ابن رشد بطلاً في رواية مصرية

إبراهيم فرغلي يتقصَّى سيرته في «بيت من زُخرف»

ابن رشد
ابن رشد
TT

ابن رشد بطلاً في رواية مصرية

ابن رشد
ابن رشد

عبر مسارات التاريخ والتخييل يرتحل الكاتب الروائي المصري إبراهيم فرغلي في روايته «بيت من زُخرف - عشيقة ابن رشد»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» في مصر. ويبدو العمل أقرب لرواية داخل رواية، حيث يجد بطل الرواية المُعاصر نفسه مأخوذاً بفكرة كتابة سيرة تخييلية عن الفيلسوف ابن رشد، مِدادها مخطوطات قديمة لحكاية سيدة تدعى «لبنى القرطبية» شُغفت حبّاً بالفيلسوف ابن رشد، إذ وجدت فيه الأب والحبيب والفقيه والفيلسوف، وذلك خلال فترة ملازمتها له بالرعاية أثناء نفيه إلى قرية «أليُسانة»، بعدما تمكنت تلك السيدة من الهروب من العسس الذين تتبعوا معارفه حتى لا يلحقوا به إلى منفاه الجديد خارج قرطبة مسقط رأسه.

يتناوب الأبطال لسان السرد، لتخرج الرواية بمِعمار «بوليفوني» مُتعدد الأصوات، عبر ستة فصول تتقاطع أزمنتها كانعكاس لمرايا الماضي والحاضر، وسط حصار سؤال مركزي عن مصير الفكر الحُر في مقابل التشدد الديني وتدجين العقول، ويتكئ السؤال على سيرة الفيلسوف ابن رشد التي تتقاطع مع مصائر شخصيات الرواية في زمنهم المعاصر، وتحديداً سيرة البطل أستاذ الفلسفة المصري «إسكندر»، الذي وجد نفسه مأخوذاً بكتابة رواية تخييلية عن عشق سيدة اقتربت من ابن رشد في فترة محنته. لكن السرد يكشف مع تقدمه أن وازعاً شخصياً دفع البطل لكتابة تلك الرواية، حيث تكشف الأحداث عن تناص بين قصته وقصة محاكمة الأكاديمي المصري الراحل نصر حامد أبو زيد وتكفيره، والتفريق العبثي بينه وبين زوجته المُحبة، وهو ما يتأخر السرد في كشفه، فيما يُمهد له إبراهيم فرغلي مُبكراً بإهدائه الرواية إلى روح نصر حامد أبو زيد.

تعكس الرواية التي تقع في (428 صفحة)، سيرة ابن رشد (1126- 1198) من عدة زوايا، فيمنحه إبراهيم فرغلي صوتاً روائياً بضمير المتكلم، ويقدمه خلال أوج الفترة الحرجة من زمنه الفكري بعدما ينقلب السلطان أبو يوسف المنصور على الفلاسفة، ويشن حرباً ضدهم توازي حربه الأخرى ضد القشتاليين. وتُدرِج الرواية على لسان المنصور خطاباً مؤلباً ضد الفلسفة وأهلها، الذي هدفه تخويف العامة من الانصياع لتلك الأفكار التي يصفها بـ«زُخرف القول»، قبل أن يتوعدهم بجهنم فقد «خلقهم الله للنار».

تهافت التهافت

تبدو أصداء خطاب المنصور وكأنها تُقارع دأب ابن رشد في إتمام كتابه «تهافت التهافت» رداً على الإمام أبي حامد الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة»، الذي كتبه في أوج فترة التشدد تجاه الحكمة وعلوم الفلاسفة، فيما لا يبالي ابن رشد لما قد يسببه رده على الغزالي في التصعيد ضده ومواجهة حركة تكفير الفلاسفة.

وعبر طرائق السرد يظهر النقد «الرُشدي» في صراعه ضد التكفير كضمير الرواية وصوتها الحُر كما لغة الطيور، فيظهر ابن رشد في أحد مشاهد الرواية وهو يتناهى لسمعه تغريد طيور من النافذة، يستعيد معها رغبة قديمة بأن يتعلم لغة الطير.

وفي واحدة من ألعاب الرواية الغرائبية، يُطلق إبراهيم فرغلي السرد على لسان طائر «القُمري»، الذي يفيق على هدوء مريب، يوحي بمنطق الطير والحدس بالخطر، حتى ينتبه لطيور شبحية عملاقة أمسك كل منها بمخالبه بكتاب طائر إلى أن «تختفي الكتب الطائرة من آفاق البصر بغتة، تماماً على النحو الذي انبثقت من مكامنها واختفى أثرها»، وهو تكوين سوريالي يشكل موازاة للمشهد التاريخي حين استيقظ أهل قرطبة على حرق كتب ومخطوطات جمعها الوشاة من بيوت الدارسين والعلماء والوراقين التي تندرج في علوم الحكمة والفلسفة: «كان الناس قد تحلّقوا على مسافة من موقع الكتب التي تنتظر تنفيذ الحكم بالإبادة حرقاً كأن على رؤوسهم الطير».

أمام تمثال ابن رشد

تتناوب شخصيات الرواية المُعاصرة تقصيّ ملامح ابن رشد في ارتباط لا ينقطع مع سيرته، فالبطلة «ماريا إيلينا»، التي تدرس فلسفة الفن بجامعة قرطبة، تجد نفسها في حالة بوح أمام تمثال ابن رشد، تُحدثه عن أمها الروحية «مانويلا»، التي أوصتها بتحويل مخطوطات حول سيرة العاشقة الشابة «لبنى القرطبية» إلى رواية مشهودة، وهي الوصية التي استطاعت إقناع «إسكندر»، الأستاذ الجامعي المصري الذي انتدب حديثاً بجامعة قرطبة، بها فيستسلم لطلب تلميذته لكتابة تلك الرواية التخييلية عن ابن رشد والسيدة التي أحبته، ويطلب من «ماريا إيلينا» أن ترافقه إلى الأماكن الأثرية التي تحمل روائح ابن رشد، فتصطحبه إلى دهاليز قرطبة القديمة، ومحراب كنيسة الماسكيتا، وربوع الحي القديم التي عاش بها الفيلسوف القرطبي إلى جوار مجايله اليهودي موسى بن ميمون. يسير البطل بين الأزقة الضيقة وهو يتخيّل حياة أخرى كانت بها قبل ألف عام. فيما تقدم الرواية ملامح العمارة الأندلسية بثرائها الباذخ موشَّجة بـ«زُخرف» النهضة الفكرية والعلمية والفلسفية التي سادت في ذلك العصر.

تبدو الرواية أقرب لبحث لا ينقطع عن وهج العقل المطمور خلف حِجاب، فالبطل الذي قادته محاكم تفتيش جديدة بسبب بحث تقدم به، واتهم بسببه بالتكفير أمام محكمة مصرية في زمن يبعد سنوات سحيقة عن زمن ابن رشد، يسأل نفسه وهو يكتب رواية عنه: عمن تراني أبحث في الحقيقة؟ فيما يبدو التراث «الرشدي» حائراً في ذاته بين انتماءات عدة: فهل هو التراث العقلاني كما يشير تراث العقلانيين أم المُلحد كما يتناوله خصومه، أم الفيلسوف الذي تسببت أفكاره في تأسيس الأفكار العلمانية في أوروبا في وقت اندثر تراث العقلانية في الثقافة الإسلامية؟ المفكر الذي وصفه الغرب بالشارح الأكبر بعد أن نقل لهم تراث أهل الحكمة الإغريق أرسطوطاليس؟ أم الرجل الذي تعثّر في فهم كلمتي الكوميديا والتراجيديا كما يحب بورخيس أن يُصوره؟

وتبلغ الحيرة بالبطلة ماريا إيلينا بأن تتخيّل عبثاً ما إذا كان ابن رشد محض «أسطورة» أوجدها التاريخ «الرجل الذي دُفن مرتين وأُحرقت كتبه»، وهو العالِم والفيلسوف الذي أحاطت الرواية بأسمائه بما تحمله من دلالات ثقافية وحضارية شتى فهو: أبو الوليد، والإمام، وقاضي القضاة، و«أفيرويس»، و«آبين روسدين» وتحوّر اسمه في الترجمات العبرية ليصبح «آبي روسد» كما يُطلق عليه الإسبان، و«المشّاء» حيث كان «يتمشى طويلاً ليتدبّر فيما يوّد التفكير فيه، أو يتمشى مع طلبة العلم في أروقة المسجد أو بين أشجار النارنج في الفناء الفاصل بين المسجد ومبنى المئذنة، حيث يذرع الممر حولها بمعية الدارسين شارحاً أو متحدثاً بما يفكر من شؤون الفقه والحكمة والطب».


مقالات ذات صلة

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

ثقافة وفنون دانيال دينيكولا

الجهل... أخطر وأكثر من مجرّد نقص في المعرفة

سرد الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهوريّة» حكاية الكهف الرمزيّة، التي ما لبثت أن أصبحت الصورة الأكثر شهرة عن «الجهل» في مجمل تاريخ الفلسفة.

ندى حطيط
ثقافة وفنون سركون بولص (يمين) ووديع سعادة في «مهرجان لوديف» عام 2007

«رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» تبصر النور

تعرّف الشاعر اللبناني وديع سعادة إلى سركون بولص في السنة التي وصل فيها الشاعر العراقي إلى لبنان سنة 1968، بحسب ما يروي، قاطعاً الصحراء سيراً على الأقدام.

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون المفكّر والأكاديمي السعودي د. مرزوق بن صنيتان بن تنباك

مرزوق بن تنباك... «البدوي» الخارج عن النسق

كرّم وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي، مساء اليوم في الدوحة، المفكّر والأكاديمي السعودي الدكتور مرزوق بن صنيتان بن تنباك.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)

اتفاقية لترجمة ونشر الثقافة الصينية في الخليج

جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)
جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)
TT

اتفاقية لترجمة ونشر الثقافة الصينية في الخليج

جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)
جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)

وقّعت «دار كلمات» للنشر والتوزيع، السعودية، وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين، أمس، عقداً لترجمة ونشر عددٍ من الكتب الصينية التي تهتم بالثقافة العربية، ووقع العقد عن «دار كلمات» مديرها العام فهد العودة، وعن جامعة الدراسات الأجنبية ببكين شير لي، من دار النشر التابعة لجامعة بكين لإعداد المعلمين.

يشمل الاتفاق ترجمة الكتب الفلسفية والتاريخية التي تعنى بالجانبين الصيني والعربي، مثل كتاب «15 محاضرة عن طريق الحرير»، وكتاب «الصين من وجهة نظر الكتّاب العرب»، وكتاب «الأغاني» وهو كتاب عن الأغاني الشعبية الصينية التاريخية، والعديد من الموروث الأدبي الصيني، وجميعها ستتم طباعتها ثنائية اللغة في كل كتاب «عربي - صيني».

وبهذه المناسبة، أقام الجانب الصيني فعالية لتقاليد الشاي الصيني في مقرّ جمعية النشر السعودية بالرياض، تمّ فيها سرد تاريخ نشأة الشاي الصيني وكيف أصبح علامة لإبراز حضارة الصين الممتدة عبر آلاف السنين.