مؤسسة سلطان العويس الثقافية تحتفل غداً بتوزيع جوائز الدورة الـ18

برنامج ثقافي يجمع بين الفلسفة والتجارب الإبداعية

ندوة التجارب الإبداعية التي تحدّث فيها الفائزون الأربعة بجائزة سلطان العويس الثقافية
ندوة التجارب الإبداعية التي تحدّث فيها الفائزون الأربعة بجائزة سلطان العويس الثقافية
TT

مؤسسة سلطان العويس الثقافية تحتفل غداً بتوزيع جوائز الدورة الـ18

ندوة التجارب الإبداعية التي تحدّث فيها الفائزون الأربعة بجائزة سلطان العويس الثقافية
ندوة التجارب الإبداعية التي تحدّث فيها الفائزون الأربعة بجائزة سلطان العويس الثقافية

تحتفل مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في دبي، مساء غدٍ الخميس، بتوزيع جوائزها للفائزين في الدورة الثامنة عشرة، والتي فاز فيها كل من: الشاعر المصري حسن طلب، والروائي والمسرحي البحريني أمين صالح، والناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم، والمفكر والمترجم المغربي الدكتور عبد السلام بنعبد العالي.

وفاز الشاعر المصري حسن طلب بجائزة الشعر، وقالت لجنة التحكيم إنها رأت «في تجربته فرادة وغزارة وتنوعاً، إضافة إلى وجود مشروع شعري متكامل ومتنامٍ لديه يتسم بالتجريب ويمازج بين الشعرية والصوفية والرؤى الفلسفية».

كما قررت اللجنة فوز القاصّ البحريني أمين صالح بجائزة القصة والرواية والمسرحية؛ وذلك «لامتلاكه تجربة إبداعية مغايرة، تمثلت فيما كتب من قصص قصيرة ونصوص وأعمال أخرى تدل على أنه متنوع الثقافة متعدد الاهتمامات».

وبالنسبة للناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم، فقد فاز بجائزة الدراسات الأدبية والنقد، وقالت اللجنة إن مؤلفاته «تتسم بوضوح الرؤية المنهجية، والانشغال بموضوع السردية العربية ومُنجزاتها وسياقاتها المتحولة، والاهتمام بالقضايا الثقافية، وإعادة تأمل العلاقة بين الشرق والغرب».

وفاز المفكر المغربي الدكتور عبد السلام بنعبد العالي بجائزة الدراسات الإنسانية والمستقبلية؛ «وذلك لأنه من رواد المدرسة التفكيكية في الثقافة العربية، وهو يرى في الأدب والكتابة والترجمة مداخل مهمة للفلسفة. وتتميّز أعماله بأسلوب سهل يقارب بين المتخصّص وغير المتخصّص»، وفق رأي لجنة التحكيم.

وكان الأمين العام لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، عبد الحميد أحمد، قد قال، في تصريح صحفي: «إن جائزة الإنجاز الثقافي والعلمي سيجري الإعلان عنها لاحقاً؛ لكونها تُمنح بقرار من مجلس أمناء الجائزة، ولا تخضع لمعايير التحكيم؛ أسوة بالجوائز في الحقول الأخرى».

وكان عدد المرشحين في كل الحقول قد بلغ 1861 مرشحاً، حيث تقدَّم لجائزة الشعر 231 مرشحاً، وفي القصة والرواية والمسرحية 490 مرشحاً، وفي الدراسات الأدبية والنقد 290 مرشحاً، والدراسات الإنسانية والمستقبلية 485 مرشحاً، وفي الإنجاز الثقافي العلمي 270 مرشحاً.

وفاز بالجائزة، خلال الدورات السابقة، 101 أديب وكاتب ومفكر عربي، فضلاً عن 5 مؤسسات ثقافية مرموقة أسهمت في نشر الثقافة والمعرفة، وحكّم في حقولها أكثر من 270 محكّماً واستشارياً من مختلف المشارب الثقافية.

وتبلغ قيمة الجائزة لكل حقل من حقولها 120 ألف دولار أميركي.

جانب من ندوة «الترجمة الفلسفية - الحوار مع الآخر» التي نظّمها «بيت الفلسفة» في الفجيرة بالتعاون مع مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية

الترجمة: الحوار مع الآخر

وضمن البرنامج الثقافي الذي يسبق حفل توزيع الجوائز، نظّم «بيت الفلسفة»، بالتعاون مع مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، حلقة بعنوان «الترجمة الفلسفيّة - الحوار مع الآخر»، وذلك في مقر «بيت الفلسفة» بالفجيرة.

وتحدّث الدكتور أحمد برقاوي، عميد «بيت الفلسفة»، عن الترجمة بوصفها انتقالاً من الوعي الذاتي إلى الوعي بالآخر، وقال: «إنّ الترجمة تتيح لنا أن نخرج من قوقعتنا الذاتيّة لنتعرّف إلى الآخر، من خلال التعرّف إلى أفكاره ومفاهيمه، ومن ثمّ العودة إلى الوعي الذاتيّ لمناقشة الأفكار المترجَمة واتّخاذ موقف نقديّ منها».

واستعرضت الحلقة، في جلساتها، تجارب خاصة لعدد من خبراء الترجمة، حيث تناول المترجم والأكاديمي المغربي، الدكتور عبد السلام بنعبد العالي تجربته، موضحاً أن الترجمة ليست نقلاً من لغة إلى أخرى فحسب، وإنما هي عمل إبداعي، إذ توكل للمترجم مهمة إبداعية جليلة تتمثل في اشتقاق المصطلحات، وتطويع اللغة، وغيرها من الجوانب الإبداعية.

التجارب الإبداعية

وضِمن البرنامج الثقافي، أقيمت أمسية للفائزين بجائزة مؤسسة العويس الثقافية، تحدّث خلالها الشاعر حسن طلب، والمفكر عبد السلام بنعبد العالي، والقاص أمين صالح، والناقد عبد الله إبراهيم، عن تجاربهم الإبداعية، بحضور الأمين العام لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية عبد الحميد أحمد، وذلك على مسرح مؤسسة العويس الثقافية.

الدكتور عبد الله إبراهيم في محاضرته عن «السردية العربية» أدارتها الشاعرة بروين حبيب

السردية العربية

وألقى الناقد العراقي الدكتور عبد الله إبراهيم محاضرة عن «السردية العربية»، في مقرّ مؤسسة سلطان العويس الثقافية، بحضور عدد من طالبات جامعة الوصل بالإمارات.

وتحدّث إبراهيم عن مفهوم «السردية»، والبحث عن هوية «السردية العربية»؛ للوصول إلى فهم عربيّ للسرد، والوقوف على مفهوم تأسيسي من مفاهيمه.

وقال إبراهيم إن «دلالة السرد، اقترنت في اللغة العربيّة، بالنسج، والسبك، والصوغ، والبراعة في إيراد الأخبار، وفي تركيبها، فذلك هو الحقل الدلالي للفعل سرد ومشتقاته في الثقافة العربية».

وأشار إلى أن السردية «لم تنبثقْ من فراغ، إنّما ترعرعت في سياق عميق الجذور. وخلال رحلتها المديدة تعرّضَ مفهومُ السّرد فيها إلى التهذيب، والإصلاح، والتّرميم، واكتسب ثراءً بحكم الزمن الطويل، وبات من غير الممكن مطابقةُ دلالتهِ الموروثةِ مطابقة تامة مع الدّلالةِ المعجميّة المستعارة من سرود لا توافقه كلَّ الموافقة، لا في سياق نشأته، ولا في أنواعه، ولا في وظائفه».

وقال إن مفهوم السرد ارتبط بصوغ الخطاب السردي؛ شفوياً كان أم مكتوباً، صوغاً غايته التأثير النفسي والإقناع الخيالي، وذلك الصوغ هو موضوع «السرديّة» التي اختصّت بالبحث في مكوّنات الخطاب السردي المتكوّن من: الراوي، والمرويّ، والمرويّ له، والانتقال إلى دراسة أسلوب ذلك الخطاب، وتركيبه، ودلالته.

عدد من المثقفين وطلاب الجامعة في الإمارات يتابعون محاضرة «السردية العربية» للدكتور عبد الله إبراهيم

وأضاف: «أردتُ بــ(السّرديّة): المدخل الّذي يستعينُ به الباحثُ لاستخلاص طبيعة النصوص، وفيه تتولّى الممارسةُ النقديّةُ استخلاصَ مجملِ صفات السّرد، وتعرّف بهويّته في آن واحد، وغايتي سبكٌ مفهوم لا ينفصل عن المادّة السّرديّة، فيخضعُها لقواعدَ تجريديّةٍ، ثمّ يتعالى عليها، بل يصدرُ عنها، ويتكيّفُ معها؛ فتحوّلاتُه مقيّدةٌ بتحوّلاتها، ولا يجوزُ تجريدُ نموذجٍ افتراضي عابرٍ للزّمان والمكان، واللّغاتِ والثّقافات، والأجناسِ والأنواع، وإرغام المادّةِ السّرديّة على الامتثال له، فذلك لاهوتٌ سرديّ تأبى المادّةُ السّرديّةُ قبولهُ. وبذلك فلا ينبعُ ثراءُ (السّرديّة) من كمالها، بل من نقصها؛ كون الظّاهرةِ السّرديّة في ترحال دائم، ولا سبيلَ لأسْرها في حقبة تاريخيّة، أو في لغة معيّنة».



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.