أندرو موشن: الكتابة سبيلي للخطو خارج الزمن

شاعر البلاط البريطاني السابق يتحدث عن تجربته الشعرية

أندرو موشن
أندرو موشن
TT

أندرو موشن: الكتابة سبيلي للخطو خارج الزمن

أندرو موشن
أندرو موشن

تكتسب كتابات الشعراء عن تجربتهم الشعرية قيمة خاصة قد لا تتوافر في كتابات النقاد المحترفين وأساتذة الأدب الأكاديميين؛ ذلك أن كتابة الشاعر عن فنه تجيء ثمرة معايشة حميمة لهذا الفن، وخبرة شخصية مباشرة بمسالك الشعر وشعابه ومضايقه على نحو يبرأ من التجريد الجاف والتنظير البارد.

وأحدث شهادة من هذا القبيل يقدمها كتاب صادر في هذا العام (2023) عنوانه «النوم على الجزر: حياة في الشعر» (Sleeping on Islands: A Life in Poetry). صدر عن دار «فيبروفيبر» للنشر بلندن، من تأليف الشاعر والروائي والناقد الإنجليزي أندرو موشن (Andrew Motion) الذي شغل في الفترة 1999- 2009 منصب شاعر البلاط في المملكة المتحدة، وهو أحد مؤسسي «محفوظات (أرشيف) الشعر» على الشبكة العنكبوتية الدولية. ويعيش حالياً في مدينة بولتيمور بالولايات المتحدة الأميركية، وذلك منذ تعيينه أستاذاً للفنون بجامعة جونز هوبكنز في 2015.

وموشن غزير الإنتاج، له عدد من الدواوين الشعرية. وفي أدب السير والتراجم: «فيليب لاركين: حياة كاتب» و«كيتس». وفي أدب المقالة والسيرة الذاتية والتأملات: «في الدم: مذكرات عن طفولتي». وفي النقد الأدبي: «شعر إدوارد توماس» و«فيليب لاركين». كما حرر قصائد مختارة للشعراء وليم بارنز وتوماس هاردي وجون كيتس وشعراء الحرب العالمية الأولى.

غلاف الكتاب

يتخذ كتاب «النوم على الجزر» شكل فقرات قصار تفصل بينها خطوط وتنتقل في الزمان والمكان جيئة وذهاباً في الفترة ما بين 1970 - 2021، فقد تبدأ إحدى الفقرات مثلاً في عام 2000 ثم ترتد إلى الوراء رجوعاً إلى عام 1976، وهكذا، مما يولد شعوراً بتدفق الزمن وجريانه وآليات الذاكرة التي تربط بين الماضي والحاضر وتعتمد على تداعي الأفكار واتصال تيار الشعور.

في مقدمته، يقول موشن إن كتابه هذا امتداد لكتابه السابق: «في الدم: مذكرات عن طفولتي»؛ إذ إن ذلك الكتاب سجل طفولته حتى سن السابعة عشرة. وهو هنا يواصل القصة ابتداء من ذلك العمر؛ أي إننا نلتقي به هنا شاباً يافعاً ورجلاً في منتصف العمر وشيخاً. وتتوقف القصة عند ربيع 2020. والفارق بين الكتابين أن «في الدم» كان مكتوباً باستخدام الفعل المضارع من وجهة نظر الطفل، محملاً بطزاجة الرؤية وطرافتها، أما «النوم على الجزر» فمكتوب باستخدام الفعل الماضي من وجهة نظر الراشد، كما أنه أميل إلى الانتقاء من تفاصيل الحياة؛ فهو يركز على مسيرته الشعرية ولقاءاته وصداقاته وعلاقاته بسواه من الشعراء، وأغلبهم الآن قد طوته يد المنون، ومن ثم كان بناء الكتاب أقرب إلى الطابع الشذري أو إلى جزر متناثرة في محيط الحياة. وهذا ما يفسر عنوان الكتاب: «النوم على الجزر».

حين منح موشن إجازة من التدريس بجامعة جونز هوبكنز لمدة عام، أغلق على نفسه باب مكتبه وقرر أن يستعرض ماضيه، فكان هذا الكتاب. وزاد من عزلته ظهور وباء «الكوفيد» وتوقف عجلات الحياة عن الدوران وانتشار الشعور بالحزن والإحباط في الحياة العامة والحياة الخاصة على السواء.

وفيما بين بداية الكتاب ونهايته نلتقي بموشن في مواقف مختلفة ولحظات تتراوح بين السعادة والشقاء، والنجاح والإخفاق، ولكنها كلها تجتمع على رسم صورة لحياة شاعر أثناء العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقدين الأولين من الألفية الجديدة، حياة يشتبك فيها العام والخاص. وتقوم الأحداث الخارجية – سياسية وغيرها - في مؤخرة الصورة، ولكن البؤرة دائماً هي فن الشعر محور حياة موشن، بل مبرر وجوده ذاته.

وأهم علامات الطريق في حياة موشن، كما يسجلها، هي ما يلي: في الفترة الفاصلة بين انتهائه من المرحلة الثانوية والتحاقه بـ«كلية الجامعة» بجامعة أكسفورد التقى بفتاة تدعى جوانا صارت زوجته وهما ما زالا طالبين جامعيين. انتهى الزواج بالطلاق وأعقبته زيجتان أخريان. وبعد حصول موشن على الليسانس شرع في كتابة رسالة للماجستير عن الشاعر الإنجليزي إدوارد توماس تحت إشراف الشاعر والمحاضر جون فولر.

ومن الأحداث الشخصية التي يذكرها موشن أيضاً أن أباه أصيب بالسرطان في العظام (كان قد تزوج بعد وفاة الأم). وكما بدأ الكتاب بوفاة الأم فإنه ينتهي بوفاة الأب.

هذا عن الجوانب الشخصية من حياة موشن. أما عن الجوانب العامة ونشاطه الأدبي والوظائف التي تقلدها، فإنه يخبرنا بأنه بدأ ينشر قصائده في عدة مجلات ودوريات. وحصل على وظيفة محاضر في الأدب الإنجليزي بجامعة «هل»، وكان أمين مكتبتها هو فيليب لاركن لأكثر من عشرين عاماً. وفيما بعد استقال موشن من وظيفته في جامعة «هل» وعاد للعيش في أكسفورد، وتولى رئاسة تحرير مجلة «بويتري رفيو»، وغدا مشرفاً على برنامج للكتابة الإبداعية في كلية «هولواي الملكية» بجامعة لندن، واختير شاعراً للبلاط الملكي، ثم منح لقب «سير».

بدأ اهتمام موشن بالكتابة حين تعرف على مؤلف كتاب متواضع موضوعه ثعلب صغير، وبدأ يفكر في الموضوعات التي يمكن أن يكتب عنها، فكان أول ما تبادر إلى ذهنه هو حادثة موت أمه، مما قاده إلى التفكير في الموت بعامة وموت المحيطين به في الأسرة والمدرسة والمعارف بخاصة.

وبدأ ينظم الشعر – إلى جانب قراءته - وهو طالب في المدرسة الثانوية. وكان ناظر المدرسة، لحسن الحظ، محباً للشعر ومهتماً بصفة خاصة بشعر الحرب. واستهوته قصائد إدوارد توماس وإميلي دكنسن، لكن لماذا الشعر بوجه خاص؟ لمَ لا يختار شيئاً أكثر إدراراً للربح المادي؟ تراكمت هذه الأسئلة في ذهنه، ثم كان الجواب: «الشعر لأنه صوت المعاناة؛ لأنه قد يحفظ ذكرى أمي في كلمات؛ لأنه فرار من الماضي وإعلان استقلال؛ لأنه ذو سحر خاص وجمال لا يقاوم؛ لأن أشكاله دعوة إلى شعور أشد عمقاً وفكر أكثر دقة؛ لأنه يمثل التكثيف والاستقطار؛ لأنه ينتمي إلى كل إنسان؛ لأنه ابن عمومة للامعنى، وهو مع ذلك يقول الحقيقة بطريقة غير مباشرة؛ لأنه منعزل؛ لأنه يجعل العزلة سبيلاً للتواصل؛ لأنه - بتعبير بايرون - (شعور بعالم سابق ومستقبل)؛ لأنه لا يحوجه إلى أسباب أو أعذار؛ لأنه ليس شكلاً من أشكال المعنى وإنما هو طريقة للوجود».

سؤال آخر كان يطارده: كيف يغدو شاعراً حديثاً؟ كيف يحب عظماء الشعراء الموتى ويترك كلماتهم تتغلغل في مسامه ومع ذلك لا يكون مجرد صدى مردد لأصواتهم؟

صدر أول ديوان لموشن (وكان ديواناً صغيراً في خمسين صفحة) عن دار نشر «كاركانت» التي يشرف عليها الناقد مايكل شميت في 1978. كان الديوان مؤلفاً من ثلاثة أقسام: الأول قصائد متفرقة، والأوسط قصيدة قصصية طويلة نال عنها جائزة «نيودجيت» للشعر بجامعة أكسفورد، والثالث قصائد عن أمه.

ماذا كانت محركاته للكتابة؟ يقول: «كانت الكتابة كما يراها ذهني سبيلاً لرسم خريطة للزمن، لدوائره وخطوطه المستقيمة على السواء، وكانت الكلمات على الصفحة سبيلاً لقول: إني هنا». ويقول: «بدأت أكتب لأن الكتابة موقع يوفر لي الخصوصية؛ لأنها أعانتني على تعميق ما أشعر به (وأحياناً على فهم ذاتي بطريقة أفضل)»، فالقصائد «طريقة لتقبل ما هو محتوم، وأيضاً لإيقاف الزمن أو الخطو خارج الزمن».

ويعبر عن الصعوبات التي يواجهها الشاعر فيقول: «كانت الكلمات التي أريد أكثر ما أريد أن أستخدمها في قصائدي وراء متناولي دائماً»، إلى أن كان يوم شرع فيه في كتابة قصيدة عن ثياب أمه الراحلة (ظل أبوه عدة سنين يحتفظ بثياب زوجته، على سبيل الوفاء لذكراها، في علية البيت)، فإذا بالكلمات تواتيه وتستجيب لما يريد أن يقوله وكأنها استرجاع لذكرى.

وطموحه تعبر عنه الكلمات الآتية: «في ممارستي الشعرية كنت أطمح إلى توسيع نطاق العقيدة الغنائية، وأن أقاوم إغراء النظم حين أرتطم بخبرة شخصية حميمة كالحب أو الأسى أو الوحدة بحيث لا تعدو القصيدة أن تكون صرخة إيقاعية. وبدلاً من ذلك أردت أن أصطنع مقاربة أكثر موضوعية: أن أكتب قصائد قصصية يبدو على السطح أنه لا صلة لها بظروف حياتي الشخصية، مما يكفل أن تخرج واسعة النطاق متنوعة الاهتمامات، ولكنها تظل في الوقت ذاته مستلهمة من مشاعر شخصية قوية. أردت بمعنى آخر أن أكون انطوائياً وانبساطياً في آن، أن أوفق بين الغنائي والقصصي».

بدأ اهتمام موشن بالكتابة حين تعرف على مؤلف كتاب متواضع موضوعه ثعلب صغير... وبدأ يفكر في الموضوعات التي يمكن أن يكتب عنها

ومن الأجزاء الممتعة في كتاب موشن ما يرويه عن شعراء عصره الذين تعرف عليهم، وملاحظاته عن شخصياتهم ومظهرهم وسلوكهم، وصلاته بهم. من هؤلاء الشعراء و.هـ. أودن، وروبرت لويل، ووليم إمبسون، وشيمس هيني، وفيليب لاركن، وتد هيوز.

إن شهادة موشن في هذا الكتاب إضافة عصرية إلى شهادات سابقة عبر القرون. فنحن نتذكر؛ إذ نقرأه، القصائد التي نظمها هوراس اللاتيني وبوالو الفرنسي عن «فن الشعر». وفي الأدب الأميركي نسترجع مقالة للقاص والشاعر والناقد إدجار آلان بو، عنوانها «فلسفة الإنشاء» وصف فيها نظمه لقصيدته المسماة «الغراب»، وفي القرن العشرين شرح هارت كرين في بعض رسائله كيف نظم قصيدته «الجسر». وكتب أرشيبولد ماكليش قصيدة عنوانها «فن الشعر» ختمها بقوله: «على القصيدة أن تكون، لا أن تعني». وعربياً، كتب عدد من الشعراء من زوايا مختلفة عن حياتهم في الشعر: عبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، وأدونيس، وصلاح عبد الصبور، ومحمد إبراهيم أبو سنة، وغيرهم. وفي كتاب أستاذ علم النفس الدكتور مصطفى سويف عن الإبداع الفني، في الشعر بخاصة، شهادات عدد من الشعراء والكتاب عن طرقهم في الكتابة، ومراحل تطورهم، والمؤثرات الذهنية والوجدانية والحياتية التي دخلت في تكوين أعمالهم.

وُلد موشن في لندن عام 1952 لأب حارب في الحرب العالمية الثانية وكان من الجنود الذين هبطوا على شاطئ نورماندي في 1944، وأم تدعى جيليان، وكان له أخ أصغر يدعى كيت التحق بكلية الزراعة، ثم اشتغل تاجر بذور. وتلعب الأم دوراً مهماً في هذه الذكريات، وكانت قد لقيت حتفها من جراء حادثة سقوط عن صهوة جواد ارتطم حافره المعدني برأسها، مما أحدث لها نزيفاً في المخ كانت فيه نهايتها بعد أيام قضتها في المشفى. وستخلف هذه الحادثة أثراً باقياً في وجدان موشن وفي قصائده.


مقالات ذات صلة

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

ثقافة وفنون سانت إكزوبيري

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

نصبان جنائزيان من مقبرة الشاخورة

يحتل الفن الجنائزي حيزاً واسعاً من ميراث أقاليم شبه الجزيرة العربية، وتتميّز جزيرة البحرين في هذا الميدان بنتاج نحتي تصويري يعود إلى القرون الميلادية الأولى

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

كمال داود يقلّب مواجع العشرية السوداء

تتويج كمال داود بجائزة «الغونكور»، وهي أبرز تكريم أدبي فرانكفوني على الإطلاق، لم يكن مفاجأة، فمنذ أشهر توقّعت عدة تقارير فوز الكاتب الجزائري بالجائزة المرموقة

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون «اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرح

«الشرق الأوسط» (الشارقة)

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري
TT

أي دور للكتاب والمبدعين في زمن الحرب؟

سانت إكزوبيري
سانت إكزوبيري

لم يكف البشر منذ وجودهم على هذه الأرض عن التقاتل والتذابح، وفرض سيطرة بعضهم على البعض الآخر، عبر أكثر الوسائل دمويةً وفتكاً. وسواء كانت الحروب عبر التاريخ تُشن بفعل الصراعات الإثنية والدينية والآيديولوجية والرغبة بالسيطرة والاستحواذ، أو اتخذت شكل الدفاع عن الحرية والمقاومة ضد الاحتلال، فإن نتائجها الوخيمة لم تقتصر على دمار المنازل والمباني والمعالم المادية للعيش، بل تعدت ذلك لتصيب الدواخل الإنسانية بالتصدع، ولتحدث انهياراً كاملاً في نظام القيم وقواعد السلوك، ولتضع علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر في مهب الشكوك والتساؤلات.

همنغواي

على أن من المفارقات اللافتة أن تكون الحروب الضارية التي أصابت الاجتماع الإنساني بأكثر الكوارث فظاعةً وهولاً، هي نفسها التي أمدت الفلسفة والفكر والفن بالأسئلة الأكثر عمقاً عن طبيعة النفس البشرية، ودوافع الخير والشر، ونُظُم الاجتماع الأمثل، فضلاً عن دورها المهم في تغيير الحساسيات الأدبية والفنية، ودفعها باتجاه الحداثة والتجدد. وإذا كان السؤال حول الآثار التي تخلفها الحروب في مجالي الأدب والفن هو من بين الأسئلة التي لم يمل النقاد والمهتمون عن طرحها مع كل حرب جديدة، فإن الإشكالية التي يتم طرحها باستمرار تتعلق بدور الكتاب والمثقفين في زمن الحرب، وعما إذا كان هذا الدور يقتصر على إنتاج النصوص والأعمال الإبداعية، أم أن على الكتاب والفنانين أن يدافعوا بحكم انتمائهم الوطني والقومي والإنساني عن قضايا شعوبهم بشتى السبل والوسائل الممكنة.

وإذا كان هذا النوع من الأسئلة لا يجد له إجابات قاطعة، لأن كل شخص يرى من وجوه الحقيقة ما يلائم مواقفه وتوجهاته، فقد تمكّننا العودة إلى التاريخ من استجلاء بعض الحقائق المتعلقة بمواقف الشعراء والمبدعين من الحروب والنزاعات الأهلية، وبما قاموا به، خارج النصوص والأعمال الفنية، من أدوار وإسهامات. ولعل أول ما يحضرني في هذا السياق هو التجربة الرائدة للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، خلال الحرب الدامية التي نشبت بين قبيلتي عبس وذبيان، التي عرفت عبر التاريخ بحرب داحس والغبراء. فقد حرص زهير على وصف الحرب بما يليق بها من نعوت، محذراً من نتائجها الكارثية عبر أبياته المعروفة:

وما الحرب إلا ما علمتمْ وذقتمُ

وما هو عنها بالحديث المرَجَّمِ

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً

تضْرَ إذا ضرَّيْتموها فتضرمِ

فتعرككمْ عرْك الرحى بثفالها

وتَلْقحْ كشافاً ثم تُنتجْ فتتئمِ

إلا أن زهيراً الذي رسم في معلقته إحدى أكثر اللوحات الفنية دلالة على فظاعة الحروب وهولها الكارثي، رأى أن من واجبه كإنسان وكفرد في جماعة، أن يحرض على نبذ العنف، ويدعو إلى تحرير النفوس من الأحقاد والضغائن. وهو إذ راح يمتدح كلاً من داعيتي الصلح، الحارث بن عوف وهرم بن سنان، فلم يفعل ذلك تملقاً أو طلباً للثروة والجاه، بل فعله انتصاراً لمواقفهما الأخلاقية النبيلة، ولما قدماه من تضحيات جسام بهدف إطفاء جذوة الحرب، وإحلال السلام بين المتنازعين.

تولستوي

ومع أن الحروب بأشكالها المختلفة قد شكلت الظهير الأهم للكثير من الأعمال الملحمية والروائية، فإن قيمة العمل المتولد عنها لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية في المعارك والمواجهات، بل موهبته العالية وتفاعله مع الحدث، وكيفية الانتقال به من خانة التوصيف السطحي والتسجيلي إلى خانة الدلالات الأكثر عمقاً للعدالة والحرية والصراع بين الخير والشر، وصولاً إلى الوجود الإنساني نفسه.

وإذا كان تاريخ الأدب بشقيه القديم والحديث حافلاً بالبراهين والأدلة التي تضيق الهوة بين الخيارين المتباينين، فيكفي أن نعود إلى هوميروس، الذي لم تحل إصابته بالعمى وعجزه عن المشاركة في الحروب، دون كتابته لملحمتي «الإلياذة» و«الأوديسة»، تحفتي الأدب الخالدتين. كما يمكن الاستدلال بتولستوي الذي لم تكن رائعته الروائية «الحرب والسلم» ثمرة مشاركته المباشرة في حرب نابليون على روسيا القيصرية، وهو الذي لم يكن أثناءها قد ولد بعد، بل ثمرة تفاعله الوجداني مع معاناة شعبه، ورؤيته النافذة إلى ما يحكم العلاقات الإنسانية من شروخ وتباينات. ومع أنه لم يجد بداً من الانخراط في الجندية في وقت لاحق، فإنه ما لبث أن تحول إلى داعية للمحبة ونبذ العنف، وتحقيق السلام بين البشر.

أما الجانب الآخر من الخيارات فتمثله تجارب كثيرة مغايرة، بينها تجربة الكاتب الأميركي آرنست همنغواي الذي قدم عبر حياته الحافلة، النموذج الأكثر سطوعاً عن العلاقة بين الكتابة والحياة، وهو الذي لم يكتف بوصف الحرب عن بعد، كما فعل كتاب كثيرون، بل عمد إلى الالتحام المباشر بميادينها المحفوفة بالمخاطر، الأمر الذي وفرته له مهنته كمراسل حربي للصحف التي عمل فيها. والواقع أن فائض القوة العضلي لهمنغواي، والتزامه الوطني والإنساني، لم يكونا الدافعين الوحيدين لمشاركته في الحروب التي خاضها، بل كان دافعه الأساسي متمثلاً في البحث عن أرض ملموسة لكتابة رواياته وقصصه المختلفة. وإذا كان انخراط الكاتب الفعال في الحرب العالمية الأولى هو الذي يقف وراء تجربته الروائية المبكرة «وداعاً أيها السلاح»، فإن مشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية دفاعاً عن الجمهوريين، وجنباً إلى جنب مع كتاب العالم الكبار، هي التي ألهمته رائعته الروائية اللاحقة «لمن تُقرع الأجراس».

وفي السياق نفسه يمكن لنا أن نضع تجربة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت إكزوبيري، الذي دفعه شغفه البالغ بالطيران إلى الالتحاق بقوات بلاده الجوية، ولم يثنه تحطم طائرته في إحدى الطلعات، عن الإمعان في مغامرة التحليق وصولاً إلى نهايته المأساوية عام 1944. غير أن ذلك التحليق بالذات هو الذي أتاح لسانت إكزوبيري أن يرسم عبر «الأمير الصغير» صورة لكوكب الأرض، بعيدة عن العنف ومترعة بالنقاء الطفولي.

قيمة العمل المتولد عن الحروب لا تحدده بالضرورة مشاركة الكاتب الشخصية فيها

ثمة بالطبع شواهد كثيرة، لا تتسع لها هذه المقالة، على الخيارات المتباينة التي اتخذها الكتاب والفنانون في أزمنة الحروب، والتي يتجدد السجال حولها مع كل حرب تقع، أو كل مواجهة تخوضها الشعوب مع غزاتها المحتلين. وإذا كان بعض المبدعين لا يرون علة لوجودهم سوى الإبداع، ولا يجدون ما يقدمونه لأوطانهم في لحظات محنتها، سوى القصيدة أو المعزوفة أو اللوحة أو سواها من ضروب التعبير، فإن بعضهم الآخر يرسمون لأنفسهم أدواراً مختلفة، تتراوح بين الدفاع عن الأرض، لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً، وبين التظاهر وإصدار البيانات المنددة بارتكابات الاحتلال ومجازره وفظاعاته، وصولاً إلى إسهام الكاتب الشخصي في التخفيف من معاناة شعبه، ورفده بأسباب المقاومة والصمود.

على أن أي حديث عن دور الكتاب والفنانين في زمن الحرب، لن يكون له أن يستقيم، دون الإشارة إلى عشرات الإعلاميين والمصورين والمراسلين في فلسطين ولبنان، الذين أسهمت تقاريرهم الميدانية الجريئة في إظهار الطبيعة الوحشية للاحتلال، وفي فضح ادعاءاته الزائفة عن الالتزام بقواعد الحرب الأخلاقية والإنسانية. وإذا كان من المتعذر تماماً استعادة أسماء الإعلاميين والمراسلين الكثر، الذين أصروا على المواءمة بين الواجبين المهني والإنساني، حتى لو كانت حياتهم نفسها هي الثمن، فيكفي في هذا السياق أن نتذكر الكاتبة والإعلامية اللبنانية نجلاء أبو جهجه، التي قامت بالتقاط صور مختلفة لجثث الأطفال المدلاة من سيارة إسعاف بلدة «المنصوري»، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1996، فيما حرصت في الوقت ذاته على مد يد العون للجرحى المتبقين منهم على قيد الحياة. وفيما غادرت نجلاء هذا العالم، وقد أنهكها مرض عضال، قبل أيام معدودة، لن تكف العيون المطفأة للأطفال، عن ملازمة صوَرها المؤثرة، وتجديد عقدها مع الضوء، وتوزيع نظرات اتهامها الغاضبة بين عدالة العالم المفقودة ووجوه الجلادين.