده ستردّد أغانيه.

غرفة زكي ناصيف في منزله في مشغرة البقاعيّة (أرشيف العائلة)

بدرُ مشغرة في «البستان»

لم يُعثَر على وصيّةٍ بين نوتاته وخواطره المبعثرة، غير أنّ مبادرة «برنامج زكي ناصيف» تكفّلت بالحفاظ على الإرث. منذ ديسمبر (كانون الأول) 2004، والمواعيد تتلاحق للاحتفاء بموسيقاه. أما هذه السنة والتي تصادف ذكرى غيابه العشرين، فسيحضر طيف ناصيف في «مهرجان البستان» مساء 12 مارس. ضمن أمسية بعنوان «طلع البدر علينا»، تقدّم جوقة البرنامج مجموعة من الترانيم والأناشيد بمناسبة الصوم لدى المسيحيين والمسلمين، إلى جانب عدد من أغاني ناصيف وزملائه من زمن النهضة الموسيقية.

استحضار فنّ زكي ناصيف بمثابة عرضٍ متواصل تتفرّع عنه أنشطة موسيقية عدّة. ووفق المستشارة الثقافية للبرنامج سوسن مكتبي، فإنّ مهرجان «لنتذكّر ونكتشف» المنبثق عن البرنامج لا يأخذ استراحةً من الموسيقى، بل يتجدّد مع كل فصل محتفياً بالزمن الجميل وليس بزكي ناصيف حصراً، كما أنه يشكّل منبراً لاكتشاف المواهب الجديدة.

منذ 20 سنة يواظب برنامج زكي ناصيف للموسيقى في الجامعة الأميركية على إحياء ذكرى الفنان (أرشيف العائلة)

سرّ «راجع يتعمّر»

يوم غادر زكي ناصيف الحياة، كان في الـ88 من عمره. كانت أغانيه حينذاك في قمّة الرواج، والمفارقة أنها وبعد عقدَين ما زالت تتصدّر الإذاعات ووسائل التواصل الاجتماعي كذلك. «طلّوا أحبابنا»، «نقّيلي أحلى زهرة»، «اشتقنا كتير»... وليس انتهاءً بـ«راجع يتعمّر لبنان»؛ عن هذه الأغنية التي تحوّلت نشيداً، تقول رئيسة «نادي أصدقاء برنامج زكي ناصيف للموسيقى» ليلى بساط، إنها «لعبت دوراً كبيراً في تعريف الجيل الجديد إلى ناصيف وفنّه»، لا سيّما أنها ارتبطت بأحداث كثيرة في تاريخ لبنان الحديث.

غير أنّ انتشار أغاني زكي ناصيف في أوساط الشباب لم يأتِ من دون مجهودٍ بذله البرنامج. تقول بساط في هذا السياق: «استغرق تعريف الجيل الجديد إلى تراث زكي ناصيف وقتاً، وقد نجحنا في ذلك من خلال الحفلات التي نظّمها البرنامج في لبنان وخارجه». ولم تقتصر هذه «التوعية الثقافية» على الحفلات، بل تعدّتها إلى البرامج التعليمية الخاصة بطلّاب الموسيقى الشرقية الناشئين، والذين يتتلمذون على مدرسة زكي ناصيف.

تلفت سوسن مكتبي من جانبها إلى إحدى أهمّ ركائز البرنامج في نقل إرث ناصيف إلى الجيل الصاعد، وهي مسابقة «من كل مدرسة كورال» التي تتبارى فيها مجموعة كبيرة من مدارس لبنان، على تقديم أفضل جوقة تؤدّي مجموعة من أغاني ناصيف. على اختلاف أعمارهم، يتهافت الطلّاب إلى غناء أعماله، ولعلّ تفاعلَهم الحماسيّ معها سببُه الأساسيّ أنها أغانٍ بسيطة وزاخرة بمعاني الفرح وإيقاعاته.

بيتٌ بمدارسَ كثيرة

يشبّه مدير «برنامج زكي ناصيف للموسيقى في الجامعة الأميركية» د. نبيل ناصيف أغاني عمّه «بالمياه التي تنساب بسلاسة»، موضحاً أنه كان يحرص على «الانسجام ما بين اللحن والمشهد»، أكان في الدبكات أم في كلاسيكيّاته أم في الأغاني الوطنية الحيويّة.

ألّف زكي ناصيف أكثر من ألف مقطوعة ما بين أغنية ومعزوفة، عُرف منها نحو 300 بصوته وأصوات فنانين آخرين. أما الـ700 المتبقية، فالعمل جارٍ على تجميعها والتعرّف عليها وأرشفتها رقمياً. لكنّ السؤال العالق الذي يردّده ابنُ شقيقه هو: «كيف سنتعامل في المستقبل مع هذه المادّة الضخمة غير المنشورة؟».

قدّمت صباح مجموعة من ألحان زكي ناصيف من بينها «أهلا بهالطلّة» (أرشيف العائلة)

وإلى حين اتّضاح الجواب، وُضع منزل زكي ناصيف في مسقط رأسه مشغرة بين أيادٍ أمينة. فمنذ عام 2012، تتولّى «جمعيّة حماية المواقع والمنازل الأثريّة في لبنان – أبساد» إعادة تأهيل البيت وتحويله إلى مركز ثقافيّ ومتحف. ولعلّ أجمل ما في هذا الإنجاز، أنّ غرف منزل زكي ناصيف تحوّلت مع مرور السنوات إلى قاعات تدريس وإلى معهد موسيقيّ مصغّر، يستضيف نحو 30 تلميذاً من كافّة بلدات البقاع الغربي، ليتعلّموا العزف على البيانو والغيتار. أما سطح البيت، فمساحةٌ لحفلاتٍ تحييها خلال ليالي الصيف، تحت ضوء قمر مشغرة، جوقات عدّة يجري اختيارها بالتعاون مع «برنامج زكي ناصيف».

تحوّل منزل زكي ناصيف في مشغرة إلى متحف ومركز ثقافي (أرشيف العائلة)

وديع الصافي صديق العمر

تحت سماء مشغرة وبين حجارة البيت الذي صار اليوم أثرياً، تعرّف زكي ناصيف إلى الدلعونا، والميجانا، والعتابا وأبو الزلف، وغيرها من أصول الفولكلور الموسيقي اللبناني. هناك أيضاً، سمع الشجن في صوت أمّه فبكى. تأثّر كذلك بالشيخ سلامة حجازي وبمحمد عبد الوهاب، فقرّر منذ الصغر أن يصعد إلى أعلى السلّم الموسيقي.

ناصيف متوسطاً أبويه وإخوته في مطلع عشرينات القرن الماضي (أرشيف العائلة)

لم تَحُل إصابته خلال الطفولة بإعاقة في رجله دون تحقيق الحلم. يؤكّد ابن شقيقه أنّها كانت «معاناة شخصية كبيرة وجلجلة أُضيفت إلى المحاربة الفنية التي تعرّض لها»، غير أن المِحَن لم تنعكس كآبةً على أعماله الموسيقية؛ فهو تمسّك بإيقاعات الفرح والأمل والإقدام. زرع زهراً في أغانيه وفي الأغاني التي ألّفها لسواه من فنانين، كفيروز ووديع الصافي وصباح وماجدة الرومي.

وديع الصافي وزكي ناصيف في مهرجان الأنوار (أرشيف العائلة)

من بين الزملاء، كان وديع الصافي من أقرب رفقاء الدربَين الفنّي والشخصي. لم يُكثر زكي ناصيف من العلاقات والنشاطات الاجتماعية، بل فضّل العزلة والانكباب على التأليف والتدريس. وفق قريبه، «كان ذلك انسجاماً مع طبعه الخجول».

أمضى ناصيف 5 سنوات على مقاعد الجامعة الأميركية في بيروت حيث تعلّم الموسيقى (أرشيف العائلة)

من مقاعد الجامعة الأميركية في بيروت، انطلقَ زكي ناصيف إلى عالم الموسيقى. درسَ فيها العزف على الفيولونسيل والبيانو ما بين عامَي 1936 و1941. وبعد 63 عاماً، عاد إليها علَماً مكرّماً على مدار الفصول. وللمواعيد تتمّة، إذ يجري التحضير لأمسية بعنوان «من أمّي لبَني أمّي»، ستحييها جوقة «برنامج زكي ناصيف» ويستضيفها متحف سرسق في العاصمة اللبنانية نهاية شهر مايو (أيار).


مقالات ذات صلة

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
الوتر السادس أحمد سعد سيطرح ألبوماً جديداً العام المقبل (حسابه على {إنستغرام})

أحمد سعد لـ«الشرق الأوسط»: ألبومي الجديد يحقق كل طموحاتي

قال الفنان المصري أحمد سعد إن خطته الغنائية للعام المقبل، تشمل عدداً كبيراً من المفاجآت الكبرى لجمهوره بعد أن عاد مجدداً لزوجته علياء بسيوني.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الوتر السادس الفنانة بشرى مع زوجها (حسابها على {فيسبوك})

بشرى لـ«الشرق الأوسط»: الغناء التجاري لا يناسبني

وصفت الفنانة المصرية بشرى الأغاني الرائجة حالياً بأنها «تجارية»، وقالت إن هذا النوع لا يناسبها

أحمد عدلي (القاهرة)
الوتر السادس تتشارك قسيس الغناء مع عدد من زملائها على المسرح (حسابها على {إنستغرام})

تانيا قسيس لـ«الشرق الأوسط»: أحمل معي روح لبنان ووجهه الثقافي المتوهّج

تتمسك الفنانة تانيا قسيس بحمل لبنان الجمال والثقافة في حفلاتها الغنائية، وتصرّ على نشر رسالة فنية مفعمة بالسلام والوحدة.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق مبهجة ودافئة (جامعة «أبردين»)

أقدم آلة تشيللو أسكوتلندية تعزف للمرّة الأولى منذ القرن الـ18

خضعت آلة تشيللو يُعتقد أنها الأقدم من نوعها في أسكوتلندا لإعادة ترميم، ومن المقرَّر أن تعاود العزف مرّة أخرى في عرض خاص.

«الشرق الأوسط» (لندن)

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
TT

3 سيّدات يروين لـ«الشرق الأوسط» رحلة الهروب من عنف أزواجهنّ

في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)
في عام 2023 قُتلت امرأة كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من عائلتها (أ.ف.ب)

كل 10 دقائق تُقتل امرأةٌ عمداً في هذا العالم، على يد شريكها أو أحد أفراد عائلتها. هذا ليس عنواناً جذّاباً لمسلسل جريمة على «نتفليكس»، بل هي أرقام عام 2023، التي نشرتها «هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة» عشيّة اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة، الذي يحلّ في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام.

ليس هذا تاريخاً للاحتفال، إنما للتذكير بأنّ ثلثَ نساء العالم يتعرّضن للعنف الجسدي، على الأقل مرة واحدة خلال حياتهنّ، وذلك دائماً وفق أرقام الهيئة الأمميّة. وفي 2023، قضت 51100 امرأة جرّاء التعنيف من قبل زوجٍ أو أبٍ أو شقيق.

كل 10 دقائق تُقتَل امرأة على يد شريكها أو فرد من عائلتها (الأمم المتحدة)

«نانسي» تخلّت عن كل شيء واختارت نفسها

من بين المعنَّفات مَن نجونَ ليشهدن الحياة وليروين الحكاية. من داخل الملجأ الخاص بمنظّمة «أبعاد» اللبنانية والحاملة لواء حماية النساء من العنف، تفتح كلٌ من «نانسي» و«سهى» و«هناء» قلوبهنّ المجروحة لـ«الشرق الأوسط». يُخفين وجوههنّ وأسماءهنّ الحقيقية، خوفاً من أن يسهل على أزواجهنّ المعنّفين العثور عليهنّ.

جسدُ «نانسي» الذي اعتادَ الضرب منذ الطفولة على يد الوالد، لم يُشفَ من الكدمات بعد الانتقال إلى البيت الزوجيّ في سن الـ17. «هذا التعنيف المزدوج من أبي ثم من زوجي سرق طفولتي وعُمري وصحّتي»، تقول الشابة التي أمضت 4 سنوات في علاقةٍ لم تَذُق منها أي عسل. «حصل الاعتداء الأول بعد أسبوع من الزواج، واستمرّ بشكلٍ شبه يوميّ ولأي سببٍ تافه»، تتابع «نانسي» التي أوت إلى «أبعاد» قبل سنتَين تقريباً.

تخبر أنّ ضرب زوجها لها تَركّزَ على رأسها ورجلَيها، وهي أُدخلت مرّتَين إلى المستشفى بسبب كثافة التعنيف. كما أنها أجهضت مراتٍ عدة جرّاء الضرب والتعب النفسي والحزن. إلا أن ذلك لم يردعه، بل واصل الاعتداء عليها جسدياً ولفظياً.

غالباً ما يبدأ التعنيف بعد فترة قصيرة من الزواج (أ.ف.ب)

«أريد أن أنجوَ بروحي... أريد أن أعيش»، تلك كانت العبارة التي همست بها «نانسي» لنفسها يوم قررت أن تخرج من البيت إلى غير رجعة. كانا قد تعاركا بشدّة وأعاد الكرّة بضربها وإيلامها، أما هي فكان فقد اختمر في ذهنها وجسدها رفضُ هذا العنف.

تروي كيف أنها في الليلة ذاتها، نظرت حولها إلى الأغراض التي ستتركها خلفها، وقررت أن تتخلّى عن كل شيء وتختار نفسها. «خرجتُ ليلاً هاربةً... ركضت بسرعة جنونيّة من دون أن آخذ معي حتى قطعة ملابس». لم تكن على لائحة مَعارفها في بيروت سوى سيدة مسنّة. اتّصلت بها وأخبرتها أنها هاربة في الشوارع، فوضعتها على اتصالٍ بالمؤسسة التي أوتها.

في ملجأ «أبعاد»، لم تعثر «نانسي» على الأمان فحسب، بل تعلّمت أن تتعامل مع الحياة وأن تضع خطة للمستقبل. هي تمضي أيامها في دراسة اللغة الإنجليزية والكومبيوتر وغير ذلك من مهارات، إلى جانب جلسات العلاج النفسي. أما الأهم، وفق ما تقول، فهو «أنني أحمي نفسي منه حتى وإن حاول العثور عليّ».

تقدّم «أبعاد» المأوى والعلاج النفسي ومجموعة من المهارات للنساء المعنّفات (منظمة أبعاد)

«سهى»... من عنف الأب إلى اعتداءات الزوج

تزوّجت «سهى» في سن الـ15. مثل «نانسي»، ظنّت أنها بذلك ستجد الخلاص من والدٍ معنّف، إلا أنها لاقت المصير ذاته في المنزل الزوجيّ. لم يكَدْ ينقضي بعض شهورٍ على ارتباطها به، حتى انهال زوجها عليها ضرباً. أما السبب فكان اكتشافها أنه يخونها واعتراضها على الأمر.

انضمّ إلى الزوج والدُه وشقيقه، فتناوبَ رجال العائلة على ضرب «سهى» وأولادها. نالت هي النصيب الأكبر من الاعتداءات وأُدخلت المستشفى مراتٍ عدة.

أصعبُ من الضرب والألم، كانت تلك اللحظة التي قررت فيها مغادرة البيت بعد 10 سنوات على زواجها. «كان من الصعب جداً أن أخرج وأترك أولادي خلفي وقد شعرت بالذنب تجاههم، لكنّي وصلت إلى مرحلةٍ لم أعد قادرة فيها على الاحتمال، لا جسدياً ولا نفسياً»، تبوح السيّدة العشرينيّة.

منذ شهرَين، وفي ليلةٍ كان قد خرج فيها الزوج من البيت، هربت «سهى» والدموع تنهمر من عينَيها على أطفالها الثلاثة، الذين تركتهم لمصيرٍ مجهول ولم تعرف عنهم شيئاً منذ ذلك الحين. اليوم، هي تحاول أن تجد طريقاً إليهم بمساعدة «أبعاد»، «الجمعيّة التي تمنحني الأمان والجهوزيّة النفسية كي أكون قوية عندما أخرج من هنا»، على ما تقول.

في اليوم الدولي لمناهضة العنف ضد المرأة تحث الأمم المتحدة على التضامن النسائي لفضح المعنّفين (الأمم المتحدة)

«هناء» هربت مع طفلَيها

بين «هناء» ورفيقتَيها في الملجأ، «نانسي» و«سهى»، فرقٌ كبير؛ أولاً هي لم تتعرّض للعنف في بيت أبيها، ثم إنها تزوّجت في الـ26 وليس في سنٍ مبكرة. لكنّ المشترك بينهنّ، الزوج المعنّف الذي خانها وضربها على مدى 15 سنة. كما شاركت في الضرب ابنتاه من زواجه الأول، واللتان كانتا تعتديان على هناء وطفلَيها حتى في الأماكن العامة.

«اشتدّ عنفه في الفترة الأخيرة وهو كان يتركنا من دون طعام ويغادر البيت»، تروي «هناء». في تلك الآونة، كانت تتلقّى استشاراتٍ نفسية في أحد المستوصفات، وقد أرشدتها المعالجة إلى مؤسسة «أبعاد».

«بعد ليلة عنيفة تعرّضنا فيها للضرب المبرّح، تركت البيت مع ولديّ. لم أكن أريد أن أنقذ نفسي بقدر ما كنت أريد أن أنقذهما». لجأت السيّدة الأربعينية إلى «أبعاد»، وهي رغم تهديدات زوجها ومحاولاته الحثيثة للوصول إليها والطفلَين، تتماسك لتوجّه نصيحة إلى كل امرأة معنّفة: «امشي ولا تنظري خلفك. كلّما سكتّي عن الضرب، كلّما زاد الضرب».

باستطاعة النساء المعنّفات اللاجئات إلى «أبعاد» أن يجلبن أطفالهنّ معهنّ (منظمة أبعاد)

«حتى السلاح لا يعيدها إلى المعنّف»

لا توفّر «أبعاد» طريقةً لتقديم الحماية للنساء اللاجئات إليها. تؤكّد غيدا عناني، مؤسِسة المنظّمة ومديرتها، أن لا شيء يُرغم المرأة على العودة إلى الرجل المعنّف، بعد أن تكون قد أوت إلى «أبعاد». وتضيف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «مهما تكن الضغوط، وحتى تهديد السلاح، لا يجعلنا نعيد السيّدة المعنّفة إلى بيتها رغم إرادتها. أما النزاعات الزوجيّة فتُحلّ لدى الجهات القضائية».

توضح عناني أنّ مراكز «أبعاد»، المفتوحة منها والمغلقة (الملاجئ)، تشرّع أبوابها لخدمة النساء المعنّفات وتقدّم حزمة رعاية شاملة لهنّ؛ من الإرشاد الاجتماعي، إلى الدعم النفسي، وتطوير المهارات من أجل تعزيز فرص العمل، وصولاً إلى خدمات الطب الشرعي، وليس انتهاءً بالإيواء.

كما تصبّ المنظمة تركيزها على ابتكار حلول طويلة الأمد، كالعثور على وظيفة، واستئجار منزل، أو تأسيس عملٍ خاص، وذلك بعد الخروج إلى الحياة من جديد، وفق ما تشرح عناني.

النساء المعنّفات بحاجة إلى خطط طويلة الأمد تساعدهنّ في العودة للحياة الطبيعية (رويترز)

أما أبرز التحديات التي تواجهها المنظّمة حالياً، ومن خلالها النساء عموماً، فهي انعكاسات الحرب الدائرة في لبنان. يحلّ اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة في وقتٍ «تتضاعف فيه احتمالات تعرّض النساء للعنف بسبب الاكتظاظ في مراكز إيواء النازحين، وانهيار منظومة المساءلة». وتضيف عناني أنّ «المعتدي يشعر بأنه من الأسهل عليه الاعتداء لأن ما من محاسبة، كما أنه يصعب على النساء الوصول إلى الموارد التي تحميهنّ كالشرطة والجمعيات الأهليّة».

وممّا يزيد من هشاشة أوضاع النساء كذلك، أن الأولويّة لديهنّ تصبح لتخطّي الحرب وليس لتخطّي العنف الذي تتعرّضن له، على غرار ما حصل مع إحدى النازحات من الجنوب اللبناني؛ التي لم تمُت جرّاء غارة إسرائيلية، بل قضت برصاصة في الرأس وجّهها إليها زوجها.