خيرت فيلدرز... يفاقم هموم أوروبا إثر «اختراق» حزبه المتطرف في هولندا

دول القارة قلقة من تأقلم ناخبيها مع حكم غلاة اليمين

خيرت فيلدرز... يفاقم هموم أوروبا إثر «اختراق» حزبه المتطرف في هولندا
TT

خيرت فيلدرز... يفاقم هموم أوروبا إثر «اختراق» حزبه المتطرف في هولندا

خيرت فيلدرز... يفاقم هموم أوروبا إثر «اختراق» حزبه المتطرف في هولندا

قد يكون النائب الهولندي خيرت فيلدرز من أكثر الوجوه السياسية شهرة في أوروبا منذ عقود، رغم أنه لم يتولَّ مناصب رسمية حتى الآن. شهرة الرجل نابعة من أفكاره اليمينية الشديدة التطرف، وكرهه المعلن للإسلام والمسلمين. ومع أن فيلدرز حاضر على الساحة السياسية في أوروبا منذ عام 1998 عندما دخل البرلمان للمرة الأولى، بالكاد نُظر إليه - قبل الآن - على أنه لاعب سياسي قوي قادر على الوصول للسلطة وحكم هولندا. ولذا شكل فوز حزبه «الحرية» بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية، حصد فيها 37 مقعداً من أصل 150 (أي ربع مقاعد البرلمان) مفاجأة كبيرة وصدمة خاصة للمسلمين في هولندا الذين بدأوا فعلاً يخشون على مستقبلهم هناك. ولكن، فوز حزب فيلدرز في الانتخابات الأخيرة لا يعني أنه سيصبح تلقائياً رئيس الحكومة المقبلة. ذلك أنه، في غياب الغالبية المطلقة، سيكون مُجبراً على إقناع أحزاب أخرى بالمشاركة معه في حكومة يرأسها هو، ما قد يكون مهمة صعبة. ولكن الثابت الآن هو استحالة تجاهل قوة هذا الحزب، ولا المليوني ونصف المليون شخص تقريباً الذين صوتوا له رغم أفكاره الشديدة التطرّف حول المسلمين والمهاجرين والاتحاد الأوروبي وغيرها الكثير. أمر آخر، لا يخلو من الخطورة، هو أن إنجاز متطرفي هولندا أعطى أملاً جديداً للأحزاب الأخرى الشعبوية واليمينية المتطرفة في أوروبا التي بدأت صعودها أصلاً في السنوات الماضية، ووصل بعضها إلى السلطة مثل حزب رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني، والحزب اليميني المتطرف في فنلندا الذي بات جزءاً من الحكومة الائتلافية. ذلك أنه في فرنسا يتقدم اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبين في استطلاعات الرأي باعتباره أكبر حزب في البلاد. وفي ألمانيا يصعد حزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف بوتيرة مقلقة في بلد تعهدت كل الأحزاب الأساسية فيه بألا تشاركه الحكم. ولكن الكثير قد يتغير حتى موعد الانتخابات المقبلة في عام 2025، خاصة في حال نجح فيلدرز بإقناع أحزاب هولندية وسطية بالمشاركة معه في حكومة ائتلافية.

كرّر السياسي الهولندي اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، خلال حملته الانتخابية الأخيرة، الكلام عن الخطط التي اعتمدها ويريد تطبيقها في حال وصوله للسلطة. ووضع على رأس تلك الخطط حظر القرآن والحجاب في الأبنية الرسمية، وإقفال المساجد والمدارس الدينية المسلمة. وللعلم، تتماشى هذه الأفكار مع ما عُرف به فعلاً هذا السياسي المتطرف المعادي للإسلام والمسلمين منذ بداية صعوده؛ إذ سبق له أن وصف المواطنين الهولنديين المتحدرين من أصول مغاربية بأنهم «حثالة». وفي عام 2004 تسبّب بجدل كبير عندما سأل المتجمهرين في أحد التجمعات الانتخابية: «هل تريدون مغاربة أقل في هولندا؟»، فردّوا: «نعم ...نعم...»، وعلى الفور أعلن وهو يبتسم بأنه يستطيع أن يفعل ذلك. وفي حينه، حوكم فيلدرز بسبب تلك التصريحات التي اعتبرت تحريضاً على الكراهية والتمييز ضد المغاربة، وأدين بغرامة مالية مقدارها 5 آلاف يورو.

خلفية العداء

يدّعي فيلدرز أن أفكاره المعادية للإسلام ترسّخت بعد قتل المخرج الهولندي تيو فان كوخ عام 2004 على يد شاب هولندي من أصل مغربي بعد إخراج فان كوخ فيلم «الخضوع» للكاتبة الهولندية الصومالية المعادية للمسلمين أعيان حرسي علي، الذي يصوّر الإسلام بصورة سلبية للغاية. ثم في العام نفسه أسس فيلدرز حزبه «الحرية» في أعقاب انفصال عن حزب «الشعب للحرية والديمقراطية» اليميني المعتدل الذي ينتمي إليه رئيس الحكومة الهولندي الحالي مارك روته.

ما يستحق الذكر أن فيلدرز امتهن لفترة التأمين الصحي، كما درس لنيل شهادات في القانون من جامعة هولندا المفتوحة، قبل أن يتفرّغ للسياسة. ولقد التحق بصفوف حزب روته منذ عام 1989، وانطلق منه في حياته السياسية. بيد أنه منذ ذلك الحين، عُرف داخل الحزب بأفكاره المتطرّفة، وبصفة خاصة تجاه المسلمين.

بعدها، برز الاختلاف الكبير بين فيلدرز وأعضاء الحزب الآخرين في أعقاب تعيينه عام 2002 ناطقاً باسم الكتلة البرلمانية لحزبه. وحقاً، تسبّب العديد من تصريحاته المتطرفة ضد الإسلام والمسلمين، آنذاك، بتوتر شديد داخل الكتلة البرلمانية، ويضاف إلى ذلك، أنه كان غالباً ما يتكلّم في مواضيع خارج الخطوط الأساسية لسياسة الحزب.

غير أن «القشة التي قصمت ظهر البعير» تمثّلت في رفض فيلدرز العنيد تأييد موقف حزبه من بدء مفاوضات قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. هذا، كانت نقطة الخلاف الحاسمة والأخيرة التي أدت إلى قراره الانفصال عن الحزب وتأسيسه «حزب الحرية». وهنا تجدر الإشارة، إلى أن السبب الأبرز لمعارضة فيلدرز الشديدة القبول بإطلاق مفاوضات الانضمام مع تركيا كون الأخيرة «دولة مسلمة»، وهي بالتالي - وفق قناعاته - «لا تنتمي إلى العائلة الأوروبية» وقيَمها وثقافتها.

كاثوليكي العائلة والنشأة

فيلدرز نفسه ولد لعائلة كاثوليكية، هو ابنها الأصغر وله 3 أخوة آخرين، إلا أنه يزعم حالياً أنه لا ينتمي لأي ديانة على الرغم من أنه يعتبر أن المسيحيين هم «حلفاء» له. واللافت أن الرجل الذي تحول إلى أحد أهم الرموز المعادية للإسلام في أوروبا وأبعد، هو نفسه يتحدّر جزئياً من عائلة ذات أصول إندونيسية مسلمة يحاول إخفاءها... ونادراً ما يتطرّق إليها.

ذلك أن جدّته لوالدته إندونيسية تزوّجت والده الهولندي أيام حقبة الاستعمار الهولندي على إندونيسيا، عندما كان يعمل في تلك البلاد التي كانت تُعرف بـ«جزر الهند الشرقية الهولندية»، وذلك قبل أن تتحوّل إلى جمهورية إندونيسيا بعد الاستقلال عن هولندا عام 1949 بقيادة أحمد سوكارنو.

وفي عام 2009، نشرت مجلة «أمستردام الخضراء» تحقيقاً مفصلاً عن فيلدرز نبشت فيه إرثه العائلي، مستندة إلى وثائق في «الأرشيف الوطني» أظهرت تفاصيل حول جده لوالدته يوهان أوردينغ الذي كان يعمل موظفاً حكومياً تابعاً لسلطة «جزر الهند الشرقية الهولندية»، ونجح هناك بكسب أموال من أعمال كان يقوم بها في المستعمرة الهولندية السابقة. وهناك أيضاً، تعرف على زوجته الإندونيسية جوهانا التي أنجب منها 7 أولاد بينهم والدة فيلدرز، ولدوا جميعهم في جزيرة جاوة، كبرى الجزر الإندونيسية من حيث تعداد السكان، وفيها العاصمة جاكارتا.

وبحسب المجلة، طُرد جد فيلدرز من وظيفته ومنع من العودة إلى جاوة عام 1934 عندما كان في إجازة في الخارج بعدما تبيّن أنه قد أفلس. وهكذا، حُرم الرجل من معاشه التقاعدي، واضطر على الأثر للانتقال مع زوجته - التي لم تكن تتكلم اللغة الهولندية - وعائلتهما للعيش في منزل صغير، وفق المجلة، في هولندا مع 7 أطفال، تاركين وراءهم منزلاً كبيراً وخدماً وحياة رفاهية ما عادت متوافرة لهم.

وتروي مجلة «أمستردام الخضراء» في تحقيقها أن العائلة مرّت بأيام شديدة الصعوبة، وعانت من الفقر الشديد. وأكملت لتشير إلى أن أوردينغ نجح فيما بعد بإعادة بناء حياته العملية بعدما وجد وظيفة له حارسَ سجن. ومن ثم، استقر مع عائلته في مدينة فينلو الصغيرة، بجنوب شرقي هولندا قرب الحدود الألمانية، وهي المدينة حيث ولد خيرت عام 1962 وفيها نشأ. ولقد نسبت الصحيفة إلى خيرت فيلدرز نفسه القول إن جدّيه كانا يعيشان على بعد نصف كيلومتر من منزله، وأنه كان غالباً ما يزورهما. وفي حين توفي أوردينغ عندما كان خيرت في الثامنة عشرة من عمره، توفيت زوجته بعده بست سنوات.

مرارة التجربة وأزمة الهوية

بناءً على ما سبق، استنتجت «أمستردام الخضراء» أن إبعاد عائلة فيلدرز عن إندونيسيا، وما تعرّض له أفرادها وكثيرون غيرهم من معاملة مشابهة بعد استقلال المستعمرة السابقة ذات الغالبية الإسلامية الكبيرة عن هولندا، ترك الكثير من الاستياء لدى سكانها السابقين من الهولنديين... الذين خسروا بعد أفول نجم الاستعمار كل شيء، ولم يعد بإمكانهم العودة إلى ديارهم.

أيضاً، تتطرّق المجلة المذكورة إلى «تيار سياسي» نشأ في هولندا منذ ذلك الحين، في بداية الخمسينات، يضم أولئك المستوطنين المستائين من إقصائهم مع العلم أن هولندا لم تسهّل عودة كثيرين منهم إليها؛ لأنها لم تعتبرهم «هولنديين» لكونهم «شرقيي الهوى». وفي المقابل، لم تعتبرهم إندونيسيا من جهتها «إندونيسيين». ومن ثم، تشير المجلة إلى أن كثرة من هؤلاء انتهى بهم الأمر مهاجرين إلى الولايات المتحدة أو كندا أو أستراليا بسبب رفض كل من هولندا وإندونيسيا قبولهم مواطنين فيها. وفي هذا السياق، ترى المجلة الهولندية أن أفكار فيلدرز «تتماشى مع الخطاب الاستعماري والأفكار المحافظة النابعة من تلك الحقبة، التي تأثر بها على ما يبدو، بسبب ما عاناه جدّاه».

من جانب آخر، نقلت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية عن المؤرخ والباحث الهولندي إيان بوروما قوله، إن «بعض الهولنديين المتحدّرين من أصول إندونيسية يحاولون التعويض عن إرثهم المختلط بأن يكونوا هولنديين أكثر من الهولنديين»، وأن البعض الآخر «يظهر ازدراءً كبيراً للإسلام وهو ما كان يمارسه المستعمرون الهولنديون في مستعمرتهم الآسيوية السابقة».

وقبل سنوات كتبت مجلة «نيوزويك» الأميركية قصة عن خيرت فيلدرز تناولت فيها إرثه الإندونيسي، ونقلت عن عالمة الأنثروبولوجيا الهولندية ليزي فان لوفن - التي تتحدر بدورها من إرث إندونيسي هولندي مختلط - تفاصيل حول بحث أجرته وعثرت فيه على إرث فيلدرز العائلي المختلط. وكما تقول فان لوفن إن كثيرين من جيل والدة فيلدرز ووالدتها يختزنون غضباً ضد المسلمين الإندونيسيين «على طردهم إياهم من بلدهم، وأيضاً لعجزهم هم عن العودة، وما تبع ذلك من فقر عاشوه بعدما اضطروا للعيش في هولندا». وهذا الأمر تفسره فان لوفن على أنه «محرّك أساسي» خلف كراهية فيلدرز للمسلمين. ثم تفسّر كذلك تسريحة شعره وصبغته الشقراء دائماً بأن غايته منهما إخفاء معالمه الإندونيسية التي قد تظهر في شعره الطبيعي الأسود اللون الذي كانت جذوره تظهر عندما كان أصغر سناً قبل أن تتحول الآن بفعل الشيب إلى جذور بيضاء.

نفور من إندونيسيا وانجذاب لإسرائيل

في المقابل، ثمة من يقول إن «كراهية» خيرت فيلدرز للإسلام والمسلمين لا تقتصر على إرث استعمار إندونيسيا، بل يعود كذلك إلى فترة من مراهقته - عندما بلغ سن السابعة عشرة - أمضى خلالها سنة كاملة وهو يعمل في موشاف (تجمع قروي زراعي) إسرائيلي في الضفة الغربية. ثم، أمضى سنوات لاحقاً متنقلاً في الشرق الأوسط بين عدة دول عربية مثل الأردن وسوريا ومصر.

وفي أعقاب عودة فيلدرز - المتزوّج من سيدة من أصول مجرية يهودية - إلى هولندا من الشرق الأوسط، نقل عنه أنه حمل معه «شعوراً مميّزاً بالتضامن مع إسرائيل». وبالفعل، في الأسابيع الماضية، علّق على الحرب الحالية على قطاع غزة داعياً إلى نقل الفلسطينيين إلى الأردن، وتحويل الأردن إلى فلسطين بديلة، ما أثار سيلاً من الإدانات الواسعة والشديدة من كل من الأردن والسلطة الفلسطينية وجامعة الدول العربية.

ولكن، بغضّ النظر عن أسباب كراهية فيلدرز للإسلام، فإن مواقفه المحرّضة على الكراهية ضد الإسلام، والتي تمثلت خصوصاً في الفيلم الذي أنتجه عام 2008 باسم «فتنة»، جعلته شخصاً معزولاً يعيش تحت حماية أمنية دائمة. وفي الواقع، كان الرجل قد تعرّض عام 2004 لمحاولة اغتيال إلى جانب حليفته النائبة الصومالية أعيان حرسي علي. ويومذاك، حاول رجلان مسلحان بقنابل يدوية قتلهما داخل مبنى في مدينة لاهاي، ولكنه قبض عليهما ولم ينجحا في تنفيذ مأربهما. ومنذ ذلك الحين، يعيش فيلدرز بحماية دائمة ولا يتحرك من دون حراسة مشددة، بل إنه نادراً ما يغادر منزله باستثناء الانتقال للمشاركة في تجمعات انتخابية، وأيضاً، إلى مكتبه في البرلمان الذي يقع في زاوية معزولة يسهل مراقبتها وحمايتها. كذلك، لا يتحرك فيلدرز من دون سترة واقية من الرصاص.

مارك روته (رويترز)

تطرف حزب فيلدرز... عامل منفّر لمعظم شركاء الحكم المحتملين

> ذكر بول فيلدرز، الشقيق الأكبر للزعيم الهولندي اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، في مقابلة مع مجلة «دير شبيغل» الألمانية قبل سنوات، أن راديكالية شقيقه جاءت تدريجية.

وأوضح بول، الذي ينتقد شقيقه بشكل كبير بسبب تطرفه، أن عيش خيرت في موشاف إسرائيلي، حيث كان شاهداً على التوتر مع الفلسطينيين، ثم انتقاله إلى مدينة أوتريخت الهولندية؛ حيث انتقل أتراك ومغاربة بشكل متكاثر إلى منطقته عبر السنوات، من العوامل التي أسهمت بزيادة تطرفه. ثم أضاف أنه بعد «أحداث 11 سبتمبر (أيلول) واغتيال المخرج تيو فان غوخ بدأ أخوه يكسب صيتاً لنفسه على أنه معادٍ للإسلام ووجد أن هناك متلقين لذلك».

تيو فان غوخ (أ.ب)

من جهة أخرى، حتى قبل أن يصبح فيلدرز قريباً من المشاركة في الحكومة، كان شقيقه بول ينتقد دعواته لحظر القرآن وإقفال المدارس الإسلامية والمساجد. ولقد وصف تلك الدعوات في مقابلته مع «دير شبيغل» بأنها تشكّل خرقاً للدستور الهولندي، وبأن تطبيقها سيكون بحاجة لموافقة غرفتي البرلمان (السلطة التشريعية) وبغالبية كبيرة.

شعار «حزب الحرية»

ومن ثم، يتابع بول فيلدرز القول إنه «بسبب التركيبة السياسية لهولندا، فهو - أي شقيقه خيرت - لن ينجح أبداً في تحقيق ذلك». ويستنتج أنه إذا أراد أن يصبح رئيس حكومة سيكون عليه التفاوض مع عدد من الشركاء للدخول في حكومة ائتلافية أو تشكيل حكومة أقلية، ما يعني أنه «سيضطر إلى تقديم تنازلات وكسر الكثير من الوعود الانتخابية».

وحقاً، تبدو الكثير من أفكار فيلدرز عاملاً سياسياً سلبياً يبعد الأحزاب الأخرى عن التفكير في التحالف معه. ذلك أن أفكاره المتطرفة لا تتوقف فقط عند المسلمين بل تتخطاها إلى مسائل تتعلق بـ«اتفاقية شينغن»؛ حيث يريد - مثلاً - إعادة العمل بنظام تأشيرات العمل حتى للقادمين من داخل الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يخالف مبدأ «حرية التحرك» داخل دول الاتفاقية.

ثم إن أفكاره المتطرفة تمتد لتمسّ الاتحاد الأوروبي نفسه، إذ يريد طرح استفتاء على خروج هولندا منه أسوة ببريطانيا. وهو يرى الكثير من القوانين الأوروبية «مقيّدة» لهولندا؛ منها قوانين «التغير المناخي»، الذي لا يؤمن به، كما أنه يسعى إلى وقف الاستثمارات بالطاقة الخضراء الرفيقة بالبيئة وإعادة العمل بالفحم والغاز وغيرهما. بل أكثر من هذا، يؤيد فيلدرز بقوة حتى الانسحاب من «اتفاقية باريس للمناخ» التي كان قد انسحب منها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب. وطبعاً، من الخطط التي تكلّم عنها خلال حملته الانتخابية وخطّها في وثيقة نُشرت على صفحة الحزب وقف قبول اللاجئين، ووقف السماح بازدواجية الجنسية، وتجريد المدانين بجرائم منها وترحيلهم.

أما بالنسبة للحرب الأوكرانية، فيريد خيرت فيلدرز إنهاء الدعم العسكري لأوكرانيا، ووقف كل المساعدات الخارجية المتعلقة بالتنمية. وفيلدرز مثل معظم قيادات اليمين المتطرف في أوروبا يُعد اليوم مقرّباً من موسكو، ويبدي تحمساً لإعادة العلاقات معها كما كانت قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا. وهو غالباً ما يتكلم باستنكار عن وجود عن «فوبيا (رهاب) من روسيا» في أوروبا، ولذا فهو يدعو إلى إعادة علاقات الشراكة مع موسكو عوضاً عن العداوة.

كل هذه الأفكار، بلا شك، صعبة التقبل بالنسبة لأي حزب آخر قد يريد مشاركة اليمين الهولندي المتطرف في الحكومة العتيدة. ومع أن حزب رئيس الوزراء المودّع، مارك روته، نفسه حزب محافظ، وقد لا يعارض نقاطاً تتعلق بالهجرة والحد من المهاجرين واللاجئين، فإن النقاط الأخرى مثل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ومعاداة المسلمين، ستجد حتى أكثر الأحزاب المحافظة صعوبة في السير بها.

وفي أي حال، قد تستغرق عملية التشاور لتشكيل حكومة هولندية جديدة أشهراً طويلة. وكانت هولندا قد اضطرت للانتظار نحو السنة قبل تشكيل إحدى الحكومات، علماً بأنه لم يكن آنذاك حزب يميني متطرف «محور» المفاوضات.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».