الكُتابة عند الأقدمين... الكمال المستحيل

للمتصفحين حقٌ في قول كلمة وإعطاء رأيٍّ

جواد علي
جواد علي
TT
20

الكُتابة عند الأقدمين... الكمال المستحيل

جواد علي
جواد علي

إنَّ نقد المؤلفين والكُتاب، مِن قِبل الآخرين، عادة جارية منذ القِدم، وقد وقف عليها أصحاب الكُتب، فتوصلوا إلى حقيقة، أنه ليس مِن كتابٍ قط خرج مِن تحت يد مؤلفه مكتملاً، خالياً مِن الخطأ أو التَّصحيف، أو مِن زلةٍ في نقل المعلومة، وأعني هنا بالكتب التي تتطلب البحث والرفد بالرّوايات والأقوال، فالمؤلف الذي أنجز سبعمائة صفحة، وكتاباً بثمانين جزءاً، في طباعة اليوم، أو أقل أو أكثر، حتّى لو راجع كتابه سبعين مرة لغفل عن الخطأ، لأن النّص نصه، فيمر عليه، وفي ذهنه صورة، وقد كتب صورة أخرى، كالذي يتهجى حروف اسم ما، لكن ذهنه صورة معينة، تحتشد في ذهنه المترادفات، ولتقريب الصّورة، وهي مثال لا حصر، قد يقرأ الحروف (ب-ح-ر) «بحراً».

أمّا عن مراجعة الكتاب لـ70 مرة، ولا يخلو الكتاب مِن الخطأ، فهي مقالة إسماعيل بن يحيى المُزنيّ صاحب الإمام الشَّافعي (تـ: 364هـ): «لو عُورض كتابٌ سبعين مرة لوجد فيه خطأ، أبى الله أن يكون كتاباً صحيحاً غير كتابه» (الخطيب البغداديّ، موضح أوهام الجمع والتّفريق). فيا ترى مَنْ يقدر على التَّمام، وعلى ردّ نقد الجميع!

مصطفى جواد
مصطفى جواد

أقول: مع تكرار التَّصويب أو التَّصحيح، حتَّى أكثر مِن سبعين مراجعة، سيعثر القارئ على خطأ فيه، هكذا صرح بها الأولون مِن تجربةٍ. قال الأديب والكاتب إبراهيم بن العباس الصُّوليّ (تـ:243هـ): «المتصفح للكتاب أبصرُ بمواقع الخلل فيه مِن منشئه» (أبو منصور الثّعالبيّ، الإعجاز والإيجاز). ورويت بما لا يختلف: «والمتصفح للكتاب أبصرُ بمواضع الخلل مِن مبتدي تأليفه» (ياقوت الحَمويّ، معجم الأدباء/إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب).

لأنّ المتصفح قد أتاه الكتاب جاهزاً، لم يشغل ذهنه ما فيه مِن كلمات وحروف، وروايات وأسانيد، وعمل سنة أو سنتين، أو أكثر بكثير، فالمؤرخ العراقيّ جواد عليّ (تـ: 1987) شغله تأليف «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» أربعين عاماً متواصلة، ولم يعينه فيه أحد، مِن جمع مواده إلى كتابته إلى مراجعته ثم الإشراف على طبعه (كتب معاناته في مقدمة مفصلة). لكنّ المتصفح أو النّاقد يأخذ الخطأ الوارد فيه ويجعله فتحاً مبيناً له. وإذا توهم مصطفى جواد (تـ: 1969) ونسب كتاب الحوادث الجامعة لابن الفوطيّ الحنبليّ (تـ: 723هـ)، وهو لمؤلف مجهول، لم يلتفت النّقاد أو المتصفحون إلى اعتذاره، بعد حين، فظلوا متمسكين بالخطأ، لكن اكتشافاً اكتشفه جعله يتراجع ويعترف بتوهمه.

أكثرَ الكُتاب الأقدمون بشرح معاناتهم، حتّى صاغها عمرو بن بحر الجاحظ (تـ: 250 هـ) وصايا للمؤلفين، قائلاً: «ينبغي لمن يكتب كتاباً، ألا يكتبه إلا على أنَّ النَّاس كلّهم له أعداء، وكلُّهم عالم بالأمور، وكلُّهم متفرغ له، ثم لا يرضى بذلك حتَّى يدع كتابه غُفلاً، ولا يرضى بالرَّأي الفطير، فإن لابتداء الكتاب فتنةً وعجباً، فإذا سكنت الطَّبيعة، وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النَّفس وافرة، أعاد النَّظر فيه، فيتوقف عند فصوله، توقف من يكون وزن طمعه في السَّلامة، أنقص مِن وزن خوفه مِن العيب» (الجاحظ، كتاب الحيوان). بأشد منها أوصى إبراهيم بن سيار النَّظام المعتزليّ (تـ: 231-231هـ) لمَنْ يُصنف الكتب ويشتغل بعلمٍ ما: «العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، فأنت مِن عطائه لك البعض على خطر» (البغداديّ، تاريخ بغداد)، بمعنى أن يُكرس المؤلف كل حياته لتأليفه في العلم الذي يفقهه، فهي حرفة ليست ككل الحِرف.

عبر ما نُسب للقاضي الفاضل عبد الرّحيم بن عليّ اللَّخْميّ (تـ: 596هـ)، قاضي وأديب دولة صلاح الدّين بمصر، أو لصاحبه الكاتب العماد محمَّد بن محمَّد الأصفهانيّ (تـ: 597هـ) مِن عبارة، تعكس قلق المؤلف، بعد خروج كتابه إلى القراء، ويأخذون بتداوله، فتنهال النّقود تباعاً عليه، مِن أتراب الحِرفة، ومِن غيرهم مِن ناقدين ومتصفحين، فليس هناك ما يؤكد أيهما كتب إلى الآخر، القاضي أم الكاتب: «إنَّه قد وقع لي شيء وما أدْرِي أوقعَ لك أم لا، وها أنا أُخبركَ به، وذلك أني رأيتُ أَنَّهُ لا يَكْتُب إنسانٌ كتاباً في يومه إلّا قال في غَدِه: لو غُيِّرَ هذا لكانَ أحْسَن ولو زِيْدَ لكانَ يُسْتَحْسَن ولو قُدِّم هذا لكانَ أفْضَل، ولو ترك هذا لكانَ أجْمَل وهذا من أعظم العِبَر، وهو دليلٌ على استيلاء النَّقص على جُملة البَشَر» (حاجي خليفة، كشف الظُّنون، مقدمة المؤلف).

مَن كتب مقالاً ولم يتحمل ردود الفعل ولم يوافق على سماع نصيحة محرر جريدة أو مجلة أو رأي مغاير فيه يبقى ذلك المقال يتيماً لا يكتب غيره

يبدو أول مَن ذكرها حاجي خليفة (تـ: 1609م) بأنها للقاضي الفاضل، وخليفة متأخر كثيراً، ولا يذكر أين وجدها، لكنّها قد شاعت للكاتب العماد، مع العلم أنَّ لا كتب القاضي ولا العماد قد حوت هذه العبارة، بينما نادراً ما تجد كتاباً لم يعتذر صاحبه بها، من احتمال الخطأ، ويجعلها الغالب منهم للعماد. أمَّا مَن اعتقد أنّ أول الناقلين له هو النّهرواني (تـ: 988هـ) في «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام»، فلا وجود لها في هذا الكتاب.

غير أنَّ للجاحظ قولاً مشابهاً سابقاً، على الفاضل والعماد، كتبه إلى أحد الوجهاء: «وهل فيك شيءٌ يفوق شيئاً، أو يفوقه شيء؟ أو يُقال: لو لم يكن كذا لكان أحسن، أو لو كان كذا لكان أتم» (الجاحظ، رسالة التّربيع والتَّدوير). فهل يكون هذا القول هو الأساس في ما سارت به الرّكبان مِن عبارة؟!

أقول: مَن كتب مقالاً، ولم يتحمل ردود الفعل، ولم يوافق على سماع نصيحة محرر جريدة أو مجلة، أو رأي مغاير فيه، يبقى ذلك المقال يتيماً لا يكتب غيره، أو ما يكتبه لا قيمة له، فإذا خير الكاتب أو الباحث بين القدح والمدح، عليه قبول الأول، فهو إمَّا أن يصدر مِن محبٍ حريصٍ لا يُجامل، أو مِن حسود حقود، والاثنان يبذلان الجهد لإظهار الخلل، لكن ما لا نغفله أنّ مجال النّقد مليءٌ بالمُحَبطِين، وعلى وجه الخصوص في عالم الأدب، فعلى الكاتب أو المؤلف أن يكون صبوراً إيجابياً مع ما يسمعه مِن تشجيع وخذلان، فعليه أن يُصدق ما ذهب إليه الأقدمون، وقالوها مِن تجربة وخبرة «المتصفح أبصر بمواضع الخلل» مِن مؤلف الكتاب وكاتب المقال. فما يخرج مِن يد المؤلف لا يبقى ملكه، إنما للمتصفحين حقٌ في قول كلمة وإعطاء رأيٍّ.

لكن ذلك لا يعني كلّ مَن سود يده بالحبر كاتباً، إنما مَن كانت الكتابة عنده مأساة لا ملهاة، مِن أنماط مَن تقدم ذِكرهم، واعترفوا بنقصهم، ولو راجعوا الكتاب سبعين مرة، واعترفوا للقارئ المتصفح بفضله في كشف الخلل، وهم يعانون بالكتابة معاناة الفرزدق (تـ: 110هـ) بالشّعر، يُنقل أنه اعترف، وهو المعدود مِن متقدمي الفحول: «أنا عند النَّاس أشعر النَّاس، وربَّما مرت عليَّ ساعة، ونزع ضرس أهون عليّ مِن أنْ أقولَ بيتاً واحداً» (الجاحظ، البيان والتّبيين).


مقالات ذات صلة

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

ثقافة وفنون لمى الكناني في دور عزيزة

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر

د. مبارك الخالدي
ثقافة وفنون الإماراتي جمال مطر: محور روايتي يدور حول السلطة ومفهوم العدالة

الإماراتي جمال مطر: محور روايتي يدور حول السلطة ومفهوم العدالة

صدرت حديثاً عن دار النشر الباريسية العريقة «لارماتان»، ترجمة فرنسية لرواية «ربيع الغابة» للكاتب الإماراتي جمال مطر، حملت توقيع المترجمة المغربية وفاء ملاح،

شاكر نوري (دبي)
ثقافة وفنون العُمانية آية السيابي تكتب عن «الحياة في سجنِ النّساء»

العُمانية آية السيابي تكتب عن «الحياة في سجنِ النّساء»

صدرت حديثاً للقاصّةِ والروائيّةِ العُمانية آية السيابي روايةٌ جديدةٌ بعنوان «العنبرُ الخامسُ... الحياة في سجن النّساء»، عن دار «الآن ناشرون وموزعون»، بالأردن.

«الشرق الأوسط» ( الدمام)
ثقافة وفنون الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

الذكاء الاصطناعي والمتخيَّل الفني... مجاراة أم مباراة؟

نقلتْ إلينا «ثقافية الشرق الأوسط» بتاريخ 5 - 4 - 2025 مباراة «ندِّيِّة» بين مساعد الذكاء الاصطناعي والكاتب الفرنسي هيرفي لوتيلي تحت عنوان «روائي فرنسي يواجه روب

جهاد مجيد
ثقافة وفنون قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

قصص منحوتة من طين القرية وشقوقها

يحوّل عاطف عبيد في مجموعته القصصية «راوتر شيخ البلد» فضاء قريته بشوارعها وأزقتها ومفارقات حياتها وبشرها إلى مادة خصبة للحكي، واصطياد القصص والحكايات،

جمال القصاص

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة
TT
20

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر في المسلسل، ولأنه يشكل، أيضاً، صورة مصغرة لمقام سردي في رواية «غراميات شارع الأعشى». لا يشغل هذا الجزء سوى دقيقة وعدة ثوان من زمن سرد «عزيزة» (لمى الكناني) في الحلقة الأخيرة. وأعني «عزيزة» الصوت بلا جسد، التعليق الصوتي (voice-over)، الذي يأتي من خارج عالم الحكاية، ومن زمن غير زمن الأحداث فيها؛ وعلى نحو متقطع، يرافق المُشاهدَ من الدقائق الأولى إلى الدقائق، بل الثواني، الأخيرة من المسلسل، وليس «عزيزة» الشخصية، صاحبة «فيه شوط طق، فيه شوط مصري»، التي تعيش وتغني وترقص وتقلد سعاد حسني وتتصرف بتهور وتقع في الغرام بدون توقف في عالم الحكاية.

الصمت بعد «عرس الدم»

لو كنت عضواً في الفريق الذي يُشكِّل «المخرج الضمني» لـ«شارع الأعشى»، لجعلت الصمتَ يعقب فاجعة «عرس الدم»، مُنهياً به المسلسل، فلا يبقى في المشهد الأخير سوى صفحات دفتر مذكرات عزيزة والهواء يقلِّبها ويحركها، ثم تستقر مفتوحة وخالية من أي كتابة، في رمزية لنهاية مفتوحة، قد تطلق العنان لخيال المُشاهد ليكتب فيها النهاية التي يتخيلها، أو النهايات، فما إن يستقر على نهاية، حتى تظهر على شاشة خياله نهاية أخرى. سيكون المشاهد حينئذ في وضع يشبه إلى حد ما وضع قارئ رواية «غراميات شارع الأعشى» بنهايتها المفتوحة: «تمددت روحه (أبو فهد) في الغناء... صار وجه الجازي يظهر له من الضوء المنعكس في أعمدة الكهرباء المحاذية للشارع. يسوق سيّارته البويك على مهل... ويدخل من الشارع الملتوي متجهاً إلى بيته، وصوت الحب عالق في أذنه، ويبتسم وحده في السيارة، ويفكر في حبّة الخال السوداء ويغني وحده: (ماهقيت ان البراقع يفتنني)». وتنتهي الرواية بصوت محمد عبده. ويبقى ما يُحتمل حدوثه لـ«أبو فهد» والجازي مشرعاً للتخيلات والتآويل. أتساءل مبتسماً في هذه اللحظة، لماذا لم يختر «أبو فهد» أغنية أخرى يستمع إليها، أو لماذا لم تختر الروائية بدرية البشر أغنية مثل «أنا أشهد أن البدو حلوين حلوين/ وخفة الدم زودتهم حلاوة». وأضحك ضحكة صغيرة صامتة من الفكرة التي أخفقتُ في إبقائها خارج النص، مع الأغنية التي تعود تاريخياً إلى ما قبل زمن أحداث المسلسل بسنوات قليلة.

دفتر «عزيزة» يغري بإعادتها

أما في المسلسل، فيبدو أن الدفتر الملطخ بدم عواطف (آلاء سالم)، أوحى لـ«المخرج الضمني» فكرة إنهاء المسلسل بصوت «عزيزة» الساردة، حتى بعد أن تغادر «عزيزة» الشخصية في الداخل «شارع الأعشى»، وتغيبها ظلمة الطريق في رحلة الهروب.

اللافت أن «عزيزة» الساردة (voice-over narrator)، تبدو مختلفةً في الثواني الأخيرة. فلم تعد الذات/ الأنا الساردة التي تستمد مادة سردها وتعليقها من تجربتها، وتجارب من حولها، ومن الأحداث التي تشهدها وتتفاعل معها، كما يتجلى في الاقتباس التالي وفيه تصف، في بداية الحلقة الأولى، بدايات الأيام في حياة أسرتها: «كان يومنا يبدأ لما يُشغِّل أبوي الرادو... صوت إبريق الفواح يتداخل مع أصوات الأغاني اللي بينَّا وبينها بحور... من إذاعة لندن أصوات تملأ بيتنا وتفيض (على) شارع الأعشى».

يشعر المشاهد، و«عزيزة» تتكلم خلال الثواني الأخيرة، أنه يستمع إلى ساردة مختلفة، ساردة ذات معرفة تتجاوز الأحداث في ماضيها وماضي أسرتها، معرفة تحيط بما لم يحدث بعد، وبما يحتمل حدوثه في المستقبل، حين تعلق بنبرة تشي بتأكدها مما تقول: «بنات الأعشى باقين... حكاياتهم وأحلامهم هي اللي ما تموت... راجعين يعبون باقي صفحات دفتري... راجعين ومكملين مشوارنا... معكم». بالإضافة إلى تمدد حدود معرفة عزيزة لتبدو كساردة عليمة، يدرك المشاهد أنها، وخلال هذه الثواني بالذات، تملك وعياً ميتاقصياً، بأنها وبنات «شارع الأعشى» الأخريات شخصيات يعشن في حكاية، في عالم تخييلي، وأن حكايتهن لم تنته بعد، وأنهن عائدات في حكاية، وربما، حكايات أخرى، وتعي بذاتها ساردةً، وبأن هنالك متلقين ينصتون لما تقول، فتوجه كلامها إليهم: «راجعين ومكملين مشوارنا معكم... انتظرونا». لا أتذكر أنها خاطبت المشاهد مباشرة، وبهذه الطريقة من قبل، أو تلفظت بما يدل على وعي «ميتاقصي» بأنها والآخرين شخصيات خيالية في حكاية. في رأيي إن تلفظها الأخير فعل سردي نشاز، غير متسق نوعياً مع تعليقاتها السابقة. ربما يدل على ارتباك المخرج الضمني من ناحية، وعلى حرصه على إنهاء المسلسل بإعلان «برومو» لموسم ثانٍ من ناحية أخرى.

إلهام علي
إلهام علي

في انتظار بنات «شارع الأعشى»

سينتظر المشاهدون عودة بنات «شارع الأعشى»، ولكن هل تعود «عزيزة» الساردة، باختلافها الأخير، الذي اخترقت به أحد أعراف السرد الواقعي بإطلالتها الصوتية بإعلانٍ عن موسم ثان، يفترض ألا يعلم أحد به سوى المخرج الضمني؟ وهل تعود أيضاً بوعي ميتاقصي؟ أم أن تلك اللمحة «الميتاقصية» العابرة حدثت بدون قصد ووعي من المخرج الضمني؟

بالرغم من عنصر المفاجأة فيه، إن تحول «عزيزة» الساردة، ولو لثوانٍ في النهاية، أمر يمكن تَقَبُله إذا ما قورن بظهور الإرهابي المنشق جزّاع/منصور (نايف البحر) ومجيئه إلى «شارع الأعشى» للبحث عن أمه. ظهوره في واقع الحكاية يحدث بطريقة تشبه تطعيم شجرة بغصن من شجرة أخرى ولكن بأيدٍ غير ماهرة ومرتبكة؛ وإدخاله في عالم الحكاية متكلف وتنقصه السلاسة، وإيواؤه في بيت «أبو إبراهيم» (خالد صقر) تحت ذريعة وفاء «أم متعب» (إلهام علي) لأمه (ريم الحبيب)، واستمراراً للعب «أبو إبراهيم» دور «السنيد» (sidekick) لـ«أم متعب»، كلها أمور تتحدى قدرة المشاهد على تعطيل عدم التصديق. بدخول جزّاع فضاء وزمان الحدث ليكون حبيباً آخر لعزيزة تحقق معه حلمها في الهروب، يبدأ الترهل بالنفاذ إلى بنية المسلسل السردية والبطء إلى إيقاع حركة الأحداث إلى حد إثارة الملل في المشاهد.

تحولات صوت «عزيزة»

يشكل تحول «عزيزة» غير المسبوق إلى ساردة عليمة نقطة التقاء وتشابه بين المسلسل ورواية بدرية البشر. يُذَكر بتحول «عزيزة» الساردة بضمير المتكلم في الرواية إلى ساردة عليمة في فصول خمسة في الرواية (22، 13، 11،10 ،7). (ناقشت الموضوع في مقالة عن التقنية السردية في «غراميات شارع الأعشى»، نُشِرَت في صحيفة اليوم في 2016-05-07).

تراوح «عزيزة» في الفصول الخمسة بين سرد الشخصية (character narration) بضمير المتكلم بمحدودية المعرفة المرتبطة به تقليدياً في السرد الواقعي، والسرد العليم بضمير الغائب. فتروي في الفصل السابع، على سبيل المثال، حواراً قصيراً يدور بين الجازي ومزنة في بيت «أم متعب»، بينما هي فوق سطح بيتهم، وتنقل حواراً، لم تشهده، بين وضحى ومزنة في سوق الحريم، وكأنما تفتح في رأس ضاري كوة كالكوى الصغيرة في جدار سطح بيتهم تطل خلالها على أفكاره حين تروي: «بينما لا يجد في منزله سوى امرأة لا يلمس منها إلا حنانها، لأن قوتها الخفية تتحرك فقط في رأسها ولسانها. لا يعرف إلا هذه المرأة التي عملت طويلاً من أجلهم، فيرهقه شعوره بأنه عاجز عن تولي الأمر عنها» (الفصل 7، ص 66). ليس في هذا الفصل الذي يبدأ بصوتها «خرج والدي بعد صلاة العصر وركب سيارته، وقبل أن يدير محركها اكتشف أن مكان الراديو فارغ»، ما يدل على أن «عزيزة» تتوقف عن السرد، لتكمل الساردة العليمة المهمة. ويتكرر هذا المقام السردي في الفصول الأربعة الأخرى.

يرى عالم السرد البلاغي جيمس فيلان أن «سرد الشخصية أرض إنتاج خصبة للسرد المضاد للمحاكاة، غير الطبيعي، خصوصاً لاندلاعات المضاد للمحاكاة (antimimetic) المتفرقة داخل السرد الذي يكون المحاكي (mimetic) شفرته المهيمنة» (بويطقيا السرد غير الطبيعي، 197). يمكن القول إن اندلاعات المضاد للمحاكاة في أداء «عزيزة» بانتقالها من سرد الشخصية إلى السرد العليم هي «إفاضات/ paralepses» بلغة جيرار جينيت، أي سرود معلومات وأحداث تتجاوز محدودية معرفتها، ونقل ووصف ما لا يمكن لها إدراكه مثل أفكار ومشاعر ضاري، ليكون الناتج تمثيلاً سردياً مضاداً للمحاكاة (antimimetic narrative representation)، حسب تنظير علماء السرد غير الطبيعي مثل برايان ريتشاردسون وألبر جان. في رواية البشر، يتجاور المحاكي مع المضاد للمحاكاة، حيث يبدو الأخير تعبيراً عن تمرد على مواضعات السرد الواقعي.

هذه الكتابة حصيلة جولة ممتعة في «شارع الأعشى» في الرواية والمسلسل، وكأي كتابة لم تتسع لكل ما يراد كتابته، ما يعني أنها وكأي كتابة، أيضاً، تخلق الحاجة إلى كتابة أخرى تكملها. ربما تكون الكتابة الأخرى عن موسم ثان من مسلسل «شارع الأعشى»!

* ناقد وكاتب سعودي