في اليوم الرابع من «مهرجان البحر الأحمر» تتبدّى طموحات المؤسسات السينمائية السعودية وقدرتها على توظيف الإمكانيات الحالية للانتقال من النطاق المحلّي إلى العالمي.
يختصر المهرجان المسافة على نحو كبير. عوض أن تنتقل تلك المحاولات والطموحات إلى العالم ها هو العالم يأتي إليها. هنا في مهرجان «البحر الأحمر» سوق تجارية نشطة وعقود جاهزة تُبرم كل يوم وعروض متوالية يحضرها المعنيون باكتشاف ما يمكن أن يثري التوزيع الخارجي ويثير فضول المشاهدين حول العالم.
العيون مفتوحة بانتباه على ما يمكن لشركات التوزيع الأجنبية تحويله إلى منتج دولي. والاهتمام الأول منصبٌ على الأفلام السعودية التي تحوّلت إلى منجم ينهل منه الحاضرون ما استطاعوا.
أفق جديد
هذا لم يكن ليحدث من دون المهرجان نفسه، الذي يلعب في الأساس دور الحافز القوي للمؤسسات والشركات السعودية لتصبح شريكاً دولياً في الحركة التسويقية، ما يُتيح للسينما السعودية انتشاراً غير مسبوق.
لكن المستفيد الأول هو تلك المواهب التي يتيح لها المهرجان الشاشة الكبيرة لتقديم أعمالها، لأنها من دونه كان من الصعب على سينما وُلدت بهذا الحجم قبل أربع سنوات (وُلدت قبل ذلك بحجم مختلف)، أن تشق طريقها صوب أي عروض، محلية كانت أو عالمية. النقلة التي نمت بفضل طموحات وقرارات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، والتي حملت رؤى الانتقال بالمملكة، في كل صناعاتها وإنجازاتها إلى مرحلة جديدة بكل ما تحمله من متطلبات بلورة وتطوير المجتمع السعودي إلى أفق جديد لم يكن مطروقاً من قبل.
الأمر الآخر الذي يتيحه المهرجان الكبير هو توطيد العلاقة بين مختلف الفرقاء. بين المهرجان بصفته مؤسسة تسمح بكل تلك النشاطات الفنية والإعلامية، وبين المؤسسات الإنتاجية السعودية الطموحة وأيضاً بين حاجات السوق الدولية لعروض تعكس لا التقدم الصناعي للسينما السعودية فحسب، بل الموضوعات المحلية التي تفتح العين على ثراء المجتمع ككل. ومن ثمّ هناك ذلك الجيل الشاب الطامح اليوم أكثر مما كانت الظروف تسمح له سابقاً. دمٌ جديد سعودي وعربي ينضم إلى هذا التنوّع الكثيف ويزيده ثراءً بأعماله ويزداد في الوقت نفسه، خبرة.
نسيج عائلي
إذ تتوالى العروض بين المحلي والعربي والعالمي يُتاح للناقد الوقوف عند الجديد، مما يمكن لمخرجي الأفلام طرحه مما لم يُطرح من قبل. بالأمس كان هناك «أغنية الغراب»، و«سطّار»، و«بين الرمال»، و«عبد»، وقبله «بركة بن بركة»، و«وجدة»، والآن هناك «ناقة»، و«مندوب»، و«حوجن»، و«إلى ابني»، وأفلام أخرى تتوالى وكل واحد منها يترك بصمة مختلفة على الشاشة وما وراءها.
«إلى ابني» دراما عائلية تنطلق في لندن، ولكن بعد ربع ساعة من بدء الفيلم، تقع معظم المشاهد في منطقة أبها. يبدأ المخرج التونسي ظافر العابدين فيلمه بمشهد لزوجين سعيدين يحتفلان بعيد ميلاد الزوجة. في الطريق إلى سيارتهما يستوقفهما مشرد شاب ويطلب مالاً. يعطيه الزوج بعض ما لديه، لكن الشاب يستدير صوب الزوجة للمزيد. عندما يحاول الزوج دفعه بعيداً عنهما يستلّ سكيناً ويطعن الزوجة بها فتموت بين يدي الزوج.
أصابته الحادثة هذه بحزن وقنوط شديدين دفعاه للاستقالة من عمله في مؤسسة إعلانات والعودة إلى منزل العائلة مع ابنه آدم (7 سنوات). الجميع فرح به ما عدا والده (إبراهيم الحساوي)، الذي ما زال غاضباً منه لأنه هاجر إلى الغرب وتزوّج من أجنبية على عكس إرادته.
من هنا تنسج الدراما خيوطاً عاطفية مكتوبة بدراية حول وضع الزوج فيصل (يؤديه المخرج بنفسه)، وابنه في البيئة الجديدة. يُحسب للمخرج عدم تحويل المكان إلى دعاية سياحية بسبب جمال المنطقة المعروف، كما معالجة الهدف من الفيلم وهو إظهار ضرورة اللُحمة العائلية بعيداً عن امتلاك القرار في شخص واحد.
لكن يُحسب عليه أنه يتحوّل تدريجياً من طرح وضع مثير للاهتمام إلى سلسلة من المشاهد التي تتوالى من دون عمق بل على نحو أفقي. هناك كشف اللثام عن أن فيصل مُصاب بالسرطان، الذي وصل إلى مرحلة حرجة وحلول شهر رمضان الذي يلعب دوره في تذليل المواقف بين فيصل وأبيه. المشهد الذي يتعانق فيه الاثنان، هو المشهد الذي تعلم يقيناً، وقبل حدوثه بنحو ساعة، ما سيؤول إليه، والمشهد الذي سيصفّق له الجمهور الذي يعتبره، وعلى نحو مفهوم، الذروة العاطفية المنتظرة.
على نحو مثير للجدل، فإن سقوط فيصل على أرض المنزل ونقله إلى المستشفى هو الأداة التي حرّكت عاطفة أبيه، وأزالت غشاوة العلاقة بينه وبين باقي أفراد العائلة. كان المرء يتمنّى لو أن النقاش بينهما ساهم في هذا التحوّل عوض انتظار حدوث فاجعة تذلّل العقبات.
قانون ضد المرأة
«إن شاء الله ولد» لأمجد الرشيد فيلم أردني يسير في درب الدراما العائلية أيضاً. بطلته نوال (مُنى حوا) فقدت زوجها مؤخراً وتعيش مع ابنتها الصغيرة نورا (سلينا ربابعة)، وتنتقل ما بين البيت والمنزل الكبير حيث تعمل خادمة. الانتقال من وإلى منهك فزوجها الراحل لم يترك أي مدّخرات لها بل ترك ديوناً. وتكتشف نوال أنه توقف عن العمل منذ أربعة أشهر من دون أن يخبرها.
شقيق زوجها (هيثم عمري) يطالبها ببيع البيت لاسترداد دينه، وفي ذلك يستند إلى الفتوى التي تفرض على الزوجة التي لم تُنجب ولداً أن يشاركها أقارب الزوج في الإرث. لكن هذا البيت هو كل ما تملكه وهي لا تملكه قانونياً لأن الزوج كتبه باسمه قبل رحليه.
المسألة تتطور إلى خلاف بين فريقين كل منهما يحتاج إلى الفكاك من أزماته المادية. يعبّر المخرج أمجد الرشيد عن الوضع المتأزم بالحكاية التي تنتقد تحيّز القانون ضد المرأة من ناحية، وببعض المشاهد الرمزية مثل تلك الشاحنة التي امتلكها الزوج، لكنها لا تزال متوقفة في مكانها لأن الزوجة لا تعرف القيادة (ولا تريد بيعها أيضاً).
من الدلالات الأخرى ذلك الزحام الذي تعيشه الشوارع حيث الطرق تشبه مرآب سيارات كبير. على صعيد آخر، هناك المقارنة بين نوال وبين منزل العائلة الثرية حيث تعمل. وهناك مشاغل أخرى ومعاملة متوترة رغم التواصل بين نوال والزوجة التي تشكو من خيانة زوجها.
للأسف كل تلك الكتلة من المشاكل التي ترزح فوق كتفي نوال (والتي ستزول عندما تكتشف أنها حامل بذكر) مُعالجة بطموح محدود على الصعيد الفني. الحكاية مثيرة للاهتمام والتفاعل، لكن تلك المعالجة تمنحها شكلاً دراماً تلفزيونياً في الحس العام، كما في تأطير المشاهد وحدودها الإنتاجية.
رقص للتعبير عن حالات
الفيلم المغربي «كواليس» (المسابقة) لمخرجيه خليل بنكيران وعفاف بن محمود، يطرح نفسه بوصفه مزيجاً فنياً متكاملاً كتابة وإخراجاً، وعلى نحو يشمل عناصر فنية أخرى وفي مقدّمتها فن الرقص التعبيري.
يبدأ، في الواقع، بفصل من مشاهد استعراض فرقة رقص حديث، تؤديه فرقة متكاملة، يستمر نحو عشر دقائق ومن دون تمهيد يدلّ على ما إذا الفيلم بأسره استعراضي على هذا النحو أم لا، وإذا ما كان سيستمر من دون حوار وبالموسيقى وحدها. ينفّذ المخرجان الفصل بمشاهد تنتقل تدريجياً من التعريف بالمكان العام إلى جموع الراقصين معاً ومن ثم إلى أفراد يؤدّون منفردين بعض تلك النُمَر الاستعراضية. عند هذا الحد ندرك أن الاستعراض الماثل هو مجرد تدريبات ولو إن ذلك لن يكشف عما سيقع لاحقاً عندما تقرر الفرقة القيام برحلتها التي كانت قررتها سابقاً رغم إصابة عايدة (عفاف بن محمود نفسها) برضوض حين يدفعها شريكها في الاستعراض (سيدي العربي الشرقاوي)، من دون قصد إلى الأرض. تصرّ على ركوب الحافلة التي ستقلّ الجميع إلى وجهتهم الأخيرة في منطقة بعيدة من البلاد.
تتوقف الحافلة في قلب الليل بعد انفجار إحدى عجلاتها. المنطقة مقطوعة والطريق الجبلية معزولة. ليس هناك من تفسير لمَ لم يحتفظ سائق الحافلة بعجلة احتياطية يستخدمها، لكن الناتج هو بدء أفراد الفرقة (نحو 10 أفراد بينهم الممثل الفلسطيني صالح بكري) المشي في قلب الليل صوب ما يعتقدون أنه البلدة القريبة.
الرحلة طويلة تصيب الجميع بالإرهاق. هناك الكثير من المناجاة في هذا المشوار الطويل. صحيح أن الفيلم يوفر حبكة يرغب المُشاهد في متابعتها، لكن الأحداث التي تقع خلال رحلة السير على الأقدام (ومنها ظهور قردة تثير الخوف في أفراد الفرقة)، متباعدة يقضيها الجميع في حوارات متواصلة مع بعض المشاهد الراقصة. الغاية المثلى هي جمالية مع تمرير حبكة من الأزمات الفردية والجماعية. كل ذلك منفّذ جيداً على نحو عام. هناك مواقف عاطفية ولو مبتورة، لكنها تدخل في صميم التركيبة الحدثية. المخرجان يدركان السبب الذي من أجله يحققان الفيلم.
الغاية هي إظهار ما قد يحدث في «كواليس» فرقة مسرحية من تجاذب علاقات، وطرح نقاشات، وتصوير وجوه وأجساد متعبة وقلقة. ما كان الفيلم بحاجة إلى بطانة سميكة تضيف إلى كل ذلك مواقف أكثر تنوّعاً وحدّة. غير ذلك، هو مجرد فيلم يحمل قصّة جديدها أنها تدور حول فرقة استعراضية في ورطة. بالتالي، كان يحتاج إلى عين ثالثة خلال كتابة السيناريو، ربما لإضافة ما يلزم.