مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

حمدي الجزّار يقتفي أثرها في رواية «العروس»

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان
TT

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

مصائر حزينة وشخوص تراوح في المكان

تنطلق رواية «العروس» للروائي المصري حمدي الجزار من مكان افتراضي يحمل اسمها، هو عبارة عن مطعم وملهى ليلي فاخر بوسط العاصمة القاهرة، يرتاده الأثرياء وصفوة المجتمع، وفي ليلة رأس السنة، حيث يحتفل المطعم بمرور 71 عاماً على إنشائه.

تحت رذاذ تلك الليلة تتعدد صور وطبيعة الصراع في الرواية، وتنعكس على زمنيها العام والخاص، ما بين مرايا الماضي والحاضر، من خلال عين الراوي (الكاتب) السارد العليم والذي يجيد لعبة الوصل والقطع ما بين الشخوص والمكان. ففي ظلال هذه اللعبة يبدو الصراع طبقياً، يتمثل سيرة شرائح فقيرة ومهمشة من المجتمع وخطواتها المثقلة بمفارقات الحياة وعبث المصادفات، كما يبدو صراع بشر مع المكان الوعاء الحاضن لهم، يتأقلمون معه أحياناً، ويتمردون عليه إلى حد الفرار أحياناً أخرى؛ بحثاً عن وعاء أكثر اتساعاً وبريقاً، لكنهم مع ذلك يهرعون إليه كملاذ من تناقضات وتوحش فضائهم البراق. ومن ثم، تتعدد صور المكان في الرواية، فثمة مكان عابر طارد يمثله مطعم «العروس» تبدو الحياة بداخله مثقلة بخفتها ولهوها، ويبدو المطعم وكأنه قناع مراوغ لها، ووكرٌ للدسائس والمؤامرات وصراعات القوة والنفوذ، خارج جدرانه تصفو الحياة لنفسها، تغتسل من وحل الشهوات وأوهام الأماني اللزجة. في المقابل ثمة مكان أصيل مقيم، يشكل بؤرة البراءة والحنين الأول، يمثله «حي السيدة زينب» الذي ينتمي إليه أغلب الشخوص، ثم «نزلة السمان» أسفل منطقة الأهرامات بالجيزة.

وسط كل هذا، يبدو جوهر الصراع وكأنه صراع الكاتب نفسه مع عالمه الروائي، حيث يقتفي أثر شخوصه ومصائرهم، ويقطرها قطرة تلو أخرى في وعاء المكان. ما يكشف عن وعي ثاقب وعين حكاءة تتمتع ببصيرة سردية لها مذاقها الخاص، تعرف كيف تغرس الشخصية كنبتة في تربة المكان الطبيعي، ابن طفولتها وشهوتها البكر، وتتابعها بحنو وهي تنمو وتورق في ظلاله الدافئة، ثم تعيد رسمها من جديد في قماشة سردية كلاسيكية تتقلب فيها الشخوص ما بين صراعات الذات مع هواجسها وأحلامها وواقع المكان نفسه... فعلى سبيل المثال، تطالعنا شخصية إبراهيم مطر «النحات» المرموق، الذي يتردد على المطعم كعابر يقضي وقتاً برفقة حبيبته، لكنه يظل مشدوداً لمسقط رأسه، وتخبرنا الرواية بأنه وُلد في إحدى قرى «نزلة السمان» بالهرم، هناك أسس حياته في بيئة صالحة لعالمة الفني، عاش في كنفها طفولته، وتفتحت موهبته في فضاء الأهرامات إحدى عجائب الدنيا السبع وتمثال أبو الهول الشامخ، وما يحتويه المكان من آثار فرعونية، لا تزال محط أنظار العالم. وكذلك حبيبته الدكتورة نانيس والتي تتمتع بميزة أنها أحد الشخوص الخمسة الذين يملكون أسهماً في المطعم الفاخر. تعيش نانيس في حي جاردن سيتي الرومانسي الهادئ والذي يناسب مزاجها كأستاذة للموسيقى ويجدد شغفها بها وبألحان والدها الموسيقار الراحل التي تترد نغماتها الحانية الراقصة في أرجاء «العروس». أيضاً خالد عبد الباري «المتروديتيل»، أحد أبطال الرواية البارزين، والذي عرف «العروس» وهو طفل بصحبة والده «البارمان». يتمتع خالد بشخصية سمحة تمتزج فيها بداهة الفطرة وألفة الروح وبساطتها والتي تبدو انعكاساً لطبيعة حي السيدة زينب مسقط رأسه ومرتع صباه، بطيبة ناسه وروائحه الشعبية العريقة. تعكس شخصية خالد المكافح، الذي يعمل صباحاً في مركز الحضارة، ومساءً في المطعم، الضمير المخفي أو الغائب في تلافيف المكان وبريقه الزاعق. علاوة على أنه عاشق محب مخلص لزوجته سامية بشندي، رفيقة عمره وأم طفليه، رغم غيرتها الشديدة عليه والتي تكاد تصبح إدماناً ومرضاً.

هذه المقاربة الأولى تضعنا أمام الركيزة الأساس في هذه الرواية الصادرة حديثاً عن دار «ديوان»، بفصولها الاثنين والعشرين؛ وهي ما يمكن تسميته «المراوحة في المكان» فنحن أمام رواية شخوص تراوح في المكان، بعضها في القلب منه، وبعض الآخر في الهامش يتعلق بأهدابه من الخارج، متستراً بالتأقلم والخنوع، لكن عينه دائما مصوَّبةٌ للداخل، إلى حد التلصص. مثل كابتن «هراوي» رجل الأمن وموظف الاستقبال بالمطعم، فهو مجرد أداة لمراقبة الوافدين إليه، يتفحص ملامحهم وخطواتهم من خلال شاشة تليفزيونية كبيرة، يتسمر أمامها طيلة الوقت، ودائماً يتباهى بماضية كبطل سابق في كمال الأجسام، وأحد فتوات حي السيدة. أيضاً «شاهين» الشاب الأقصري الذي مسّته خرافة «عرق الصِّبا» التي روتها جدته، وأن من يحوز هذا العرق يتمتع بقوة خارقة، فينزل إلى قاع نهر النيل في فترة الجفاف، ويشرب من المياه المتناثرة في شقوق الطمي والطين ويرى النهر يشع ويتناثر في كفه كحبات اللؤلؤ. يتزوج شاهين، لكن لا ينجب، وبقوة اليأس يطلّق امرأته، يحررها منه، حتى تنعم بالأمومة من زوج آخر، ويغادر إلى القاهرة، وينتهي به الحال إلى مجرد بواب للعمارة الكائن بها المطعم.

تحت سقف «العروس» تتراءى شخصيات عدة، تتقلب في مرايا مصقولة بنزق الشهوة والجشع، وتتنوع أدوارها ما بين التواطؤ والغدر والخيانة، وبين الحرص على لقمة العيش بشرف وأمانة، شخوص شرهة ومآلات مصائر حزينة، تتسم خطواتها بالتوتر واللهاث عبر رقعة زمنية تتسع وتضيق في ثوب ليلة واحدة، وعلى مسرح مصادفة رخوة يتحول الخائن في ظلالها بطلاً وسيداً للمكان، بمنطق التحايل الذي يجيده ويروضه بمهارة لص، متخذاً منه قناعاً، ووسيلة للنفوذ والسيطرة على المكان والبطش بكل من يقف في طريقه، بلا مبالاة، أو مراعاة لعشرة أو ضمير... هكذا يطيح عمر عبد الظاهر الابن العاق لبائع الكيروسين المتجول بحي السيدة زينب كل من يقف في طريقه للاستحواذ على «العروس» والتحكم في كل صغيرة وكبيرة تخصه، يخون ويزوّر صكوك الأمانة التي حملها له وخصه بها الحاج مرزوق عشم الله، الرجل الورع التقي، أحد مشاهير حي السيدة زينب، الذي يحسن لفقرائها ومساكينها، ويدعوهم لوليمة عامرة كل أسبوع بقصره المنيف بحي المقطم، كما أنه الوحيد الباقي على قيد الحياة من ملاك «العروس»، أراد أن يزيح عن كاهله متاع الدنيا ويتفرغ للصلاة والعبادة. فيستدعي عمر عبد الظاهر الذي صنعه الحاج مرزوق وجعله «المدير المالي للعروس» وانتشله من وظيفته الفقيرة ومكتبه البائس للمحاسبة القانونية، ثم يمنحه وثيقة بموجبها يترك له مكانه، ليصبح رئيساً لمجلس إدارة العروس، ويضع رقم «صفر» أمام أسهم عمر فيه والتي اشتراها له بماله الخاص، ويذكّره بأن «من يحكم لا يملك».

يرفد هذه المراوحة للمكان «تقنية الوصف» إحدى ركائز معمارها الفني المجدول بنسيج معرفي وفني فائق. فنحن أمام كاتب وصّاف بامتياز، يعرف أسرار وجماليات هذه التقنية، وكيف تمنح السرد والحكي مساراً خاصاً، يجعله حياً ومفتوحاً على قوسي البدايات والنهايات. ثمة وصف لكل شيء، يستبطن العواطف والمشاعر والانفعالات الداخلية للشخوص، ويحلّق في فضائها، ويرصد أثر وانعكاس المكان عليها... وصف للثياب والشموم والروائح والعطور وأنواع الطعام، والطاولات والمفارش والكؤوس، ومقابض الأبواب والمناضد والحوائط، ورائحة الطقس... يتحرك الوصف كفعل معايشة، وتوثيق لنثريات المكان، ويلعب دوراً مهماً في الإيهام بالواقع من داخله وفي الخارج أيضاً، وتخيله بصوره متنوعة ومنسجمة سردياً مع تماثلات الزمن وطبقات الحكي، وبلغة قادرة على التشخيص والإيحاء، والتنقل بتلقائية من حيز الواقع المؤطر لبراح التخييل المفتوح على أفق أوسع. فالكاتب الراوي يتقمص الشخوص ويسبر أغوارها، وبذكاء أدبي مشرّب بمسحة شاعرية ينثر الكلام فوق شفاهها، وكأنه يتحاور معها أولاً قبل أن يقذف بها إلى القارئ.

يقول في صفحة (164) رابطاً ما بين النحت وأوتار الفرقة الموسيقية التي أنهت دورها وتتأهب لمغادرة مسرح العروس: «أغلــق الموســيقيون حقائبهم على كنوزهم الثمينة، وأخفوها عن العيون، كأنهــم يخفون عرائس ساحرة يجب سترها وراء حجب مصمتة، بعد أن فتنت الجميع. حملوا حقائبهم على صدورهم، وعلقوها على أكتافهم وظهورهم، وانحنوا مبتسمين تحية للجميع، وغادروا المسرح تاركين الخشبة في ضوء خافت، وكان النحات يحدق في المساحة الفارغة التي خلفوها وراءهم».

لكن الاستغراق في الوصف، لم ينج أحياناً من الحشو، وأصبح مجرد وظيفة تزينية لمفردات المكان.

يبقى من الأشياء المهمة في هذه الرواية أنها تنتصر للمرأة، وتبرز قوتها وصلابتها حتى في لحظات الضعف الإنساني النبيل، كمصدر قوة وطاقة للحياة، مثال «نانيس» القبطية التي تحب مطر «النحات» المسلم، و«سماهر» الراقصة التي تدافع عن كرامتها وشرف المهنة كراقصة فنانة تمتهن فناً حراً، تراه معجزة الجسد الإنساني... وغيرها من الشخوص التي ينحتها الكاتب بإزميل حكّاء ذي بصيرة خاصة، يعرف كيف تصبح الرواية أنشودة للجمال والحرية.


مقالات ذات صلة

أربعة أيام في محبة الشعر

ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية

«الشرق الأوسط» (الظهران)
ثقافة وفنون أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد.

محمود الزيباوي

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!