شانتال أكرمان، المخرجة التي اعتدنا اعتبارها فرنسية، أخرجت 47 فيلما بأطوال مختلفة منذ أن اختارت السينما مجالاً تعبر من خلاله عن همومها الاجتماعية والثقافية سنة 1968 وحتى العام الحالي الذي هو آخر أعوام حياتها إذ ماتت عن 65 سنة في الرابع من الشهر الحالي.
حياتها لا تخلو من مناطق غرابة كما حال اهتماماتها وأشكالها التعبيرية في أفلامها. وُلدت في مدينة بروكسل (بلجيكا) وتعلّقت بالسينما تأثرًا بجان - لوك غودار وبطريقته في صياغة الفيلم المختلف حتى عن أترابه في سينما «الموجة الجديدة» التي وُلدت على صفحات مجلة «كاييه دو سينما» نظريًا وترعرعت عمليًا من عام 1959.
* أداء غير تمثيلي
بعض غرابة حياتها يعود إلى أنها لم تندمج تمامًا مع مجتمعها وبرهنت أفلامها التي أخرجتها عن هذا التباعد. أسلوبها يمكن وصفه بالتجريبي لكنه ليس تجريبيًا فوضويًا وليس تجريبيًا مثاليًا أو نموذجيًا. في الحقيقة، يمكن القول إن سينماها ليست تجريبية على نحو فعّال بالمقارنة مع ما هو متداول من مفهوم هذه السينما: أعمال حرّة التصرّف الشكلي وتستخدم التصوير والموضوع والمونتاج ليس تبعًا للمتوقع بل للمؤلّف ومع نبذ فكرة تقديم حكاية تُروى لأنها في الأساس ترفض الانضواء تحت شروط السرد الروائي ولو أنها، في الوقت ذاته، لا تنتمي إلى الفيلم التسجيلي.
لكن سينما أكرمان تحمل من تلك التجريبية الوجهة الطليعية. هي بدورها ليست محكومة بسرد متسلسل ولا برغبة إيضاح المفارقات عبر نقاط متوالية على نحو يربط بين نقاط الحدث أو الفكرة، بل متحررة في أكثر من جانب وفي مقدّمتها الولاء لسرد متواصل النبرة. بديلها تحبيذ سرد المشهد وليس الفيلم، والإيعاز بالفكرة وليس بالمضمون كله. لذلك فإن أعمالها تنضح بغموض الدوافع وغموض النتائج قدر الإمكان.
في الوقت ذاته نجد أفلامها، مثل «جين ديلمان» و«أخبار من الوطن» و«أنا، أنت، هو، هي» و«طوال الليل» وهي بعض أفلامها من السبعينات والثمانينات، تحتفي بالأداء غير التمثيلي. هناك ممثلون لكن ليس هناك تمثيل. حدث من دون دراما. «جين ديلمان» (1975) نفسه عبارة عن ثلاث ساعات من العرض يحتوي على وضع لأرملة نراها تحضّر الطعام. تتكلم. تتحرك في المطبخ وسواه ثم تستقبل رجلا تمارس معه الحب لقاء المال. في الوقت الذي على المشاهد أن يتمتع بصبر طويل وهو يشاهد عملاً يحتوي على بداية تستمر حتى النهاية من دون تطور درامي أو فني، فإن العمل بذاته تجسيد لمنوالها في باقي أعمالها قبله وبعده.
مثل أعمال أخرى لها من تلك الفترة، فإن بطلتها تعيش بحرية كاملة داخل بيتها والعالم الخارجي غائب. يستطيع المشاهد اعتبار أن حريّة المرأة، سواء أكان هذا الاعتبار مصيبًا أو مخطئًا، الكاملة هي في مكانها المحدود (المطبخ في حالات كثيرة) أما العالم الخارجي فهو عندما تخسر حريّتها. وفي هذا الصدد هناك الكثير مما يُقال لنا انتقادًا للعالم أكثر منه انتقادًا للمرأة.
* داخل البيت
والميزة الفنية الأبرز في أعمالها هي تلك النابعة من المساحة التي تفردها للموضوع، داخل البيت أو خارجه (لديها أفلام تسجيلية عن فنادق نزلت فيها) لكن هذه الميزة هي أكثر بروزًا في الأفلام التي تنص على مشاهد داخلية فقط حيث بطلاتها يتصرّفن ضمن هذه المساحة كونهن يدركن أنه العالم الخالي من المستوطنين الآخرين (إلا ما شاءت اختيارهم لدخوله).
حياة شانتال أكرمان لم تكن أقل غرابة مما يرد في هذا الفيلم الذي جمع لها إعجابًا كبيرًا بين نقاد السينما ومتذوقيها. لقد مارست أعمالاً كثيرة في حياتها لأجل أن تموّل أفلامها. المرأة في هذا الفيلم ليست هي تحديدًا، لكن هي إيحاء محتمل بما اضطرت لتقوم به لأجل إنتاجه. قبل ثلاث سنوات من تحقيقها له عملت بائعة تذاكر لصالة أفلام «بورنو» في نيويورك.
المنتجون الفرنسيون اكتشفوا مبكرين أن أفلامها لا تبيع. ومع أنها أفلام شبه بيتية الصنع وبالتالي قليلة التكاليف، إلا أن قلة التكلفة ليست كافية لكي يقف المنتجون صفًا طويلاً لعرض تمويلهم.
كونها ابنة ناجَين بولنديين من الهولوكوست طبع رؤيتها إلى حد بعيد ولو أن الفيلم الذي قررت على أثره أن تصبح مخرجة كان فيلم غودار الرائع «بييرو المجنون» (1965)، عبّرت عن شعورها كونها وليدة تاريخ عنيف من دون أن تتناول التجربة ذاتها بأعمال مباشرة. ما ساد أعمالها (الأولى على الأخص) تعاملها مع رؤية ذاتية لعالم خارج حدود البيت أو المكان لا تستحق أن تعيش فيه. تاريخ كابوسي يجهز على الحب بين الشخصيات التي تتناول المخرجة ملامح من سالف سنواتهم. هذا يتبدّى منذ فيلمها الأول «فجّر مدينتي» (1968) المصوّر بالأبيض والأسود. الكاميرا تصوّرها ترقص في مطبخها وتغني وتبدو لنا سعيدة كما لو أنها تبتهج لحدث سيقع. الحدث يأتي في نهاية الدقائق الثلاث عشر من الفيلم عندما تضع رأسها فوق موقد الغاز المشتعل. قطع لشاشة سوداء وانفجار كبير. ينتهي الفيلم.
ربما أكثر أفلامها اقترابًا من تجربة الهولوكوست كان فيلمها الأخير «هذا ليس فيلما بيتيًا» (No Home Movie) الذي أنجزته سنة 2014 (يعرض حاليًا في نيويورك) حيث جلست وأمها العجوز لتتحدث وإياها عن تجربتها الخاصّة.
هذا الفيلم لم يستقبل جيّدًا عندما عرضه مهرجان لوكارنو. المشكلة التي احتواها هي المشكلة الدائمة في معظم ما أنجبته من أفلام: عرض طويل الأمد بلا اعتراف بضرورة حياكة فنية تتجاوز الوضع الماثل في الصورة.
وفي الواقع أفلام أكرمان التي تم تقديرها من قِبل النقاد الأوروبيين ومن الذين يوافقونهم في الرأي والاتجاهات الفنية، ليست كلها مثيرة للاهتمام من زاوية سينمائية بحتة. هناك بالتأكيد ما يتابعه المشاهد لكن ليس ما يثيره بالضرورة. تأليف أهمية الفيلم تبعًا للنتيجة الكلية وليس لأن مشاهد الفيلم المتوالية مهمّة بحد ذاتها هو أكثر من مجرد وجهة نظر في الأسلوب. هي، بالتأكيد، تأخير الحكم للربع ساعة الأخيرة أو نحوها من بعد استيفاء التفاصيل المملّة بالكامل مع محطات قليلة من المستجدات طوال الوقت. هذا يتضح في «أخبار من الوطن» (1977) و«لقاء آنا» (1978) و«كل الليل» (1982) و«أمضت ساعات طويلة تحت أضواء الشمس» (1985) و«ليلة ويوم» (1991) من بين أخرى.
* سياقات
على ذلك، فإن أفلامها تؤلّف معًا سياقات مهمّة لهواة السينما بشكل عام. من بين هذه السياقات اهتمامها بالمرأة دون سواها إذ قدّمتها في معظم أفلامها كانعكاس للإنسان المتأزم وللمجتمع الذي يفرض على حياة «بطلتها» نوع ونوعية حياتها حيث هناك شعور بشيء مفقود وآخر بشيء لا يمكن أن يتبلور لأكثر مما يتيحه الفيلم وهو قليل.
ومن بينها أيضًا، أن أفلامها، على نحو عام، هي كناية عن جسم واحد من الأعمال تعددت تحت عناوين مختلفة وبقيت مضامينها واحدة. في هذا الشأن شانتال أكرمان ليست استثناء على الإطلاق فأجسام معظم أفلام ألفرد هيتشكوك وجان - لوك غودار وفرنسوا تروفو ومايكل أنجلو أنطونيوني وسواهم من الكبار واحدة، لكنها وردت تحت عناوين مختلفة.
السياق الثالث هو أن أعمالها دائمًا ما كانت، وبقيت، فردية ليس من حيث الاهتمام الذي دفع بالمخرجة لاختيار الموضوع واختيار كيفية التعبير عنه فقط، بل من حيث مجمل مكوّناته واهتماماته أيضًا. حتى أعمالها الأحدث، مثل «حماقة ألماير» (رواية جوزف كونراد الأولى) و«الحبيسة» عن نص لمارسل بروست، تحوّلت تبعًا لرؤيتها إلى أفلام ذات بؤرة فردية تخصها هي ولا تخص - بالضرورة - مؤلّفيها.
عندما سئلت ذات مرّة عن كيف أخرجت أحد أفلامها الأميركية (وهي صوّرت في نيويورك أكثر من فيلم) قالت: «صوّرت تبعًا لأنفاسي. حين اكتشفت أنني توقفت عن التنفس أدركت أن علي أن أغير المشهد». هذا بحد ذاته دليل على أنها ناوأت السينما في اتجاهاتها وأفردت لذاتها فيما حققته مساحة أكبر مما يمكن أن يهضمه كل متذوق أو أن يعتبره الجميع فنّا كبيرًا.
سينما شانتال أكرمان التي أخرجت أفلامها بأنفاسها
أفلامها لا تنضوي تحت شروط السرد الروائي ولكنها لا تنتمي إلى التسجيل أيضاً

شانتال أكرمان، من «جين ديلمان» أحد أفلام أكرمان الأولى
سينما شانتال أكرمان التي أخرجت أفلامها بأنفاسها

شانتال أكرمان، من «جين ديلمان» أحد أفلام أكرمان الأولى
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة