«أم كلثوم السلاح السرّي لناصر»... حكاية حفلين باريسيين تاريخيين

كتاب شرائط مصورة يعيد القارئ إلى لحظة ما بعد النكسة

غلاف كتاب أم كلثوم للشرائط المصورة
غلاف كتاب أم كلثوم للشرائط المصورة
TT

«أم كلثوم السلاح السرّي لناصر»... حكاية حفلين باريسيين تاريخيين

غلاف كتاب أم كلثوم للشرائط المصورة
غلاف كتاب أم كلثوم للشرائط المصورة

العام المقبل، يكون قد مرّ على وفاة «كوكب الشرق» أم كلثوم، خمسون سنة. هي «قيثارة الشرق» أو «فنانة الشعب»، ويمكن أن يقال أيضاً إنها سيدة الألقاب؛ لكثرة ما أطلق عليها، في محاولة لإنصاف صوتها، وتوصيف تأثيرها على الجمهور. ليس غريباً أن تكون أم كلثوم لا تزال حية في ضمير الجمهور العربي وأعمالها متداولة، لكن ما كان من المنتظر أن يتم تذكرها باللغة الفرنسية، وباحتفاء، بالتزامن مع صدور كتاب شرائط مصورة الذي يحمل عنوان «أم كلثوم، السلاح السرّي لناصر»، وضعه كل من مارتين لاغارديت (كتابة)، وفريد بوجلال (رسماً)، من إصدار «أوكسيمور» في باريس.

والطريف في هذا الكتاب الذي يعتمد الرسوم بشكل رئيسي وبعض الصور، أنه لا يهدف إلى تعريف الفرنسيين، وخاصة الجيل الجديد، بسيدة الغناء العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما يركز على قصة واحدة فقط، قليلاً ما نتداولها، وهي الحفلان اللذان أحيتهما أم كلثوم في الأولمبيا في باريس بعد نكسة عام 1967.

حفلان أسطوريان، لا يزال صداهما يتردد إلى اليوم، وصورهما تبيعها الوكالات، وتتذكرهما الصحافة، وها هو كتاب شرائط مصورة يعود ليحيي تلك المناسبة الاستثنائية.

كان ذلك نهاية عام 1966، والروائي أندريه مالرو وزيراً للثقافة الفرنسية، والبلاد هناك تبحث عن مزيد من الانفتاح صوب الثقافات والموسيقات الأخرى. برونو كوكاتريكس، مدير الأولمبيا في ذلك الوقت، أحد أعمدة هذه الرؤية الحيوية، كان قد توجه إلى القاهرة رغبة منه في مشاركة مصرية في الاحتفالات السنوية لهذا الصرح الثقافي الكبير.

كان برونو كوكاتريكس رجلاً مؤثراً في عالم الترفيه، معروفاً للجميع في باريس، وفي أميركا وإنجلترا. كبار الفنانين يتمنون رضاه، وأن يأتوا ليقدموا أعمالهم في الأولمبيا. وبما أنه في خضم الحفلات الكثيرة التي ينظمها، كان يبحث عن فنانين مصريين، أو فرقة يأتي بها إلى باريس لتشارك في الاحتفالات السنوية، فقد عمد إلى عقد لقاءات مع شخصيات تستطيع أن تسدي له النصح. ومن بين هذه اللقاءات، كانت له جلسات مع وزير الثقافة المصري حينها ثروت عكاشة. ويروي كوكاتريكس أن عكاشة سأله ذات لقاء: «لماذا لا تدعون أم كلثوم؟»، فاستفهم الرجل منه عمن تكون هذه السيدة؟ فقد ظن للوهلة الأولى أنها راقصة شرقية؛ إذ لم يكن قد سمع باسمها أبداً من قبل. فشرح له الوزير عكاشة أنها فنانة كبيرة جداً، وأنها تغني مرة واحدة كل أول خميس في الشهر، وينتظر العرب حفلاتها في كل مكان.

في فيلتها الأنيقة في الزمالك، استقبلت أم كلثوم كوكاتريكس، ووضعت شروطها. طلبت يومها 20 مليون سنتيم (فرنك قديم) للحفلين، عدا الإقامة في فندق فخم، إضافة إلى نفقات ثلاثين من موسيقييها. استغرب كوكاتريكس الطلب، وهو لم يسبق له أن دفع مبلغاً بهذا الحجم إلى أي من الفنانين الذين استقبلهم. مبلغ يساوي ضعف ما تطلبه أيقونة فرنسا إديث بياف مثلاً. عندما سمع الرقم قال لأم كلثوم: «أنت تريدين تدميري». لكنه في النهاية وافق على طلباتها. وعرف بعدها أن أم كلثوم أصرّت على مقابل مالي عالٍ دون تردد؛ لأنها أرادت التبرع به لمصر، وقد جاء حفلها بعد أشهر من هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967.

بـ30 ألف فرنك فرنسي قديم تم تسعير البطاقة الواحدة لحضور حفل أم كلثوم. اضطر كوكاتريكس لاعتماد تسعيرة مرتفعة كي يتمكن من سدّ التكاليف التي دفعها؛ وكي لا يقع تحت عجز. لكن التذاكر لم تبع، وقد تبقت أيام قليلة جداً على الحفل. شعر كوكاتريكس بخيبة كبيرة. أحسّ أنه ارتكب حماقة لا تغتفر، وأنه أوقع نفسه في عجز، بسبب ضرب من الجنون.

قصص وطرائف عديدة واكبت هاتين الليلتين اللتين مرّ عليهما ما يزيد على نصف قرن ولا تزالان تشغلان بقيمتهما، وما فاض عنهما من ذكريات، الكتّاب والبحاثة المهتمين بالعلاقة بين فرنسا والعالم العربي.

وهي ليست المرة الأولى التي يعود فيها الكلام على هذا الحدث العربي الفني في باريس الذي لم يتكرر، وإنما سبق لكوكاتريكس أن تحدث عنه في مقابلات، كما نقلته بعض الكتب. وقبل سنوات خصصت صحيفة «لوموند» الفرنسية في عدد 29 يوليو (تموز) 2016 مساحة لهذا الحدث وعنونته بـ«أم كلثوم ملكة مصرية في باريس». وتحدث المقال عن الأجواء التي سادت الحفل وامتداده للفجر: «الواحدة صباحاً، وربما الثانية، لكن الجمهور لا يهتم. في الخارج، قد تغفو باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) باكراً، ويغلق المترو أبوابه. أما في الداخل، في الغرفة ذات الكراسي الحمراء، يبدو المتفرجون مفتونين، مسحورين، مستعدين للبقاء طوال الليل، طوال الحياة، يستمعون إلى أم كلثوم». ويشرح المقال أنها «عند الساعة الثانية والنصف صباحاً، كانت أم كلثوم لا تزال هناك تغني، تغني، تغني، سيدة القاهرة، مؤجلة الموعد النهائي لإغلاق الستارة بأغنية لا نهاية لها».

وصلت أم كلثوم إلى مطار «لو بورجيه» قبل ثلاثة أيام من موعد الحفل. وكان التلفزيون الفرنسي قد أرسل مصوراً لتغطية الحدث. بمجرد أن رأى العرب المقيمين في باريس، بأم العين أن أم كلثوم وصلت بالفعل، وقالت باللغة العربية للتلفزيون: «نعم أنا هنا في باريس لأغني ليلتي 13 و15 نوفمبر». هنا تغير كل شيء. جاء محبوها من كل مكان لحضورها، ليس فقط من باريس من إنجلترا، ألمانيا، المغرب العربي، جميعهم حجزوا وأتوا.

لم يكونوا قد صدقوا أنها ستأتي وتغني في باريس، وبالتالي لم يحجزوا أماكنهم. واكتشف كوكاتريكس أن سبب عدم الإقبال هو أن الجمهور العربي لم يصدّق أن أم كلثوم ستأتي وتغني فعلاً في باريس.

نفدت البطاقات بلمح البصر، ولم يتمكن كل الآتين من بعيد من إيجاد أماكن. وجنّ جنون أحد الأثرياء يوم الحفل، ووقف أمام بائعة التذاكر يرشيها بدفع 100 ألف فرنك قديم مقابل تذكرة، ولم يُجد معه أنها شرحت عجزها عن فعل أي شيء، فأخرج 500 ألفاً ووضعها أمامها على الطاولة، وعادت وشرحت قلة حيلتها، فما كان منه إلا أن أخرج مسدسه، وهددها. فاضطر المسؤولون عن الأولمبيا إلى أن يضعوا له كرسياً في واحد من ممرات الصالة ليحلوا المشكلة.

«مع أن أم كلثوم غنّت بوصفها فنانة، غير أن توقيت الحفل بعد هزيمة 67 بأشهر، وتبرعها بالمبلغ الذي نالته جعل الحدث الفني مرتبطاً بالسياسة»

ومما يرويه كوكاتريكس أنه حين سأل أم كلثوم: «أي ساعة تنتهي الحفلة؟». قالت: «لا أعرف، سأغني أغنيتين أو ثلاث». عندها فكر أن ثمة ما هو غير طبيعي في الأمر؛ إذ إن أغنيتين تنتهيان في 6 دقائق، أو ثلاث فلن تتجاوز مدتها 9 دقائق. ففزع، وقال لها: «ألا ترين أن هذا قليل؟». عندها أجابته: «سأغني ما يتوجب أن أغنيه، لا تقلق لذلك». وعندما حضر الحفلة الأولى، اكتشف أن كل أغنية تستمر ساعة ونصف ساعة، ثم تتبعها استراحة 20 دقيقة، ثم تعود السيدة لتغني ساعة ونصف ساعة أخرى. هكذا بقيت على المسرح 6 ساعات، قدمت خلالها ثلاث أغنيات.

لقد كان نجاحاً عظيماً، وصفته «لوموند» على النحو التالي: «إذا كان هناك عرض في الخارج قد ميز مسيرة المغنية المصرية، فهو هذا العرض. وبمرور الوقت، تم إثراء أخبار هذين الحفلين بالأساطير اللذيذة. ألم يُزعم أن الجنرال ديغول حضر أحد حفلي أم كلثوم متخفياً؟».

كوكاتريكس الرجل الذي جازف بدفع مبلغ اعتبره تجاوزاً ومغامرة، وجد، في النهاية، أنه كسب الرهان. هو الذي عمل مع عشرات النجوم الموهوبين من الصفّ الأول لم يخف دهشته بعد حفلي أم كلثوم. وعلّق بالقول: «وقتها تعلّمت درسين، فهمت أن اللغة في الفن لا أهمية لها، والمعيار الحقيقي للحكم على العمل الفني هما الموهبة والصدق».

ومع أن أم كلثوم غنّت باعتبارها فنانة، ولم تكن مبعوثة سياسية، غير أن توقيت الحفل بعد هزيمة 67 بأشهر، وحضور العديد من المسؤولين للأمسيتين، كما مسار أم كلثوم نفسه، والتزامها الوطني، كما تبرعها بالمبلغ الذي نالته لدعم بلدها، جعل من هذا الحدث الفني مرتبطاً بشكل لا مباشر بالسياسة، وبمصر، وبكل ما كان يعيشه العالم العربي من غليان في تلك الفترة المفصلية.


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.