حرب غزّة... وحصاد بوتين

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ب)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ب)
TT

حرب غزّة... وحصاد بوتين

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ب)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ب)

لا حاجة إلى تفكير عميق للقول إن تداعيات حرب غزة تمتد إلى أبعد بكثير من البقعة الجغرافية التي تحصل فيها هذه المقتلة، فالـ«الشرايين» الجيوسياسية لأي صراع في العالم مترابطة وتزنّر الكرة الأرضية من أقصاها إلى أقصاها. ولا شك في أن أي صراع ينعكس سلباً أو إيجاباً على أطراف كبيرة أو صغيرة بطرق تبدو جلية حيناً وضبابية احياناً...

في هذا السياق، يمكن الجزم بأن حرب غزة تفرض الكثير من التحديات لأوكرانيا التي صبّت جهدها منذ الهجوم الروسي في فبراير (شباط) 2022 على نيل دعم المجتمع الدولي، وطلب المساعدة العسكرية والاقتصادية والقانونية لخوض الحرب والحصول على صفة المعتدى عليه الذي يملك حق الدفاع عن النفس.

وغني عن القول أن المساعدات العسكرية تدفقت على أوكرانيا من الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين كالشلال الهادر، وحققت نوعاً من التكافؤ في الحرب أوقف التقدم الروسي الذي كان سريعاً في الأيام الأولى للهجوم، وحصر طموحات موسكو في الحفاظ على شبه جزيرة القرم (المنطقة التي ضمتها روسيا عام 2014) وإبقاء السيطرة على منطقة دونباس حيث أكثر السكان ينطقون بالروسية. بل إن الدعم الغربي لأوكرانيا سمح لكييف بشن هجوم مضاد منذ أوائل الصيف الماضي، لم يحقق الكثير لكنه غيّر في بداياته ديناميكيات المعركة إلى حين...

إلا أن كل شيء انقلب منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فحرب غزة حولّت اهتمام العالم إلى الشرق الأوسط، ليعود إلى الواجهة صراع طال عقوداً وأثبتت التطورات مرة بعد أخرى أن جذوره لا تشيخ ولا يطالها يباس، وأن جذوته لا تنطفئ بل تتحول إلى نيران متأججة تهدد الساحة المباشرة والإقليم، بل العالم كله.

آثار قصف روسي في مدينة خاركيف الأوكرانية (إ.ب.أ)

 

الحرب الموحِّدة والحرب المفرِّقة

وضع الغزو الشامل لأوكرانيا حداً لمعظم الخلافات الغربية حيال التعامل مع روسيا التي نسج رئيسها فلاديمير بوتين على مر السنوات علاقات جدية مع معظم دول أوروبا الغربية، مما أدى إلى توحيد مواقف الحكومات على جانبي المحيط الأطلسي، وحقق لواشنطن الكثير مما كانت تطلبه من شركائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، خصوصاً زيادة الإنفاق الدفاعي. لكن الحرب بين إسرائيل و«حماس» أدت إلى عودة الانقسامات بين أطراف المعسكر الغربي.

فبعدما كان الغرب موحداً في إدانة هجوم «حماس» على مستوطنات غلاف غزة وفي دعم موقف إسرائيل من ضرورة القضاء على الحركة، جعلت قساوة القصف الإسرائيلي والمآسي التي يسببها للفلسطينيين الرأي العام العالمي يعترض ويرفض... وهذا يرغم الحكومات على أن تحسب ألف حساب لدى اتخاذها مواقف من الصراع، خصوصاً في الدول التي تشهد انتخابات رئاسية أو برلمانية أو حتى محلية على مستوى المناطق.

واللافت أن الانقسامات لا تقتصر على الرأي العام وفئات المجتمع، بل تصل إلى أجهزة الدول والسلطات، كما تحدثت وتتحدث تقارير إعلامية عن استياء واسع بين عدد ليس بقليل من المسؤولين الأميركيين من موقف البيت الأبيض المؤيد تأييداً مطلقاً لإسرائيل.

المهم أنه في ظل مشاهد الدماء والدمار المروّعة في غزة، تراجعت الحرب في أوكرانيا في سلّم الاولويات، وإن تكن إدارة الرئيس جو بايدن تكرر التأكيد أنها ستواصل تقديم الدعم لكل من إسرائيل وأوكرانيا. ولكن إلى متى يمكن أن تظل واشنطن منخرطة بشكل كامل في صراعين كبيرين؟

هنا تبدو آمال موسكو في أن يتعب الغرب في نهاية المطاف من تقديم الدعم المفتوح والمكلف لكييف واقعية بقوة الآن، بعدما وصفها كثيرون قبل حرب غزة بأنها أضغاث أحلام. ويعتبر محللون غربيون يكتبون في وسائل إعلامية مختلفة، أن بوتين يدخل عام 2024 الذي سيشهد إعادة انتخابه رئيساً في مارس (آذار)، مرتاحاً إلى تداعي الموقف الغربي، بل إلى بداية انهيار منظومة العلاقات الغربية التي تمسك بمقودها واشنطن.

يسأل الكاتب والمحلل الروسي نيكيتا سماغين من « مجلس الشؤون الدولية الروسي» في موسكو: كيف للرأي العام الغربي أن يتقبل انتقاد الولايات المتحدة لروسيا كلما سقط مدنيون أبرياء في أوكرانيا، فيما تلتزم الصمت عندما تفعل حليفتها إسرائيل الأمر نفسه على نطاق أوسع بكثير في غزة؟

حتى الرئيس الأوكراني نفسه لم يسلم من الحرج في اتخاذ موقف من حرب غزة. ولاحظ محللو « معهد الولايات المتحدة للسلام» - المؤسسة التي أنشأها الكونغرس عام 1984 – أن فولوديمير زيلينسكي انتظر أسبوعاً قبل إصدار بيان أكد فيه أهمية منع وقوع إصابات في صفوف المدنيين. وأضاف موقع المعهد: «من الواضح أن زيلينسكي يريد أن ينحاز هو وحكومته إلى موقف الولايات المتحدة الداعم لإسرائيل، لكنه في الوقت نفسه يريد تجنب تنفير اللاعبين الرئيسيين في العالم العربي».

ولفت محللو المعهد إلى أن بوتين لم يُدن على الفور الهجوم الذي شنته «حماس» ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر، «بل وصفه بأنه نتيجة لسياسة الولايات المتحدة الفاشلة في الشرق الأوسط. كما استخدمت روسيا مقعدها في مجلس الأمن الدولي لاقتراح قرارات تدين الهجمات ضد المدنيين دون ذكر حماس، واستخدمت حق النقض ضد قرار ترعاه الولايات المتحدة يعترف بحق جميع الدول في الدفاع عن النفس». وكل هذا يعني أن موسكو ترى في حرب غزة فرصة سانحة لتوجيه السهام إلى واشنطن.

دخان القصف الإسرائيلي يتصاعد في سماء غزة (رويترز)

 

نظام عالمي جديد؟

يشي المشهد العالمي بأن الصراع في الشرق الأوسط يشكل «الأزمة المثالية» بالنسبة إلى روسيا التي تحصد سلسلة من الفوائد السياسية. فبوتين وأركان سلطته يرون أن المواجهة بين إسرائيل و«حماس» لم تحجب الأضواء عن حرب أوكرانيا وتعزز آمال الكرملين بتصدّع الموقف الغربي منها فحسب، بل عززت أيضاً اعتقاد موسكو بأن نظام العلاقات الدولية الذي يقوم على قواعد وركائز أرساها الغرب آيل إلى الانهيار.

وإذا كانت روسيا تسعى مع حليفتها الصين إلى إنشاء نظام عالمي جديد يقوم على التعددية القطبية، فإن هذا يتطلب إنهاء النظام العالمي القائم. ومن شأن الصراع في الشرق الأوسط أن يعزز هذا الهدف - خصوصاً إذا اتسع - من خلال تهديد النفوذ الأميركي في المنطقة، وهذا طبعاً من المنظور الروسي.

... إذا سلمنا جدلاً بأن حرب غزة تقوّض النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط وفقاً لرأي موسكو، وتدحض المسوّغات القانونية والخُلُقية التي ساقها الغرب ضد الهجوم الروسي على أوكرانيا، وتمهّد لقيام نظام عالمي جديد (قد يحتاج ذلك إلى مزيد من الحروب والبؤس... في تايوان ربما؟)، يَثبت مجدداً أن حسابات الدول لا تأبه بالأفراد وآلامهم، وأن دماء الناس المطحونين بآلات الحروب العمياء، ليست سوى «أضرار جانبية» في صراعات المصالح والنفوذ.


مقالات ذات صلة

بايدن وماكرون يناقشان الصراعين في أوكرانيا والشرق الأوسط

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بقمة دول مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل (أ.ف.ب)

بايدن وماكرون يناقشان الصراعين في أوكرانيا والشرق الأوسط

قال البيت الأبيض إن الرئيس الأميركي جو بايدن ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون ناقشا الصراعين الدائرين في أوكرانيا والشرق الأوسط.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا صورة نشرتها مؤسسة أوكرانية تُظهر لحظة الهجوم بالصاروخ الباليستي الروسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية (أ.ف.ب) play-circle 01:12

أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي بعد استهدافها بصاروخ باليستي روسي

أعلن الرئيس الأوكراني، الجمعة، أن بلاده تطلب من حلفائها الغربيين تزويدها بأنظمة حديثة للدفاع الجوي، بعدما استهدفتها روسيا، هذا الأسبوع، بصاروخ باليستي فرط صوتي.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ.ب)

بوتين يأمر بـ«اختبارات» في الوضع القتالي للصاروخ «أوريشنيك»

أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإنتاج كمية كبيرة من الصاروخ الباليستي الجديد فرط الصوتي «أوريشنيك» ومواصلة اختباره في الأوضاع القتالية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا صاروخ «يارس» الباليستي الروسي خلال إطلاق تجريبي (لقطة من فيديو لوزارة الدفاع الروسية)

ماذا نعرف عن الصاروخ فرط الصوتي الروسي الذي أُطلق على أوكرانيا؟

أشاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الخميس، بإطلاق بلاده صاروخاً جديداً فرط صوتي على مصنع أوكراني. وهذا السلاح استخدمته روسيا للمرة الأولى.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا سكان أمام منزل متضرر بهجوم طائرة مسيّرة في منطقة أوديسا جنوب أوكرانيا (أ.ف.ب)

موسكو حذرت واشنطن قبل 30 دقيقة من إطلاق صاروخ «أوريشنيك» متوسط ​​المدى

قالت وزارة الدفاع الروسية إنها استخدمت صاروخاً «باليستياً» متوسط ​​المدى من طراز «أوريشنيك» لأول مرة في أعمال قتالية.

«الشرق الأوسط» (موسكو) «الشرق الأوسط» (كييف)

ميركل تعرب عن حزنها لعودة ترمب إلى الرئاسة الأميركية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث خلال اجتماع ثنائي مع المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في واتفورد ببريطانيا... 4 ديسمبر 2019 (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث خلال اجتماع ثنائي مع المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في واتفورد ببريطانيا... 4 ديسمبر 2019 (رويترز)
TT

ميركل تعرب عن حزنها لعودة ترمب إلى الرئاسة الأميركية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث خلال اجتماع ثنائي مع المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في واتفورد ببريطانيا... 4 ديسمبر 2019 (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث خلال اجتماع ثنائي مع المستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل على هامش قمة حلف شمال الأطلسي في واتفورد ببريطانيا... 4 ديسمبر 2019 (رويترز)

أعربت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل عن «حزنها» لعودة دونالد ترمب إلى السلطة وتذكرت أن كل اجتماع معه كان بمثابة «منافسة: أنت أو أنا».

وفي مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية الأسبوعية، نشرتها اليوم الجمعة، قالت ميركل إن ترمب «تحد للعالم، خاصة للتعددية».

وقالت: «في الحقيقة، الذي ينتظرنا الآن ليس سهلا»، لأن «أقوى اقتصاد في العالم يقف خلف هذا الرئيس»، حيث إن الدولار عملة مهيمنة، وفق ما نقلته وكالة «أسوشييتد برس».

وعملت ميركل مع أربعة رؤساء أميركيين عندما كانت تشغل منصب مستشار ألمانيا. وكانت في السلطة طوال ولاية ترمب الأولى، والتي كانت بسهولة أكثر فترة متوترة للعلاقات الألمانية الأمريكية خلال 16 عاما، قضتها في المنصب، والتي انتهت أواخر 2021.

وتذكرت ميركل لحظة «غريبة» عندما التقت ترمب للمرة الأولى، في البيت الأبيض خلال شهر مارس (آذار) 2017، وردد المصورون: «مصافحة»، وسألت ميركل ترمب بهدوء: «هل تريد أن نتصافح؟» ولكنه لم يرد وكان ينظر إلى الأمام وهو مشبك اليدين.

الرئيس الأميركي دونالد ترمب والمستشارة الألمانية آنذاك أنجيلا ميركل يحضران حلقة نقاشية في اليوم الثاني من قمة مجموعة العشرين في هامبورغ بألمانيا... 8 يوليو 2017 (أ.ف.ب)

ونقلت المجلة عن ميركل القول: «حاولت إقناعه بالمصافحة بناء على طلب من المصورين لأنني اعتقدت أنه ربما لم يلحظ أنهم يريدون التقاط مثل تلك الصورة... بالطبع، رفضه كان محسوبا».

ولكن الاثنان تصافحا في لقاءات أخرى خلال الزيارة.

ولدى سؤالها ما الذي يجب أن يعرفه أي مستشار ألماني بشأن التعامل مع ترمب، قالت ميركل إنه كان فضوليا للغاية وأراد معرفة التفاصيل، «ولكن فقط لقراءتها وإيجاد الحجج التي تقويه وتضعف الآخرين».

وأضافت: «كلما كان هناك أشخاص في الغرفة، زاد دافعه في أن يكون الفائز... لا يمكنك الدردشة معه. كان كل اجتماع بمثابة منافسة: أنت أو أنا».

وقالت ميركل إنها «حزينة» لفوز ترمب على كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني). وقالت: «لقد كانت خيبة أمل لي بالفعل لعدم فوز هيلاري كلينتون في 2016. كنت سأفضل نتيجة مختلفة».