أخرج الصحافي السوداني، علي فارساب، نفساً ساخناً، وهو يجلس على شاطئ البحر الأحمر عند مدينة بورتسودان، وراح يندب و«يحلل» أوضاع البلاد، الناجمة عن حرب الجيش و«الدعم السريع»، التي بلغت شهرها التاسع وأزهقت خلالها أرواح آلاف المدنيين، دون تحقيق نصر حاسم لأحد طرفيها.
انتقل فارساب من الواقع العام إلى الواقع المرير الذي يعيشه مع زملائه الصحافيين بسبب الحرب: «فقد باعدت بينهم وبين أقلامهم وأوراقهم، وفقدت أعداد كبيرة منهم وظائفها، وظلّوا بلا عمل منذ خروج أول رصاصة من البنادق منتصف أبريل (نيسان) الماضي».
يقول بحزن: «الصحافيون يعيشون ظروفاً قاسية بعد اندلاع القتال. عدد كبير منهم غادر البلاد عبر المعابر الجوية والبحرية والبرية، فيما يتعرض من بقي لمخاطر كبيرة، ويعيشون على مبعدة خطوات من الموت».
أعداد كثيرة من الصحافيين في مدينة بورتسودان انتظروا على مدى شهور «سمات» دخول تمكنهم من اللجوء إلى دول الجوار، لكن من دون جدوى... وضاعف الانتظار من معاناتهم، وعدم امتلاكهم المال الكافي للانتظار. ويقول نقيب الصحافيين، عبد المنعم أبو إدريس، لـ«الشرق الأوسط»: «90 بالمائة من الصحافيين والصحافيات أصبحوا عاطلين عن العمل بعد اندلاع الحرب، بعضهم سافر خارج السودان وعمل في مهن أخرى للوفاء بالتزاماتهم تجاه أسرهم، وبعض آخر من أعضاء النقابة يعيشون أوضاعاً اقتصادية صعبة لأنهم لم يجدوا فرص عمل».
بانتظار «سمة دخول»
مثل زميلها فارساب، جاءت الصحافية ثريا إبراهيم إلى بورتسودان منذ شهر لعبور البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية بانتظار الحصول على تأشيرة دخول... تعيش ثريا مع زميلاتها، وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «للأسف مضطرة لترك مهنتي التي بدأتها منذ عام 2005، لذلك أنا حزينة وخائفة من مستقبل مجهول لا أدري كنهه، بل لا أدري متى أغادر إلى السعودية».
ويشار برغم ذلك، إلى أن أوضاع الصحافيين السودانيين بشكل عام، لم تكن جيدة قبل الحرب، حيث فقد نحو 250 منهم وظائفهم بسبب الظروف الاقتصادية التي ترتبت بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، ما أدى إلى توقف عدد من المؤسسات عن العمل، بينما اضطرت الباقية المتبقية لخفض العمالة.
لكن بعد الحرب أصبح الواقع أكثر حرجاً. توقفت كل المؤسسات الإعلامية الواقعة في مناطق الاشتباكات عن العمل، بما فيها التلفزيون والإذاعة الحكوميان، بعد سيطرة قوات «الدعم السريع» على مقراتها، قبل أن تعود للبث من خارج الخرطوم. كما اضطرت الوكالة الرسمية «سونا» للتوقف قبل أن تستأنف البث من خارج الخرطوم هي الأخرى، بعد 4 أشهر، إلى جانب الصحف اليومية، ومكاتب المراسلين، والمطابع، وشركات التوزيع، كلها توقفت لأنها تقع في مناطق الاشتباكات.
ووفقاً لنقيب الصحافيين، عبد المنعم أبو إدريس، فإن 90 بالمائة من المؤسسات الإعلامية فقدت بنيتها التحتية ونهبت أجهزتها ومعداتها، ما تسبب في التأثير على شكل التغطية الصحافية أثناء الحرب، بل يمكن أن تترتب على ذلك أزمة طويلة بعد انتهاء الحرب، بسبب فقدان الصحافيين لوظائفهم.
في بيان أصدرته «نقابة الصحافيين» الأسبوع الماضي، فإن قوات «الدعم السريع» حوّلت مباني الإذاعة والتلفزيون القومي إلى مقر اعتقال، وإن بعض الأجهزة والمعدات الخاصة بالبث التلفزيوني والإذاعي شوهدت معروضة للبيع بأسواق أم درمان. ووصفت النقابة ذلك بأنه «سلوك غير مسؤول، يعرض أرشيف البلاد المصور والصوتي، لخطر الدمار والخراب، والاندثار للأبد».
وإلى جانب التلفزيون والإذاعة، تعرضت فضائيتا «سودانية 24»، و«البلد» للتخريب، ونهبت كل معداتهما، فضلاً عن نهب مكاتب «بي بي سي» بالخرطوم، وشوهدت أجهزة ومعدات تخص فضائية «النيل الأزرق» معروضة للبيع بإحدى أسواق أم درمان أيضاً.
وطالبت النقابة قوات «الدعم السريع» بالخروج من تلك المؤسسات، وحضّت المنظمات الدولية والإقليمية المهتمة بحرية الإعلام على إدانة تلك الانتهاكات.
حين اندلع القتال في شوارع الخرطوم، كان عمر نقابة الصحافيين 6 أشهر، كأول نقابة «منتخبة» في البلاد بعد أكثر من 30 عاماً من حل النقابات. وعلى حداثة سنّها، حاولت البحث عن موارد تساعد أعضائها، من بينها توفير العلاج لنحو 12 منهم يعانون أمراضاً مزمنة، وتقديم مساعدات شهرية لنحو 20 آخرين يعانون أمراضاً مزمنة أيضاً.
يقول نقيب الصحافيين: «إن 80 عضواً في النقابة بولاية الجزيرة وسط، والبحر الأحمر شرق، تلقوا دورات تدريبية ومساعدة مالية، وينتظر أن يتلقى 40 صحافياً آخرون دورات تدريبية ومنحاً مالية في ولاية نهر النيل شمال، وكذلك في ولايات القضارب شرق».
وتعمل «نقابة الصحافيين»، بالتواصل مع منظمات الصحافيين المعنية بالحريات، على إطلاق حملة لإعادة تأهيل المؤسسات التي تضررت بالحرب، ويتابع النقيب: «الواقع يقول إذا توقفت الحرب، فإن احتمال عودة تلك المؤسسات للعمل ضعيف جداً، خاصة المملوكة منها للقطاع الخاص، وذلك بسبب الظروف الاقتصادية»، مشيراً إلى «أن إحدى الفضائيات قيّمت المعدات التي تم نهبها بما يعادل مليوناً ونصف مليون دولار». ويتابع: «أما على المستوى الفردي، فقد خسر 4 صحافيين حياتهم، وبعضهم فقد أفراداً من أسرهم، وفقد معظمهم ممتلكاتهم».
ويرجع أبو إدريس انتشار الأخبار الكاذبة والمضللة وذيوع خطاب الكراهية إلى «غياب الإعلام المحلي»، فمن بين نحو 2000 صحافي يعمل 10 بالمائة فقط، جلّهم في الإعلام الخارجي، أو الحكومي، وبعض المواقع الإلكترونية، ويضيف: «الصحافيون لا يستطيعون التغطية الميدانية، وبالتالي يغيب الطرف الثالث المحايد الذي ينقل الحقائق».