شخصيات في علاقات ملتبسة مع فكرة الغياب... والموت

أحمد إبراهيم الشريف في مجموعته القصصية «زغرودة تليق بجنازة»

شخصيات في علاقات ملتبسة مع فكرة الغياب... والموت
TT

شخصيات في علاقات ملتبسة مع فكرة الغياب... والموت

شخصيات في علاقات ملتبسة مع فكرة الغياب... والموت

في المجموعة القصصية «زغرودة تليق بجنازة» للكاتب والروائي المصري أحمد إبراهيم الشريف، يُحكم الموت قبضته بتراوحاته ومراوغاته المفاجئة حد الصدمة والجنون، والساخرة حتى البكاء، وذلك في فضاء تسكنه المفارقة كمكون رئيسي للسرد، بداية من عنوان المجموعة الذي جعل من رنّة الزغرودة المعروفة بمُصاحبتها للفرح ظلاً للقبور.

صدر الكتاب أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ويضم 100 حكاية تتسم جميعاً بوِحدة نسبية من الطول، تبدو كهيكل فني للعمل يعتمد التكثيف الدلالي والإيقاع السردي المُناوِر.

في قصة «فضيحة» يُقرر البطل بكل وعي أن يهوي من الطابق العاشر لينهي حياته، وفي المسافة من الطابق العاشر للأرض، يبدأ في مراجعة قراره، ويتمنى لو يتعثر بحبل غسيل أو زينة رمضانية منسية ليتشبث بها قبل فوات الأوان، وفي تلك المسافة الزمنية السوريالية، يستدعي صوت أمه التي ستلومه على اختياره طريقة موت بفضيحة سيشهد عليها الجيران، تماماً كما اختارت عمته أن تموت بفضيحة عندما أشعلت في نفسها النيران وركضت في الطريق، في مقابل والده الذي آثر الموت في هدوء وكتمان بحبوب منومة قبل خلوده للنوم، لتبدو قرارات إنهاء الحياة وكأنها ميراث عائلي محتوم في دوائر مُغلقة، ويبدو الموت مادة حكائية قابلة للتشكيل.

استلهام الموروث الشعبي

تدور أجواء المجموعة القصصية في فضاء القرية، بتقاليدها وفقرها، ونُواح نسائها، والانتظار الذي لا تنقطع أوصاله على أرصفة القطارات، فبطل «قطار الفجر» لا تُغادره ذكرى ذلك اليوم الذي تاه فيه وهو طفل من أمه في محطة قطار، يظل بعد سنوات طويلة مُتشبثاً ببيته القديم الذي يطل على سكة حديد القطار، رغم ما صار عليه البيت من هلاك جعله كلما مرّ قطار من أمامه يرتج، يرفض البطل أن يغادر البيت المُتهالك، ويُطل كل مرة من شرفته مع «رجّة» قطار جديد، وكأنه يبحث عن وجه أمه الذي غاب معه ذات يوم.

أما بطل قصة «لا قطارات للموتى» فيظل مُرابضاً على رصيف محطة أسيوط بصعيد مصر لأيام، في انتظار عودة شقيقه، فأمه المُنتحبة حذرته من العودة بدونه. يتعاطف معه العابرون ويسألونه عن محطة القطار التي أخبره شقيقه أنه سيركب منها، ولكننا نعلم أنه ينتظر جُثمانه الذي وعدته الحكومة أن يصل لقريتهم، فيرحل بعد أن تأكد من أن «الميتين مش بيجوا في القطارات».

وتطرح المجموعة التباس علاقة الأبطال بفكرة الغياب، والاختفاء، والموت، فالموت محسوس الخطوات، ومرئي، تشم نذيره نساء القرية، بل يتحاورن معه كأنه معرفة قديمة، ففي إحدى قصص المجموعة يُقسم البطل أن أمه رأت منذ دقائق ملاك الموت بكامل هيبته يمر أمام بيتهم، وأنها سألته: «رايح فين بس على الصبح؟»، فأجابها: «خليكِ في حالك»، وبعد مرور وقت بسيط، سمعوا عويل موت صادراً على بعد خمسة بيوت منهم.

يبدو هذا الحدس غير بعيد عن الموروث الشعبي القروي الضارب في ترقب الموت، والإيمان بالماورائيات والسِحر و«العفاريت»، فالأطفال يترصدون رائحة الموت بعد موت أحد أبناء القرية، ويُطاردونه بالعصي والحجارة خشية أن يدخل بيوتهم ويستولي على أحد أفرادهم في طريقه، وأحد الأبطال يمر بجوار نخلتين يؤمن أهل القرية أن عفريتاً يسكنهما، فيمر بجوارها ويتحصن بترديد سورة «الإخلاص»، لكنه يقع في شرك الفضول، فيطلب من العفريت أن يُظهر له وجهه.

وتهيمن السردية الدينية في المجموعة على زمن القصص وأبطالها، ما بين تلقين الشهادة لمن يستقبل الموت، والسعي والذِكر وراء النعوش، كما أن الأبطال ينسبون الأحداث بتقويم رفع الآذان والصلوات: «وصل النعش ومؤذن جامع الشيخ سلمان ينادي لصلاة المغرب»، فحركة الزمن محدودة بحدود غيطان الذرة وجريد النخيل، التي يبدأ يومها بمطلع الفجر، ليسود الظلام والخوف من بعد صلاة العشاء «في الصباح خرج مرعي من البيت يضحك ويمزح، وعاد بعد آذان العشاء جثة مثقوبة الصدر».

وتبدو النساء في المجموعة وقد جمع بينهن قدر الفراق، والقهر الذي يسلبهن أزواجهن وأبناءهن قتلاً بدافع الثأر، أو بسبب التباري على إنجاب الذكور، فبطلة إحدى القصص «فهيمة حسنين» تُردد عديدها مع مطلع كل صباح منذ قتلوا ابنها، ولم تعد تُميّز من يأتِ لمواساتها بعد أن ابيضت عيناها من البكاء، و«حمدية» تقص جزءاً من شعرها كل يوم، وتضع القصاصات في جلباب زوجها الذي مات مقتولاً على يد ابن أخيه، ثم «فوزية» التي صارت امرأة بروح غراب، يخشى مَن حولها الاقتراب ولو خطوة من مُحيطها، بعد أن صارت نذير شؤم، وتردِّد أن من يقترب من نحيبها تصيبه لعنة، وذلك بعد أن تزوج زوجها بأخرى حتى تُنجب له الولد. وفي ذات صباح استيقظت القرية لتفاجأ باختفاء صوت فوزية وكأنها داهمها الخرس، فعلموا حينها أن زوجها المُفارق أنجب الولد، فدعوا لها بالصبر، وكفوّا عنها لقب روح الغراب.

تصطبغ أسماء الأبطال والبطلات في المجموعة بنكهة محلية قروية خالصة، بما في ذلك نسب الأبناء الذكور لأمهاتهم في زمن الموت، وإطلاق الدعاء وتوسل الرحمة، كما تطرح المجموعة سؤالاً يبدو وكأنه الحقيقة الغائبة وراء جرائم مسكوت عنها، وضحايا تائهين، وافتقاد سلطة المجتمع وعقابه، يختلط السؤال بالمرويّات الشفاهية، فيما يبدو الموت هو المُمسك بخيوط السرد، والمُحيط بأسرار من ذهبوا في أحشائه، كما يظهر في قصة «نهاية»، في إيقاع مثقل بالشجن والأسى: في الطريق إلى قبرها، يقول أهل زوجها: أشعلت النار في نفسها، ويصرخ أهلها: أحرقوها بعدما أوثقوها في سريرها، وتُسجل الوثائق الرسمية: سقطت لمبة جاز فأنهت كل شيء، ويهمس الناس: نهاية متوقعة.


مقالات ذات صلة

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

ثقافة وفنون محمود الرحبي

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون زهرة دوغان - مدينة نصيبين

أهمية القانون في دعم اقتصاد الفن واستثماره

تأتي علاقة الفن بالقانون من عدة جوانب، فيمكن أن يكون موضوعاً يجري التعبير عنه، أو عن المفاهيم والحالات الإنسانية المرتبطة به، كالعدالة والمساواة والبراءة.

د. جواهر بن الأمير
ثقافة وفنون جيمس بالدوين

في مئويته... بالدوين لا يزال الضحيّة والشاهد

يضع كبار نقّاد الثقافة الأميركية في القرن العشرين تأثير مجمل أعمال الصحافيّ الأفروأميركي جيمس بالدوين على الحياة الثقافيّة في الولايات المتحدة في مقام «المذهل».

ندى حطيط
ثقافة وفنون «طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً

د. رشيد العناني

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.