الباكستاني محسن حامد يقدم دليلاً روائيا لثراء الشباب

رواياته تُرجمت إلى أكثر من 30 لغة لكنه لا يزال شبه مجهول في البلدان العربية

محسن حامد
محسن حامد
TT

الباكستاني محسن حامد يقدم دليلاً روائيا لثراء الشباب

محسن حامد
محسن حامد

«كيف تصبح ثريًا فاحشًا في آسيا الصاعدة»، التي ستصدر ترجمتها للعربية قريبًا، رواية مغايرة تمامًا لكل مقاييس الرواية، لأسباب متعددة منها أن الكاتب يستخدم ضمير المخاطب «أنت» ليجعل منها الشخصية المحورية دون أن تحمل اسمًا معينًا.
لم تصدر للروائي الباكستاني محسن حامد، الذي يكتب بالإنجليزية، سوى رواية يتيمة باللغة العربية هي «الأصولي المتردد» التي صدرت ترجمتها العربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر - بيروت 2007، بينما ظلت روايته الأولى «عث الدخان» في عام 2000 غير مترجمة حتى الآن. رواياته الثلاث تُرجمت إلى أكثر من 30 لغة، واعتبرت من أفضل المبيعات في العالم، لكنه لا يزال عندنا شبه مجهول شأنه شأن كثير من الروائيين.
نشر محسن حامد معظم قصصه القصيرة في مجلات: «نيويوركر» و«غرانتا» و«باريس ريفيو»، أما مقالاته فيواصل نشرها في صحف: «داون» و«غارديان» و«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» و«فاينانشال تايمز».
نتعرف على سيرته التي تؤكد على أنه ولد في 1971 في لاهور. وقد أمضى سنوات طفولته الأولى في كاليفورنيا، حيث هاجر إليها والداه من باكستان، ودرس في كل في جامعتي برنستون وهارفرد، وكتب روايته الأولى والثانية أيام كان على مقاعد الدراسة. وبعد تخرجه، عمل مستشارًا إداريًا في نيويورك ولندن. فازت روايته الأولى بعدد من الجوائز، وكذلك روايته الثانية «الأصولي المتردد»، ورُشحت لجائزة «بوكر مان» للرواية، وأصبحت ضمن الروايات الأكثر مبيعًا في العالم.
روايته الثالثة التي نحن بصددها وقدمنا ترجمة لها «كيف تصبح ثريًا فاحشًا في آسيا الصاعدة» مغايرة تمامًا لكل مقاييس الرواية، لأسباب متعددة منها أن الكاتب يستخدم ضمير المخاطب «أنت» ليجعل منها الشخصية المحورية دون أن تحمل اسمًا معينًا. والرواية بأكملها عبارة عن رحلة شاب من الأوساط الريفية الفقيرة ينتقل إلى المدينة، ليجرّب حظه في الثراء، فيعتمد على كتب دليل التعلم الذاتي التي ينكب على قراءتها الشباب من أرجاء العالم من أجل تحقيق طموحاتهم في الحصول على وظيفة مرموقة أو تأسيس شركة تجارية، وخصوصا في آسيا الصاعدة التي تنبت فيها الشركات كما ينبت الفطر في البراري.
يعتمد الكاتب على هذا النوع من الكتب في التعّلم الذاتي، ولكنه يطلق عنان خياله في اثنا عشر فصلاً مبتكرًا، إذ يمكن قراءة الرواية على مستويين مختلفين: الأول على أنها رواية عميقة ومؤثرة لحكاية حب وطموح، والثاني على أنها كتاب استعاري ومجازي في نظرته إلى التحولات الاجتماعية والاقتصادية الحاصلة في آسيا الصاعدة. يختزل الكاتب في روايته ما يريد تحقيقه الشباب الطموح في العصر الحاضر.
تدور أحداث الرواية في بلد لا يحمل اسمًا لكنه قريب الشبه ببلده باكستان. يحلم هذا الشاب الريفي، المنحدر من أصول فقيرة بالثروة والحب، فينتقل إلى المدينة ويؤسس بمدخراته شركة تعبئة المياه المعدنية لكنه يلاقي الفشل، ثم يلتقي بالفتاة التي يعرفها منذ أيام المراهقة، ويطلق عليها في الرواية الفتاة الفاتنة أو الجميلة دون أن تحمل اسمًا أيضًا. لكنها أكثر تحررًا من البطل، وهو ينظر إليها بوصفها امرأة مثالية، رغم أنها تمضي الليلة السابقة مع رجل آخر قطع لها وعدًا بالعثور لها على وظيفة عارضة أزياء. يتميز الروائي بفطنة وذكاء متميزين في استخدام جميع مفردات العصر وأساطيره اليومية في تجسيد حالة ضياع الشباب وطموحاتهم في اعتلاء عرش المال، إنها أسطورة العالم الجديد الذي تنعدم فيه القيم الإنسانية ويصبح المال هو السيد المطلق والإله الموحد لبني البشر. استطاع الكاتب الباكستاني بمهارة كبيرة أن يجعلنا في جو روائي مفعم ببرودة العصر والتشيؤ الذي يضرب في أجزاء جسده. نحن أمام غول المال الذي يسحق جميع القيم ويجعلنا نتوحد في هذه الرؤية بل نشترك فيها. لغة الروائي كثيفة، وكلماته محيّرة، وكل كلمة لها مدلولات متعددة، لكنها لغة شباب العصر، التي قد لا يفهما الجيل السابق لأنها عبارة عن أيقونات جديدة في عصرنا.
أشاد معظم النقاد والكتّاب بهذه الرواية، بل اعتبروها في مصاف الروايات المتميزة في العالم. الناقد ميشيكو كاكوتاني من «نيويورك تايمز» يشبّه محسن حامد بالروائي الأميركي هوراشيو ألجر الابن (1832 - 1899)، الذي اشتهر بكونه مؤلفًا لقصص الأطفال، حيث لاقت رواياته رواجًا كبيرًا في زمانه، تدور أحداثها حول قصص أطفال فقراء تمكنوا من الخروج من ربقة الفقر والبؤس، وسعوا إلى تحسين أوضاعهم المعيشية عبر المثابرة والعمل الجاد مع الحفاظ على الفضيلة والحظ، محققين ما بات يُعرف اليوم باسم الحلم الأميركي. تمثل رواية محسن حامد رغبات ومكبوتات ملايين الشباب في آسيا الصاعدة، هؤلاء الضائعون بين عجلات الاقتصاد الرأسمالي الذي لا يرحم. وعلى الرغم من أن البطل لا يحمل اسمًا فإن القراء سرعان ما يجدون روحه النابضة، وقوته العاطفية، وأفقه المفتوح. يقول الناقد ألن شوس، إن «بطل محسن حامد ينقل إلى الأذهان نسخة معولمة لرواية سكوت فيتزجرالد (غاتسبي العظيم)». ويؤكد الناقد رون شارلس من «واشنطن بوست» أن محسن حامد يتخذ الشكل الأكثر أميركية في الأدب، وهي كتب دليل التعّلم الذاتي، وله قدرة فائقة في تحويلها إلى مادة للحكي في قصة مؤثرة. ويرى الناقد بارول سيهغال أن الكاتب الباكستاني يزاوج بين نمطين من الصعب مقارنتهما، وهما الرواية الملحمية القديمة وكتب دليل التعّلم الذاتي. ويرى الناقد ماريون وينيك أن سرد هذه الرواية يجمع بين الزمن اللانهائي وبين الأحداث المعاصرة، وهو يؤرخ لمرحلة ما بعد الحداثة في حكي شهرزاد. وذهب بعض النقاد إلى مقارنته بالكاتب الروسي الكبير ليون تولستوي. وآخرون قالوا إن «أهم ما يميّز رواية محسن حامد روح الفكاهة التي يروي بها الأحداث»، ففي مائتي صفحة استطاع أن يعبّر عما أنجزه جيمس جويس في روايته الضخمة «يوليسيس» التي قاربت الألف.
يبقى أن نقول: رواية «كيف تصبح ثريًا فاحشًا في آسيا الصاعدة» هي رواية رومانسية دون أن تكون عاطفية، وسياسية دون أن تكون مباشرة، وروحية دون أن تكون دينية. جسّدها المؤلف بلغة إنجليزية متمردة، معقدة في فصاحتها وبلاغتها، ومدلولاتها اللغوية والمعرفية، ما جعل ترجمتها تستغرق وقتًا طويلاً رغم قصرها؛ لأنها حققت المعادلة التي ناشد فيها الكاتب التشيكي الشهير ميلان كونديرا «الحذف والتكثيف». يكفي أنها رواية إنسانية، تعالج الواقع الصاخب الذي تتحكم فيه رؤوس الأموال والشركات العملاقة. وفي نهاية المطاف، يؤكد الكاتب الباكستاني محسن حامد من خلال روايته الثالثة، مكانته كونه واحدا من أبناء جيله الأكثر إبداعًا وابتكارًا في عالم الرواية.

* مقطع من الفصل الأول من الرواية: الانتقال إلى المدينة
* انظر، إذا لم تكن أنت مؤلف كتاب، فإن كتب التعّلم الذاتي تحتوي على شيئين متناقضين. أنت تقرأ كتابًا في التعلم الذاتي، حيث لا تستطيع أن تساعد نفسك، لكنّ هناك شخصا قادرا على ذلك هو مؤلف هذا الكتاب. هذه الحقيقة تنطبق على جميع أنماط كُتب التعّلم الذاتي. وينطبق على كتب التعلم على سبيل المثال وعلى كتب تحسين الأداء الذاتي، وقد يقول البعض: تنطبق على كتب الدين. ولكن قد يقول قائل: من يصرحون بذلك يستحقون أن يطرحوا أرضا ويتركوا لينزفوا حتى ينفد دمهم بوضع سكين على رقابهم وذبحهم ببطء. من الحكمة وببساطة أن نلاحظ اختلافات وجهات النظر بشأن تلك الفئة الفرعية ثم ننتقل بعد ذلك بسرعة.
لا شيء مما ذُكر آنفا يعني أن كتب التعلم الذاتي لا فائدة منها. بل على العكس، قد تكون مفيدة للغاية. لكن يعني ذلك أن فكرة الذات مراوغة في مجال التعّلم الذاتي. قد تكون المراوغة جيدة، وقد تكون مبهجة، وقد تزودك بمنفذ إلى ما يمكن أن يثير الغضب إذا داهمك بجفاف.
هذا كتاب من كتب التعّلم الذاتي هدفه، كما يشير غلافه الأخير، أن يريك كيف تكون ثريًا فاحشًا في آسيا الصاعدة. ولكي تفعل ذلك يجب أن يجد هذا الكتاب طريقه إليك، أن تتداوله، وتقرأه، وأنت ترتعش تحت غطاء أمك ذات صباح بارد وندي على الأرض المرصوصة. عذابك يشبه عذاب طفل رُميت قطعته من الشوكولاته جانبًا، أو نفدت بطارية «ريموت» لعبته، أو انكسرت دراجته، أو سرق منه حذاؤه الرياضي الجديد. وهي أكثر الأشياء تميّزًا، طالما لم ترها في حياتك أبدًا.
بياض عينيك أصبح أصفر، نتيجة ارتفاع نسبة المادة الصفراء في دمك. الفيروس الذي أصابك يُدعى مرض الكبد الوبائي «إي». طريقته النموذجية في العدوى تتم عن طريق الفم أو البراز. يا سلام! يقتل بمعدل واحد في كل خمسين شخصًا، لذلك ربما ستشفى من هذا المرض. لكنك الآن تشعر كمن يوشك على الموت.
على أية حال، واجهت أمك هذا الظرف مرات كثيرة، أو مثل هذه الظروف. لذا فهي قد لا تفكر بأنك ستموت. ومرة أخرى، قد تفكر بموتك. مصير كل شخص الموت، وعندما تكون أم من طراز أمك، ترى وليدها الثالث الألم الذي يجعلك تئن تحت غطاء أمك، بالطريقة التي تفعلها، قد تشعر بموتك يتأجل إلى عقود قليلة، تنزع غطاء رأسها المغبّر، والحالك اللون، وتجلس بألفة منفوشة الشعر، وتبتسم ابتسامة مثيرة لهذا المشهد، وهي تشارك السكن مع أولادها الأحياء في غرفة منفردة، ذات جدران طينية. وتقول: لا تتركنا هنا.
سمع أباك هذا الطلب منها من قبل. على أية حال، لا يجعل ذلك الطلب منه متبّلد الأحاسيس إزاء ذلك تمامًا. إنه رجل ذو شهية جنسية نهمة، وغالبًا ما يفكر بصدرها الثقيل والصلب، وفخذيها الواسعتين، عندما يكون بعيدًا عن أمك، ولا يزال يتشوّق إلى إقحام نفسه في أحضانها ليلاً وليس ثلاث أو أربع زيارات في السنة. وهو يتمتع بحس الفكاهة الفظ وغير المألوف أيضًا لديها، ويحب برفقتها أحيانا. ورغم عدم إظهاره لأحاسيسه تجاه صغاره، فهو يرغب في مراقبتك أثناء نموك وأخوتك. كان أبوه يجد متعة كبيرة في رؤية المحاصيل وهي تكبر في الحقول يوميًا، وفي هذا، يتشابه الرجلان قدر تعلق الأمر بتشابه نمو المحاصيل مع الأطفال.
إنه يقول:
- لا أستطيع أن أستقدمكم إلى المدينة.
- يمكننا البقاء معكم في الأحياء. ترد أمك.
- نستطيع أن نبقى معك في الأحياء.
- يشاركني السكن في غرفتي سائق سيارة.
- أنت تكسب عشرة آلاف الآن. لست برجل فقير.
- عشرة آلاف في المدينة تجعل منك رجلاً فقيرًا.
ينهض ويذهب للتجول في الخارج. عيناك تتابعانه، ونعله الجلدي يُخلع من قائمتيه الخلفيتين، وسيره يصطفق بتراخٍ، وكعباه المتصدعان متصلبان وغليظان، كأنهما مكسوتان بقشرة يابسة. يخطو من البوابة إلى الباحة المفتوحة على السماء التي تقع وسط المجمّع السكني لعائلتك الكبيرة. ومن غير المحتمل، أن يتريث هناك في تأمل الشجرة الفريدة، الوارفة الظلال، ويجد السلوى والعزاء في فصل الصيف، ولكن الآن، في الربيع، لا يزال كل شيء وعر وخشن. من الممكن، أن يخرج من المجمّع السكني، شاقًا طريقه إلى التلة الخلفية، حيث يقضي حاجته، وهو يجلس القرفصاء متخفيا عن الأنظار، ويعصر نفسه بقوة ليفرغ فضلات قولونه. قد يكون وحيدًا أو لا يكون.
يوجد بجوار التلة أخدود لحمي اللون، عميق بطول قامة رجل، وفي قعره يتقطّر الماء بضآلة. في هذا الموسم الاثنان متناقضان، سجين نحيل في معسكر الاعتقال، يلبس رداء طباخ معجنات بدين. ولفترة وجيزة، أثناء الرياح الموسمية، يمتلئ الأخدود بطاقته القصوى، ويكون ذلك حادثة أقل انتظامًا مما كان عليه الحال في الماضي، وذلك اعتمادا على التقلبات المتزايدة في تيارات الهواء والمناخ.



شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.