«الورّاق» تستعيد الوجه الإنساني لابن النفيس

«الورّاق» تستعيد الوجه الإنساني لابن النفيس
TT

«الورّاق» تستعيد الوجه الإنساني لابن النفيس

«الورّاق» تستعيد الوجه الإنساني لابن النفيس

عاش علاء الدين بن النفيس 80 عاماً عاصر خلالها أهوال الأحوال والأحداث الجسام مثل الحروب الصليبية والحملة السابعة على مدينة دمياط الساحلية وشمال مصر وكذلك غزو المغول وسقوط بغداد على يد هولاكو، فضلاً عن صراعات السلطة بين الجيل الأخير من الأيوبيين والجيل الأول من الحكام المماليك. كان العلاء بن النفيس قريباً من ذلك كله فقد كان الطبيب الخاص للظاهر بيبرس ورئيس أطباء مصر والشام، ورغم اضطراب أحوال زمانه لم يتوقف عن التأليف في الطب والفكر وعلوم عصره وترك لنا آلاف الصفحات. فكيف عاش ابن النفيس وما الذي أملاه من وقائع على الوراق الذي يصغره بـ40 عاماً وعاش 40 عاماً بعده؟

هذا ما تحكيه رواية «الوراق» الصادرة عن دار «الشروق» بالقاهرة للكاتب يوسف زيدان، وتقع في 286 صفحة من القطع المتوسط. ويعد ابن النّفيس صاحب إنجازات مهمّة في التاريخ الإسلامي، حيث ساهم في اكتشافات كان لها دورٌ كبيرٌ في تطوير البشريّة، فهو مكتشف الدّورة الدمويّة الصّغرى، كما كان عالماً في وظائف الأعضاء بجسم الإنسان. ودعا ابن النّفيس إلى التحرر من الأفكار المغلوطة التي كان غيره من العلماء يخشى انتقادها ومخالفتها، وبذلك كسر طوق التقيد بها. وقد جمع بين مختلف العلوم بشكل منسجم ومتوازن حيث لم يكتف بما يقرأوه بل كان يُخضعه إلى التمحيص، والنقد، وخطوات البحث العلميّ. شُبّه ابن النّفيس بأنه موسوعة علميّة متحرّكة، وذلك لبراعته في فن المداواة ومقارباته في مجال الإبصار والعين؛ حيث قال: إن العين تعدُّ آلة للبصر، كما أنه أول من قام بتشريح الشّرايين والجهاز التنفسي وكذلك الحنجرة. ولابن النفيس عدد من المؤلفات المهمة منها «الموجز في الطّب» و«المهذّب في الكحل المجرّب»، وهو كتاب في طب العيون، و«شرح فصول أبقراط».

من أجواء رواية «الوراق» نقرأ:

«كنت قد سمعت من (فلتة الوراق) ومن غيره أن هذا العلامة الفاضل الذي يلقبه بعض الناس بالنفيس وبعضهم الآخر يسميه توقيراً (الحكم ابن النفيس) هو أعلم أهل الأرض بالطب ولم يأت من بعد ابن سينا مثله. ويقولون: إنه هو الذي جسر الناس على كتاب (القانون في الطب) لابن سينا بعد ما كاد ينطمر مع مرور الزمان وذلك بشروحاته الكثيرة على هذا الكتاب، ومشهور عنه علاوة على ما سبق فضائل كثيرة في الرفق بالفقراء والزهد في المتاع الدنيوي والتوغل في دروب العلوم والمعارف.

ما كنت وقتها قد التقيت بالعلامة العلاء، رأيته فقط من بعيد بطريق الصدفة مرات. المرة الأولى حين لمحته وهو يخرج سامقاً بالطيلسان والعمامة من باب الجامع العتيق بعد الصلاة الجامعة وكنت أيامها ما زلت أصلي ظهر الجمعة في الجوامع. يومها كان الملأ يتحلقون حوله ويتسابقون إلى مصافحته. والمرة الثانية قبل زواجي بأيام إذ نصحني كثيرون بأن أذهب قبل العرس إلى الحمام الكبير الذي عند باب الزهومة، وهو الحمام الفاخر المعروف بحمام الساباط، أي المدخل المسقوف بين دارين وذلك للتمريخ والتطيب بالزيوت العطرية بأجرة عالية لأن العاملين في هذا الحمام مهرة في مهنتهم. ذهبت إلى هناك بعد العصر وجلست منزوياً وإلى جواري بعض سراة الناس وقبالتي إيوان فيه جماعة تدل هيئتهم على أنهم من كبار الأعمار والمقامات الرفيعة. كانوا يتضاحكون فيما بينهم ويتشاكون لبعضهم البعض بلا حرج ويتسامرون بذكر المفردات والمركبات المعينة على الباه وبينما هم على ذلك دخل عليهم العلاء بخطى هادفة وإزار محتشم ملفوف بعناية حول قامته الطويلة. وفور رؤيتهم له وإلقائه السلام، قال أحدهم ها قد جاء الفرج فرئيس الأطباء يعرف أسرار مقويات الباه وقال آخر ممازحاً: يا شيخ علاء الدين عناء العجز يعذبنا فأدركنا بفضلك وأخبرنا بسر النجاح كي نرتاح. وهو يجلس بالناحية اليمنى من الإيوان قال لهم العلامة العلاء بوجه مبتسم: اليأس إحدى الراحتين، يقصد قول البحتري في قصيدته الدالية:

اليأس إحدى الراحتين ولن ترى تعباً كظن الخائب المكدود»



عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.