هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف فلسفيّاً؟

صراعات الناس لا سيّما الحضاريّة منها لم تنبعث من الخواء

مانديلا
مانديلا
TT

هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف فلسفيّاً؟

مانديلا
مانديلا

في أغلب الحروب التي أدمت وعيَ البشريّة في القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين يدّعي المتحاربون أنّهم يحاربون من أجل أسمى القضايا وأشرف القيَم. أشدُّ الحجج تأثيراً تلك التي تقترن بالهويّة الجماعيّة، وفي طليعتها صونُ الأرض، وحمايةُ العرض، والدفاعُ عن وجود الجماعة، والذودُ عن الدِّين. أمّا الحجج الأضعف فتلك التي تتعلّق بشرعيّة المصالح، وضرورات التوسّع، ومقتضيات الازدهار. ليس غريباً عن وضعيّتنا البشريّة الاقتتالُ في سبيل إعلاء الذات الجماعيّة، سواء على مستوى القضايا المقترنة بالهويّة الجماعيّة، أو على مستوى المسائل المرتبطة بشرعيّة المصالح. غير أنّ السؤال الذي ينبغي أن نطرحه في مثل الأوضاع المأسَويّة هذه ينبثق من ضرورة التفكّر الهادئ في مسألة العنف: هل يجوز لنا أن نسوّغ العنف تسويغاً فلسفيّاً يجعلنا نرضى به سبيلاً وحيداً إلى فضّ الخلافات ومعالجة الاختلالات وتقويم الاعوجاجات وتهذيب أهواء النفس الغضبيّة الفرديّة والجماعيّة؟

تقاتل الناسُ في القديم من الأزمنة، وما برحوا يتقاتلون حتّى اليوم، وفي ظنّهم أنّ الاحتراب السبيلُ الوحيدُ الذي يُنقذ الكرامة الإنسانيّة ويفرض العدالة الكونيّة فرضاً مطلقاً. بيد أنّنا ندرك جميعاً في قرارة أنفسنا أنّ العنف لا يولّد سوى العنف. إن بعض الفلاسفة، وفي طليعتهم الفيلسوف الإغريقيّ هيراقليطُس الأفسُسيّ (القرن السادس قبل المسيح) عاينوا الاحترابيّة (polemos) في جميع مظاهر الحياة. فتصوّروا الوجودَ كلَّه مفطوراً على التصارع، وعاينوا في التناقض المضطرم انبعاثاً جديداً وبركةً كونيّةً تُعزّز فينا النموّ والابتكار والازدهار. كذلك سار على هذا النهج فلاسفةٌ معاصرون من أبرزهم هيغل (1770-1831) الذي جدل الواقعَ كلَّه جدلاً تشابكيّاً حيويّاً، فتَصوّر الكائنات كلَّها في تقابلٍ وتعارضٍ وتواجهٍ يُفضي إلى استيلاد أعظم الأمور فرادةً وتألّقاً وسموّاً.

لا أعتقد أنّ العنف الذي تناوله الفلاسفة على هذا النحو يشبه العنف الذي يرتكبه أهلُ الأرض حين يتقاتلون تقاتلَ الإفناء العبثيّ المقيت. بين عنف التناقض الخلّاق وعنف الاحتراب المهلِك بونٌ شاسعٌ أو مسافةٌ ضوئيّةٌ لا يجوز الاستخفاف بها. ذلك أنّ الاختلاف الشرعيّ بين الكائنات الإنسانيّة قد يُفضي إلى بعضٍ من التكامليّة المثمِرة. أمّا الخلافات الجسيمة التي تنبثق من تشنّجات الهويّة الجماعيّة وتضارب المصالح المنفعيّة، فتعيث في الأرض فساداً وإهلاكاً. لذلك آن الأوان لكي نتدبّر مظاهر العنف الاحترابيّ هذا تدبّراً عاقلاً يتيح لنا أن نستدلّ على مناهجَ أخرى من معالجة الخلافات الحادّة التي تنجم عن الواقع الجيوثقافيّ والجيوسياسيّ والجيواقتصاديّ الراهن.

لن أدخل في متاهات التنظير الآيديولوجيّ الذي يرسم خريطة الأرض رسماً استبداديّاً يعزّز لكلّ ذاتٍ جماعيّةٍ منعتَها وحقوقَها ومصالحَها الخاصّة، ويحرم الذات الجماعيّة الأخرى من أدنى مقوِّمات العيش الكريم. أصابتنا مثل هذه المحَن في القديم من الزمان، وما برحت تُصيبنا اليوم في جميع بقاع الأرض. قد يكون الصراع الفلسطينيّ - الإسرائيليّ من أخطر الأدلّة على انعدام سبيل المباحثة العقلانيّة الهادئة واستفحال النهج العنفيّ الإباديّ. ولكن إذا نظرنا في مسار الصراعات العالميّة، تَبيَّن لنا أنّ العنف غالباً ما يسبق التحاور والتفاوض والتسالم الرزين المبنيّ على الحكمة والعدالة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نناصر طريق الحكمة العقلانيّة قبل أن نؤيّد العنف الإهلاكيّ. حين يبلغ الظلم أشدّه في بعض الأوضاع، يُزيَّن لبعض الناس أنّ الحلّ الوحيد الاحترابُ الإفنائيُّ حتّى يخضع الظالمون، ويرتدع المعتدون، ويتوب الضالّون.

غاندي

غير أنّ صراعات الناس، لا سيّما الحضاريّة منها، لم تنبعث من الخواء الزمنيّ والصفاء التاريخيّ. ثمّة أخطاء جسيمة وارتكابات مشينة وانتهاكات مقزّزة تغاضى عنها حكماءُ المسكونة، فأفضت بنا إلى الانحرافات والمظالم والأوبئة الأخلاقيّة المستشرية. إذا ثَبت أنّ الحروب لم تحلّ المشكلات العالقة، وأنّ العنف أذلَّ الناس المتحاربين إذلالاً كيانيّاً، وأنّ كلَّ صراعٍ سيُفضي عاجلاً أم آجلاً إلى الاسترخاء والتهادن والتفاوض والتبادل والتسالم، ولو في حدود المقدار التفاعليّ الحضاريّ الأدنى، فلماذا يستميت الناسُ في الاقتتال العبثيّ؟ ولماذا يهيّجون النفوس من أجل معاداة الآخرين وتكفيرهم وإسقاط كرامتهم الإنسانيّة اللصيقة بماهيّتهم الأصليّة؟ ولماذا نواظب على تسويغ شرعيّتنا الاستبداديّة بواسطة تأجيج التناقض المميت وإدامة الصراع المهلك وتأبيد الحقد الحضاريّ؟

أعتصم بالاستفسارات الفلسفيّة الجذريّة هذه، وأنا على يقينٍ من أنّ الأجوبة عسيرةُ المنال، إذ إنّنا نُتقن فنَّ التقيّة والتورية والحجب والإخفاء حتّى نُظهر ما لا نُضمر، ونُعلن ما لسنا به مقتنعين. أقولها بصراحةٍ وشفافيّةٍ: ما الأفضل والأجدى والأرقى؟ أن نكافح كفاحَ المقاومة اللاعنفيّة التي تستلهم قيَم الروح الإنسانيّ السامية، على طريقة غاندي ونيلسون مانديلا وأطفال انتفاضة الحجارة الفلسطينيّين؟ أم أن يَفني بعضنا بعضاً على نهج الإبادة العبثيّة التي تُزهق الكيان الإنسانيّ وتُفسد الحياة وتُعدم الرجاء الحضاريّ الكونيّ؟ هل يعتقد الناسُ حقّاً أنّ الرصاصة أشدُّ وقعاً في مسار التوبة الروحيّة الإنسانيّة من وداعة الاعتصام السلميّ وعزيمة الاحتجاج الفكريّ وحكمة المقاومة الثقافيّة الصابرة؟

لستُ على البراءة الساذجة التي تجعلني أنتظر ثمارَ النهج الاعتراضيّ السلميّ منذ المظاهرة الاحتجاجيّة الشارعيّة الجماعيّة الأولى. ولكنّ خبرة الحياة علّمتنا جميعاً أنّ ضحايا الاقتتال العبثيّ يُدفنون في تربة العقم الحضاريّ، في حين أنّ شهداء المقاومة السلميّة يُزرعون زرعاً في وعي البشريّة ويُثمرون رقيّاً بهيّاً في تضاعيف الزمن الآتي. ما دام الناس سيموتون موتاً من أجل الدفاع عن قضاياهم العادلة، فلماذا الموت العبثيّ؟ ولماذا الاقتتال الإفنائيّ الذي يُفسد الحسَّ الإنسانيَّ الحضاريَّ في المعسكرَين معاً؟ إذا كان لا بدّ من الموت بسببٍ من تعنّت الظالم، فليَمت الإنسانُ شهيدَ المقاومة السلميّة التي تهيّئ للناس أرقى سبُل التسالم الكونيّ المقبِل. أمّا موتُ الاقتتال الحاقد فلا يُفضي إلّا إلى تفاقم الاحتراب الإهلاكيّ.

لا سبيل إلى الانعتاق من حروب الهويّات المتشنّجة والمصالح المتضاربة إلّا بواسطة الارتداد الكيانيّ إلى فلسفة اللاعنف التي نادى بها عقلاءُ الأرض وحكماؤها، ومنهم الفيلسوف الفرنسيّ جان-ماري مُلِر (1939-2021) الذي ناصر نهج غاندي السلميّ، وبنى نظريّةً فلسفيّةً متناسقةً متكاملةً في تأصيل اللاعنف على جميع مستويات الحياة الإنسانيّة الفرديّة والجماعيّة، وأنشأ معهد البحث في حلّ الصراعات اللاعنفيّ (Institut de recherche sur la résolution non-violente des conflits)، وشارك في إنشاء المجلس العالميّ المشرف على أوّل جامعةٍ تُعنى بتدريس اللاعنف في العالم، ومركزها الأساسيّ في لبنان. في عرفه أنّ حكمة الحضارات الإنسانيّة تختزن كنوزاً لا ثمن لها من المبادئ والقيَم والمناهج والسبُل والخطط التي نستطيع أن نستثمرها في فضِّ أعتى الخلافات الكونيّة استعصاءً على الحلّ السلميّ.

وعليه، أعتقد أنّه من واجبنا أن نبحث بحثاً هادئاً عن الطريق السلميّ اللاعنفيّ الأمثل الذي يُفضي بنا إلى التفاوض الحازم من أجل فكّ عقَد التاريخ، وشفاء الوعي الجماعيّ الشقيّ من أسقامه الآيديولوجيّة المتراكمة. في مطلق الأحوال، يبقى التسالم الودود والتفاوض المستمرّ والتعاون الصادق من أفضل السبُل التي تتيح لنا أن نتوب عن معاصينا، ونهذّب أخلاقيّاتنا، ونصيب خصمنا بالعدوى الروحيّة الصالحة، ونرتقي معاً في معارج النضج الفرديّ والجماعيّ. حتّى لو لم نحصل كلُّنا على جميع المطالب التي نَعدّها من صميم حقّنا الحضاريّ الأسمى، فإنّ التسالم الراقي الذي نختبره مع خصمنا يفعل فيه فعلَه الاختماريّ البطيء حتّى يرتدّ ارتداداً جميلاً إلى سبيل المعيّة الحضاريّة البهيّة. ليس الزمن المتباطئ بالمعثرة المانعة، إذ إنّه من الأفضل لنا أن نطوي الأيّام مقاومين مقاومةً سلميّةً في سبيل ارتداد خصمنا الظالم، عوضاً عن ضياع الزمن عينه في احترابٍ إفنائيٍّ عبثيٍّ يُفسِد فينا جوهرَ إنسانيّتنا.



علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.


«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن
TT

«عزيزتي كاسندرا»... نافذة على الحياة الخاصة لجين أوستن

جين اوستن
جين اوستن

بمناسبة مرور 250 عاماً على ميلاد الكاتبة البريطانية جين أوستن، أصدرت دار نشر «فينيتيود» الفرنسية كتاباً جديداً بعنوان: «عزيزتي كاسندرا»، يضم رسائل تبادلتها الروائية مع أختها الكبرى كاسندرا.

الحدث، وفق تقارير الصحافة الأدبية، مهم، فنحن إذا استثنينا بعض المذكرات المختصرة التي نشرها أقارب جين أوستن في القرن الـ19، ورغم المكانة الرفيعة التي تحظى بها الكاتبة اليوم، فإن ما نملكه من معطيات عن حياتها لا يزال محدوداً نسبياً. ولذا؛ فإن مبادرة دار النشر «فينيتيود» جاءت لتقدّم فتحاً لافتاً، حيث أصدرت لأول مرة النص الكامل للرسائل المتبادلة بينها وبين شقيقتها، وهي تقدر بنحو 89 رسالة تبادلتها الأختان بين يناير (كانون الثاني) 1769 وأبريل (نيسان) 1816، بينما كان الباحثون قد قدروا عدد الرسائل التي كتبتها جين في حياتها بنحو 300، لم يبقَ منها سوى 116، حيث حرقت كاسندرا جزءاً منها؛ حمايةً لسمعة جين بعد وفاتها، خصوصاً أن كثيراً منها تضمن تعليقات غير مُحبّذة أو جارحة بحق بعض الأقارب والأصدقاء، أو إشارات إلى مسائل خاصة بالصحة والعلاقات.

«عزيزتي كاسندرا» ليست مجرد مراسلات عائلية بين أختين تجمعهما علاقة قوية، بل وثائق تاريخية تكشف عن امرأة رفضت الخضوع لتقاليد عصرها... اختارت الكتابة على الزواج المريح، وحولت معاناتها الشخصية إلى فن راقٍ، حيث نرى جين أوستن الحقيقية: المرأة الذكية، والساخرة، والمحبة لعائلتها، والملتزمة بفنها حتى النفس الأخير.

في رسائلها المبكرة، تكشف جين، البالغة من العمر 20 عاماً، لأختها وكاتمة سّرها كاسندرا عن علاقة عاطفية مع المحامي الآيرلندي الشاب توم ليفروي، التي يُعتقد أنها ألهمت شخصية «السيد دارسي» في روايتها «كبرياء وتحامل»، حيث كتبت إلى كاسندرا في 9 يناير 1796: «كاسندرا... أخشى أن أخبرك كيف تصرفت أنا وصديقي الآيرلندي. تخيلي كل ما هو صادم وفاضح في الرقص والجلوس معاً...». وفي 15 يناير، كتبت إليها مجدداً بنبرة مختلطة؛ بين الدعابة والأسى: «اليوم هو اليوم الذي سأغازل فيه توم ليفروي لآخر مرة، وحين تصل إليك هذه الرسالة، فسيكون كل شيء قد انتهى. دموعي تنهمر وأنا أكتب هذه الفكرة الكئيبة».

واللافت أن جين بدأت كتابة المّسودة الأولى لرواية «كبرياء وتحامل» في أكتوبر (تشرين الأول) 1796، أي بعد أشهر قليلة من رحيل ليفروي إلى لندن لإكمال دراسته القانونية؛ مما يعزز فرضية تأثير هذه التجربة العاطفية على إبداعها الروائي. وعكس الرواية التي حملت نهاية سعيدة، فان جين لم تتزوج توم بسبب وضعها المادي ومعارضة العائلة هذه العلاقة. وهو ما تُظهره رسائل أخرى مكتوبة بين عامي 1801 و1806، حيث تبدو في مواجهة تحديات مالية واجتماعية قاسية، بعد أن قرّر والدها التقاعد والانتقال إلى مدينة باث، وهو ما صدم جين بعمق، حيث كتبت في 5 مايو (أيار) 1801 واصفة بلهجة ساخرة: «المنظر الأول لباث في طقس جميل لا يوافق توقعاتي. أعتقد أنني أرى بوضوح أكثر من خلال المطر...». وتضيف في موضع آخر: «كل شيء بخار وظلال ودخان وارتباك».

وفاة والدها المفاجئة عام 1805، تركت جين وكاسندرا ووالدتهما في وضع مالي صعب، حيث اضطررن إلى الاعتماد على المساعدات السنوية من الأشقاء الذكور، والتنقل بين منازل الأقارب.

خلال هذه الفترة العصيبة، توقفت جين بشكل شبه كلي عن الكتابة، حيث بدأت رواية «ذا واتسونز» لكنها لم تكملها، والرواية تتحدث عن قسّ مريض فقير وبناته الأربع غير المتزوجات؛ مما فُسر بأنه صدى واضح لمحنتها الشخصية. الاستقرار لم يأتِ إلا في عام 1809 عندما وفر لهن شقيقها الغني إدوارد منزلاً في تشاوتون، حيث عاشت جين أكثر سنواتها إنتاجاً أدبياَ هناك مع كاسندرا التي تولت إدارة المنزل، لكي تتفرغ جين للكتابة. في هذه الفترة، أنتجت خمساً من أشهر رواياتها: «العقل والعاطفة» و«كبرياء وتحامل» و«متنزه مانسفيلد» و«إيما» و«إقناع». ورغم وضعها المادي، فإن جين أوستن لم تكن تقبل بالنفاق أو بالتنازل عن مبادئها، وهو ما وثقّته الرسائل بشكل غير مباشر من خلال قصّة خطبة هاريس بيغ ويذر، الذي فاجأها بعرض زواج خلال زيارتها عائلته في مانيداون بارك. وبعد قبولها العرض، غيّرت رأيها في الصباح التالي، وفرّت إلى باث مع شقيقتها كاسندرا في حالة من الاضطراب الشديد.

هذا الرفض لم يكن مجرد قرار عاطفي، بل كان قراراً مصيرياً رفضت فيه جين الأمان المالي والمكانة الاجتماعية من أجل مبادئها. وقد انعكست هذه التجربة في رواياتها، خصوصاً في شخصية «شارلوت لوكاس» في «كبرياء وتحامل» التي قبلت بالزواج من «السيد كولينز» لأسباب مادية، وفي علاقة «فاني» و«هنري» في «متنزه مانسفيلد». وقد كتبت جين لاحقاً في إحدى رسائلها عام 1814 ناصحة: «كل شيء يُفضّل، أو يُحتمل، ما عدا الزواج من دون عاطفة».

الرسائل أظهرت أيضاً شخصية جين المحترفة الحريصة على التفاصيل والدقة في تحرّي المعلومات، حيث نراها تناقش أختها تفاصيل عن سفن البحرية لتضمن دقة الوصف في «متنزه مانسفيلد»، وقد غيرت كثيراً من التفاصيل بعد أن استشارت شقيقها الضابط.

في رسائلها الأخيرة (1816 - 1817)، ورغم المرض الذي بدأ ينهش جسدها الذي يُعتقد اليوم أنه كان مرض «أديسون»، فإن جين استمرت في الكتابة بروح متفائلة، حيث بدأت رواية «ساندايتون»، لكنها لم تكملها بسبب ضعفها. وفي إحدى رسائلها الأخيرة لأختها كاسندرا في يناير عام 1817، كتبت بروحها المرحة المعتادة رغم معاناتها الواضحة، قائلة: «أعيشُ غالباً على الأريكة، لكني حصلت على تصريح بالمشي من غرفةٍ إلى أخرى؛ خرجتُ مرةً أتنفس الهواء بعد أن تناولت قرص دواء، ووُضعت على كرسيٍّ محمول...»، وهي عبارةٌ تُظهِرُ قدرتها على المزاح رغم المرض.


«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى
TT

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

«الأوسلاندر»... بُعدٌ آخر للمنفى

يقدّم خالد إبراهيم في الجزء الأوّل من ثلاثيته الروائية «الأوسلاندر- تشريع الغربة اختبار الفقد»، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 265 صفحة)، نصاً يؤسّس لمرحلة تكوّن إنسان يدفعه وطنه إلى التخلي عنه، ويستقبله بلد آخر بصفته «أجنبياً» لا بصفته ذاتاً كاملة. يتموضع هذا الجزء بوصفه بناءً تمهيدياً لمشروع سردي أطول، يقدّم الشخصيات والفضاء واللغة والحدث من دون إغلاق أي سؤال، بل عبر تثبيت قاعدة الانطلاق فقط.

يتمحور السرد حول حركة انتقال واحدة: خروج من فضاء مهدَّد في الوطن الأول، ودخول إلى فضاء منضبط وبارد في بلد اللجوء. غير أنّ الكاتب لا يتعامل مع هذه الحركة بوصفها رحلةً درامية أو ملحمة عبور، بل على أنها تحوّل بطيء في إيقاع حياة بطل واحد هو «شفان»، الذي يُعاد تشكيله داخل نظام كامل من الملفات والمقابلات والاستمارات وأسئلة الهوية، بحيث يُطلَب منه أن يسوّغ وجوده باستمرار. الحدث الرئيس ليس سلسلة وقائع، بل اصطدام يومي بين ما يراه «شفان» في نفسه وبين ما تراه المؤسسة عنه.

قوّة السرد تكمن في تجنّب الروائي الإفراط الدرامي؛ فلا مطاردات البتة، ولا مشاهد عبر الحدود، ولا بكائيات... إنما ثمة توتر منخفض يستمدّ قوته من الانتظار الطويل، وبطء الإجراءات، وقلق المستقبل. يكتب الروائي تجربة اللجوء بطريقة أقرب إلى الواقع منها إلى الصورة التلفزيونية. وبذلك يصبح الشعور بالاختناق البارد هو المسرح الداخلي للرواية، لا مشاهد العنف أو المآسي الصارخة.

شخصية «شفان» تُبنى عبر طبقات شفّافة، فلا يُقدَّم بطلاً ولا ضحية، بل إنساناً عادياً يحمل ذاكرة قاسية لكنه يعيش لحظة الحاضر تحت سطوة إجراءات يومية. الماضي يظهر بوظيفة تفسيرية لا استطرادية، بحيث لا يطغى على الحاضر. كما أن التغيير في الرواية ليس طفرة ناتجة عن حدث كبير، بل حصيلة مواقف صغيرة متراكمة، منها: تعلُّم الوقوف أمام الموظف، وكبح الغضب أمام النظرة المتعالية، وفهم شروط المكان الجديد... تكلفة الخطأ عالية، لذا يأتي النضج بطيئاً وحذراً.

إلى جوار «شفان» تتحرك شخصيات ترسم محيط التجربة. فـ«خبات» لا يظهر بوصفه نموذجاً مثالياً بل مهاجراً متعباً، يساعد ويتردد ويخاف، فتنعكس فيه صورة احتمال آخر لمصير «شفان». أمّا «بروين» فتمثل خطاً عاطفياً محتَملاً لا يكتمل، لأن المنفى لا يمنح علاقة مستقرة بسهولة. الحوار بينهما مشحون بالحذر، كأنّ كل كلمة اختبار لخطوة آتية قد تُبنى أو تُلغى. بهذا تُظهر الرواية بعداً آخر للمنفى: المنفى عن الطمأنينة العاطفية، لا عن الوطن وحده فقط. أما الظلّ فيأتي بوصفه أداة فنية ذكية تتيح مساءلة الذات من دون تنظير مباشر. إنه صوت عميق يسأل عن جدوى الرحيل، وإمكان العودة، ومعنى العيش بين هويتين، مما يمنح البنية النفسية للرواية بعداً هادئاً، يكشف عمّا هو أعمق من السرد المباشر.

المكان في «الأوسلاندر» ليس فضاءً جغرافياً بل شبكة ضغط. الوطن الأول يُستحضر بإشارات موجزة تكفي لتبيان أنّ وراء الخروج خوفاً حقيقياً. بينما البلد الأوروبي لا يرسمه الروائي جحيماً ولا فردوساً، بل منظومة صلبة في إجراءاتها، دقيقة إلى حدّ الإرهاق والاختناق. حيث تكفي غرف الإيواء الضيقة، والأسرّة المتجاورة، والمطابخ المشتركة، وأرقام الانتظار، والممرّات الرسمية، لتأسيس شعور الرقابة المستمرة. حتى الأماكن المفتوحة كالغابة أو المقهى تُستخدم كتخفيف مؤقت من الجدران لا كرموز فلسفية.

الزمن في الرواية يُبنى بنظامين؛ أحدهما زمن إداري تحدّده المواعيد والدوائر والرسائل، وثانيهما زمن داخلي يتشكّل في لحظات الانتظار الطويلة، حيث يتسلل الماضي إلى الوعي من دون أن يخطف مركزية الحاضر. فلا قفزات زمنية معقدة ولا نهايات مغلقة. إنها قطعة من مسار أطول، مرحلة من تشكّل هوية «الأوسلاندر» التي من المفروض أن تُستكمل في الجزأين التاليين.

وبوصف اللغة عنصراً رئيساً ومهماً في بناء العالم السردي، يختار خالد إبراهيم، القادم من الشعر، لغة نثرية اقتصادية، بجمل قصيرة، ومشاهد محكمة، بلا زخرفة أو استعارات مبهرة. هذا الخيار الجمالي يكسر السرديات المعتادة حول اللجوء، التي كثيراً ما استدرجت الخطاب العاطفي أو الإنشائي. هنا تُستخدم اللغة أداة إضاءة، لا وسيلة لاستدرار التعاطف. ورغم ذلك يسمح الكاتب لجملته أحياناً بأن تتباطأ وتتأمل، لكنها تبقى لحظات عابرة لا تغيّر من نبرة الأساس.

لا يحصل قارئ رواية «الأوسلاندر» في نهاية الجزء الأول على أي يقين حول مصير «شفان»... الماضي مفتوح على تهديد محتمل، والحاضر لم يتحول إلى إقامة مستقرة، والمستقبل لا يظهر إلا من زاوية الشك. هذه اللّاخاتمة ليست ضعفاً، بل هي جزء من مشروع الرواية كما نعتقد: ترك الباب مشرعاً أمام التكوين المستمر لشخص يتشكّل تحت ضغط تصنيف قاسٍ اسمه «الأوسلاندر».

بهذا الاشتغال الدقيق على الشخصية والزمان والمكان واللغة، يقدّم الجزء الأول من «الأوسلاندر» نموذجاً لرواية تُراكم ولا تُعلن، وتكشف ولا تستعرض، وبذلك تضع القارئ داخل التجربة لا خارجها.