هل يرتبط رقيُّ الشعوبِ الأخلاقيُّ بتطوّر المعارف وتقدّم العلوم؟

الشعوب القديمة اختبرت ضروباً شتّى من الأخلاقيّات والروحانيّات

ليفي شتراوس
ليفي شتراوس
TT

هل يرتبط رقيُّ الشعوبِ الأخلاقيُّ بتطوّر المعارف وتقدّم العلوم؟

ليفي شتراوس
ليفي شتراوس

حين يعاين المرءُ مسلكَ الأمَم والشعوب والمجتمعات، يدرك أنّ العلاقة الناشطة بين الأخلاق والمعرفة تخضع لعواملَ شتّى من التفاعل الجدليّ. الأغلبُ في التحليل الناشط أن نربط رقيَّ الوعي الأخلاقيّ بترسُّخ المكتسبات العلميّة وتطوّر المدارك المعرفيّة. غير أنّ الأمور في واقع التاريخ الإنسانيّ ليست على هذا الوضوح؛ إذ تَبيَّن لنا أنّ فهم الوجود فهماً علميّاً متقدّماً لا يُفضي في الغالب إلى التخلّق بأخلاق الرفعة الإنسانيّة. ومن ثمّ، لا بدّ لنا من أن نسأل: هل ترتقي الأخلاقُ الإنسانيّةُ بارتقاء المعارف العلميّة؟ هل يواكب الرقيُّ الأخلاقيُّ حتماً التقدّمَ العلميَّ؟ بتعبيرٍ آخر: هل يستحيل تهذيبُ الأخلاق إذا تَعطّل في مسلك الشعوب إنتاجُ المعرفة العلميّة المحض؟

مِن عِبَر التاريخ أنّ الشعوب القديمة اختبرت ضروباً شتّى من الأخلاقيّات والروحانيّات جعلتها تهذّب بعضاً من وعيها ومسلكها، ولو أنّ مقدار مكتسباتها المعرفيّة كان ضئيلاً. غير أنّنا نعاين اليوم تطوّراً مذهلاً في المعارف العلميّة يوشك أن يوهمنا برقيٍّ استثنائيٍّ في الأخلاق. والحال أنّ المجتمعات المتقدّمة معرفيّاً وعلميّاً وتقنيّاً ما برحت تخضع لأهواء الاحتراب والاقتتال، في حين أنّ أفرادها ما فتئوا يعانون في وجدانهم الصراعَ المريرَ بين الخير والشرّ، بين منافع الذات الأنانيّة ومصالح الجماعة، بين مقتضيات رعاية الكيان الذاتيّ وضرورات صون الاجتماع الإنسانيّ والطبيعة والبيئة.

إذا قارن المرءُ حروب الأحصنة والسيوف بحروب الأشعّة النوويّة جزم أنّ أخلاقيّات الاحتراب البدائيّة أرقى حضاريًّا

أعتقد أنّ المسألة تتعلّق بطبيعة الإنسان المفطور على التنازع الجوّانيّ بين قيَم الرقيّ ومسالك الانحطاط، وبطبيعة الدولة المبنيّة على رعاية تملّك الأرض ومواردها والحفاظ على وجود الأفراد والجماعة وتدبير شؤون المعيّة في المدينة الإنسانيّة الواحدة. ذلك بأنّه ليس من اليسر تدبيرُ حياة الناس على الأرض في مقاطعاتٍ شبهِ متجانسةٍ تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى دوَلٍ مستقلّةٍ ترعى مصالحَها، سواءٌ بالتفاوض الفطن أو بالتصارع العنفيّ. لا ريب في أنّ جميع الوقائع التاريخيّة هذه تدلّنا على أنّ الرقيّ الأخلاقيّ أضحى مسألةً شديدةَ التعقيد والإرباك، إذ لم يَعد الأمرُ يقتصر على حسن النيّة وسوئها، أو صلاح الضمير وفساده، بل أمست بنى الاجتماع الإنسانيّ المعقّدة ومتطلّباتها المتشابكة المتدافعة في منزلة العائق الأخطر الذي يعطّل الالتزام الأخلاقيّ السويّ.

لا بدّ أيضاً من التأمّل في حقيقةٍ إنتروبولوجيّةٍ أخرى استجلى عناصرَها عالمُ الإتنولوجيا الفرنسيُّ كلود - لِڤي ستروس (1908 - 2009) الذي انتقد تصنيفَ الشعوب بحسب مراتب تطوّرها المعرفيّ. اعتمد ستروس على منهجيّة الإنتروبولوجيا البنيويّة التي تخالف التعليل الذي تسوقه المذاهب التطوّريّة والثقافويّة والوظائفيّة وسواها، فأكبّ يشرح طبيعة الاجتماع الإنسانيّ وتجلّياته الثقافيّة التاريخيّة، وقد تصوَّره في هيئة البنية الكلّيّة الشاملة التي تنطوي على نظامٍ تماسكيٍّ ذاتيِّ الانضباط يتجاوز قدرةَ وعي الأفراد على الإمساك به والتأثير فيه. ومن ثمّ، أخذ يبيّن لنا في كتابه الفكر البرّيّ أنّ التمييز بين المجتمعات القديمة والمجتمعات الحديثة لا يستقيم على الوجه الذي نعرفه؛ إذ إنّ الفكر البدائيّ يتّصف بالمهارة العمليّة الإصلاحيّة الفطنة ويربط الأحداث بالبنى السائدة، في حين أنّ الفكر الحديث يتميّز بالحذق الإبداعيّ الذي يستند إلى البنى فيتجاوزها تجاوزاً يؤهّله لابتكار الحدث الفذّ.

وعليه، لا يجوز لنا أن نحكم على المجتمعات البدائيّة بالتخلّف أو بالعجز عن إدراك تعقيدات الظواهر التاريخيّة المتشابكة. كذلك لا يليق بنا علميّاً أن نمنح المجتمعات الحديثة مقامَ الصدارة من جرّاء امتلاكها وسائلَ المعرفة المتقدّمة. ذلك بأنّ جميع المجتمعات الإنسانيّة، بمعزلٍ عن زمنيّتها المعرفيّة، تمتلك القدرةَ عينَها على تدبّر الواقع الحيّ وتصنيفه وترتيبه. الاختلاف الوحيد يكمن في الطريقة أو في المنهج، لا في القدرة أو في الملَكة المعرفيّة. الثابت أنّ الناس في جميع المجتمعات يمتلكون القدرات الذهنيّة والفهميّة ذاتها بمعزلٍ عن مرتبتهم الحضاريّة أو لنقلْ عن اختبارهم الحضاريّ الخاصّ. لذلك يجب أن نحفظ للمجتمعات البدائيّة الفضلَ الذي اكتسبته في إحراز العلوم إحرازاً مقترناً بمنهجيّتها الخاصّة المستندة إلى المعاينة الحسّيّة الإمبيريقيّة، في حين أنّ منهجيّة العلوم الحديثة تقوم على التجربة التي لا تلبث أن تزدان بالنظر التجريديّ والبناء الأفهوميّ.

إذا كان العِلمُ أعدلَ الأمور قسمةً بين المجتمعات، فإنّ الأخلاق أيضاً تشترك في الشموليّة الحضاريّة هذه، ولكن من غير أن تقترن بطبيعة المعرفة العلميّة السائدة. في الأزمنة الحديثة والمعاصرة فاز الإنسانُ الغربيُّ بإدراكٍ معرفيٍّ جليلٍ أهّله للسيطرة النسبيّة على بعض عناصر الطبيعة الفيزيائيّة والكيميائيّة. ولكن هل ردعنا اكتشافُ القنبلة النوويّة عن استخدام القوّة المفرطة في إبادة أعدائنا؟ هل أسعفنا إحصاءُ خلايا الدماغ ورسمُ خريطة الجسم الإنسانيّ الجينيّة في ضبط غَضبتنا المؤذية وتهذيب مسلكنا اليوميّ؟ هل ساعدتنا المراصدُ الفضائيّةُ الضخمةُ المستقصيةُ مجرّاتِ الفضاء الأرحب وكواكبَه ونجومَه في كبح جماح هيمنتنا على الطبيعة وزجرنا عن إهانتها وتلويثها وتشويهها؟

ما من إجابةٍ مُقنعةٍ عن الأسئلة الخطيرة هذه إلّا تلك التي تُفضي بنا إلى التأمّل في الطبيعة الالتباسيّة الانعطابيّة التي انفطر عليه الكائنُ الإنسانيُّ، وقد تنوّعت تجلّياتُه الحضاريّةُ في مجتمعات المسكونة قاطبةً. أعلم علمَ اليقين أنّ الذين كانوا يأكلون لحم البشر لم يكونوا على درجةٍ عاليةٍ من التدبّر المعرفيّ والتبصّر العلميّ والفهم الحضاريّ. ولكنّ البنية المعياريّة الأخلاقيّة البدائيّة التي كانت تضبط علاقاتهم ومعاملاتهم ومسالكهم تُشبه، في وجهٍ من الوجوه، البنية الحديثة التي تنتظم بها أحوالُ معيّتنا الإنسانيّة المعاصرة. ذلك بأنّ شرعة حقوق الإنسان المعتمَدة في القرن العشرين لم تنشأ في الفراغ الحضاريّ المطلق. جميع الحضارات الإنسانيّة اهتدت بالتلمسّ البطيء إلى اختبارٍ تشريعيٍّ أوّليٍّ جعلها تتحسّس ضرورةَ الانتظام الأخلاقيّ في معترك الاجتماع الإنسانيّ الناشئ.

بلغنا شأواً بعيداً في اكتساب المعارف المتقدّمة التي تؤهّلنا لأفضل ضروب الوعي الحضاريّ المتراكم. بيد أنّنا ما برحنا نتخاصم ونتصارع ونتحارب

أمّا اليوم، فإنّنا بلغنا شأواً بعيداً في اكتساب المعارف المتقدّمة التي تؤهّلنا لأفضل ضروب الوعي الحضاريّ المتراكم. بيد أنّنا ما برحنا نتخاصم ونتصارع ونتحارب ونتقاتل ونُبيد بعضنا بعضاً من جرّاء استفحال أنانيّاتنا الفرديّة والجماعيّة، حتّى إنّ المتشائمين يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنّ العنف بين الناس اشتدّت وطأته بسببٍ من تطوّر أساليب العنف المستخدَم في الإبادة الجماعيّة. إذا قارن المرءُ حروب الأحصنة والسيوف بحروب الأشعّة النوويّة والاستئصال الجرثوميّ، جزم أنّ أخلاقيّات الاحتراب البدائيّة أرقى حضاريّاً من خبث السياسات الدوليّة الإفنائيّة المعاصرة. يبقى لنا أن نسأل: كيف نستطيع اليوم أن نربط تقدّمَ العلوم الإنسانيّة والوضعيّة بتهذيب الأخلاق الفرديّة والجماعيّة؟ إذا كان الاختلافُ الثقافيُّ بين البدائيّين والمتمدّنين مقتصراً، بحسب العالم الفرنسيّ ستروس، على المنهجيّة المعتمَدة، وَجَب علينا أن نراعي أخلاقيّات الهنود والأفارقة والعرب والآسيويّين والأُوروبّيّين الأوائل الذين ساروا في معاملاتهم الإنسانيّة على هدي البنيان المضيء في الفطرة الطبيعيّة، فقمعوا ميولَهم الرديئة ونوازعَهم السيّئة ورذائلَهم القبيحة، وأكبّوا يطلبون الفضيلة في مساعيهم الحضاريّة المتواضعة. أمّا الشرّ الكامن في الطبيعة الإنسانيّة، فلم يملك عصرَ ذاك أن ينفجر إهلاكاً وإبادةً على نحو ما نعاينه اليوم في مجتمعاتنا المعاصرة. لا تكون المعرفة بركةً للناس إلّا حين تقترن بمكارم الأخلاق. في غير ذلك علّمتنا خبراتُ التاريخ أنّ العقل الأداتيّ الاستنفاعيّ الاستغلاليّ هدّامٌ في فتوحاته المنعتقة من كلّ هدايةٍ أخلاقيّةٍ. من الضروريّ أن يكتشف الإنسانُ بالمعرفة واقعَ الأحوال حتّى يُشرّع تشريعاً صائباً. غير أنّ المعرفة وحدها لا تكفي من أجل إقناع الإنسان بانتهاج سبيل شرعة حقوق الإنسان الكونيّة الأرقى.


مقالات ذات صلة

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

يوميات الشرق «مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

«مائة عام من العزلة» يستحق ابتسامة ماركيز... مسلسلٌ ضخم على هيئة حلم مدهش

تختتم «نتفليكس» عامها بمسلسل من الطراز الرفيع يليق باسم الأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ورائعتِه «مائة عام من العزلة».

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)

البحث عن بطل

البحث عن بطل
TT

البحث عن بطل

البحث عن بطل

في كتاب «البحث عن منقذ» للباحث فالح مهدي شرح مفصّل عن الشعوب التي ترزح تحت نير الظلم والإذلال، وكيف تعلّق أمرُ خلاصها برقبة منقذ تستعير اسمه من أساطين الدّين، تنتظر عودته إلى الحياة عن طريق البعث أو النشور، كي يحقّق العدل الغائب عن وجه الأرض، ويعوّض ناسها ما فاتهم من عيشة هانئة مستقرّة. اكتسى هذا المخلّص عبر مراحل التاريخ بجلابيب أسماء عديدة، منها «كريشنا» المنتظر في الديانة الهندوسيّة، و«بوذيستاوا» أي «بوذا» المنتظر، و«ماهافيرا» المنتظر في الديانة الجاينيّة، و«زرادشت» المنتظر في المجوسيّة، وفي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة لدينا المسيح المنتظر والمهدي المنتظر وإسماعيل المنتظر والسفياني المنتظر واليمانيّ المنتظر والقحطانيّ المنتظر.

تعود هذه الفكرة في الأصل إلى اعتقاد دينيّ قديم مفاده أن الشرّ لا يمكن مواجهته من خلال البشر الفانين؛ لأن كلّ ما يأتي به الشّيطان لا يُهزم بالفعل البدنيّ، ويحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالقوى الإلهيّة. وعلى الجميع لهذا السبب المحافظة على تقاليد دينهم وتعاليمه؛ لكي يستعجلوا هذه القوى، وإلّا فهم يقضون حياتهم في حالة انتظار دائم.

هو ليس انتظار اللاشيء، حتماً، لكنّه انتظار من أجل حبّ الانتظار، يعيش المؤمن في ظلّه في حالة وجْد لا يفتُر، يكون الزمن فيه مجمّداً عند المستقبل الأزليّ واللانهائيّ. هل جرّبتم العيش دون حاضر أو ماضٍ؟ عندما تغيب الحيوات والانفعالات والمشاعر «الصعبة» أي الحقيقيّة من المرء، يحلّ اليأس التامّ والمُطلق، وهو أحد شروط تحقيق ما يُدعى بالنيرفانا لدى البوذيّين، الخطوة الأولى في سبيل عودة «بوذا» المنتظر إلى الظهور، ويختلف الأمر كثيراً أو قليلاً بالنسبة إلى بقيّة المخلّصين. ثم يغيب الماضي كذلك، وتختفي معه أحداثه، ويبقى الوقع الأهمّ هو ظهور المُنقذ في القادم من الأيّام والشهور والسنين، وربما حلّ الموعد والمرء نائم في قبره، ويستيقظ عندها ليجد العدل والإنصاف يعمّان الأرض، ويتمّ القصاص من الأشرار والمجرمين والمفسدين.

عندما يتوقّف الدماغ تنشط آلة الخيال، ردّ فعل طبيعيّ لحالة الفقد والحرمان والإذلال، لكنّه خاصّ ببني الإنسان، وهو بالأحرى عقل مرَضيّ مُشِلّ للنّفس والبدن يؤدّي بنا إلى الجنون وخراب الدّيار. الانتظار يولّد انتظاراً آخر، ولا يوجد شيء اسمه فوات الأوان. كما أنّ الخضوع يتبعه انحناءٌ تحت نير جديد. يقول ألبير كامو: «الأمل، عكس ما نظنّ، يُعادل الرُّضوخ. والحياة هي في عدم الرُّضوخ». من فكرة المُنقذ المنتظر جاء حُلم الشعوب المقهورة والضعيفة بالبطل المُرتجى، تبحث عنه كي تؤلّهه، ولن تُرفع إليه الأبصار إن كان حيّاً، وإذا كان ميّتاً تُعينهم ذكراه على تحمُّل الضَّيم الذي يكابدونه. في كلّ بلد ضعيف لا بدّ أن يكون هناك بطلٌ يلجأ إليه الفقراء والبُؤساء، يرسمون له الأساطير التي لا تحكي الواقع بطبيعة الحال، لكنّها تعكس حالة الضعف والخَوَر اللّذيْن يستلبان نفوس المؤمنين بمنقذهم، الذين يُغالون في تبجيله إلى درجة أنهم ربما راحوا يتطلّعون إلى صورته منقوشة على صفحة القمر، وهذا ما جرى حقّاً وفعلاً للعراقيين إِثْرَ مقتل عبد الكريم قاسم على أيدي انقلابيّي «8 شباط»، ثم قام هؤلاء برمي جثمانه في النهر، كي يتخلّصوا من حُبّ النّاس وتقديسهم، فانتقل هذان الفعلان إلى السماء، بعد أن لم يعثر مُريدوه على أثر له على الأرض، وصاروا يتطلّعون إلى صورته في اللّيالي القمراء، والبعض منهم تفيض عيونه بالدُّموع.

لا يُشترط في البطل أن يكون غائباً، أو لديه صفات هذه المرتبة الخارقة من القدسيّة والبطولة، بل يمكن أن يكون أحد الذين يعيشون بيننا، أو شخصاً غريباً وقَدَرِيّاً يُرفع إلى هذه المكانة عنوة، ولا يستطيع التراجع عنها لأنّ في ذلك خطراً يتهدّد حياته، فهي صارت أوّلاً وأخيراً بأيدي مريديه. هناك نوع من اشتباك مصائر يعيشه الطرفان: الجماهير تنظر إلى البطل على أنّه حامي ديارها وأرواحها من الخراب والفناء، والمنقذ يتطلّع بدوره إلى هؤلاء، في سبيل بقاء الصفات المبجّلة التي أسبغوها على شخصه.

فكرة البحث عن قائد مظفّر تتوّجه أكاليلُ المجد والغار قديمة لدى الإنسان، وجديدة أيضاً. الأرض تدور كلّ يوم، وفي كلّ سنة من أعمارنا، في شرقنا (السعيد) ثمّة بطل دَوْماً. عندما يغيب العدل في المجتمع يحتاج كلّ جيل إلى ابتكار مُنقذ جديد، من مزاياه أنّه ليس مخلّداً مثل رموز الأساطير الدينيّة، بل هو كائن حيّ له عمرٌ لا يتجاوز عمر البشر، يتمّ دفنه بعد فنائه ليولد بطلٌ جديد يعيش مع الأبناء إلى المحطّة الأخيرة، يترجّل بعدها تاركاً مقعده إلى مُنقذ أكثر جِدّة يواكب الرحلة مع الأحفاد؛ لأنّه لا طاقة لنا على العيش دون هؤلاء الفاتحين.

البطل في الحُلم يُقابله إنسان مهزوم ومأزوم في الواقع، هكذا هي القاعدة في علوم الاجتماع والطبّ والنفس، والفارق بين الاثنين كبير إلى درجة أن الناس يعيشون في ظلّ منقذهم في حال من الرِّقّ الجماعيّ، بكلّ ما في قوّة أنظمة الاسترقاق القديمة من سلطة القانون، وما كانت تحمل من أغلال اجتماعيّة وأخلاقيّة. وإن كان الأمر يحصل بصورة غير ظاهرة للعِيان، لكنّ شكل الحياة الأخير مطابق لذلك الناتج من حالة الاستعباد الجماعي الذي ودّعته البشريّة منذ قرون.

بالإضافة إلى العبوديّة، لا يمثّل البطل في هذا الزمان رمزاً قوميّاً يشدّ من أزر الجميع؛ لأننا نعيش في بلدان متعدّدة الأعراق والمعتقدات والأرومات، ولهذا السبب رحنا نبتكر أكثر من بطلٍ واحد: اثنين أو ثلاثة أو أكثر، يتحوّلون بمرور الوقت إلى أداة للفُرقة، تصيرُ بسبب التشاحن الدائم جزءاً من دمائنا، لتدور عجلة الحرب الأهليّة (الباردة) في البلاد، تدوم طويلاً لأن أسبابها باقية وتتقوّى مع السنين، ويوماً ما سوف تسخن حتماً وتتفجّر إلى هستيريا جماعيّة تستيقظ فيها نوازع الشرّ والتوحّش القديمة النائمة، ويتقاتل عندها الجميع ضدّ الجميع، ليصير الحلّ بتدخّل قوى أجنبيّة (استعماريّة) تُنقذ بقيّة الحياة والعِباد.

عندما تكون حياة الإنسان زهيدة - لأن الشعب عبارة عن مجموعة من الرّقيق - تُرتكبُ أقسى الجرائم بشاعةً. وعندما تكون الحريّة مبذولة، وتسود العدالة الجميع، عندها فقط يختلف وعي الأمة وسوف تجد مُنقذَها من داخلها لا من الغيب. يحتاج الجمهور آنذاك إلى بطل قدوة من نوعٍ ما يتطلّع إلى بلوغ مكانته الجميع، ويحقّق لهم هذه الفكرة الرسّام والموسيقيّ والشاعر والمهندس... مثلما يجري الآن في الأمم المتحضّرة. من هنا جاءت فكرة النجم في المجتمع المستقرّ الهانئ بعيشته، وليس للأمر علاقة بالمال ورأس المال، وغير ذلك من كلام يُضيّق على النفس ويصدّع القلب والرأس.