التعليم تحت القصف... مسيرة متعثرة و«جيل ضائع» في إدلب

45 % من الأطفال في سن الدراسة خارج منظومة التعليم في شمال غربي سوريا

تلميذتان تغادران المدرسة وسط الدمار في قرية قميناس شرق مدينة إدلب (الشرق الأوسط)
تلميذتان تغادران المدرسة وسط الدمار في قرية قميناس شرق مدينة إدلب (الشرق الأوسط)
TT

التعليم تحت القصف... مسيرة متعثرة و«جيل ضائع» في إدلب

تلميذتان تغادران المدرسة وسط الدمار في قرية قميناس شرق مدينة إدلب (الشرق الأوسط)
تلميذتان تغادران المدرسة وسط الدمار في قرية قميناس شرق مدينة إدلب (الشرق الأوسط)

في صباح يوم خريفي من نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، في بلدة جرجناز بريف إدلب الجنوبي، مرّت فاطمة (52 عاماً) بتجربة «مرعبة»، حسبما وصفت في حديثها لـ«الشرق الأوسط»، إذ تزامن انهمار القنابل العنقودية على باحة المدرسة مع موعد الاستراحة الصباحية للطلاب، الذين كان أطفالها بينهم.

أرسلت فاطمة ابنها الأكبر بعد توقف القصف ليحضر إخوته، وبعد دقائق وصلوا... «كان ابني زين في حالة لا توصف من شدة الخوف الذي تعرّض له، كان يركض ويقول إنه شعر بقدميه لا تتحركان، والطريق للبيت بدت طويلة لا نهاية لها».

زين، الذي وصل هذا العام إلى الصف الثالث الثانوي، لم يعرف المدرسة يوماً سوى مصدر للخطر منذ أن دخلها أول مرة قبل 12 عاماً. قالت والدته الموجهة الإدارية، فاطمة الدغيم: «إنه واجه القصف مرات عدة خلال دوامه المدرسي، وكان يخشى العودة إليها لأيام وأسابيع كل مرة... كوني معلمة وأعرف قيمة التعليم وسلبيات التوقف عن الدراسة لم أفكر يوماً بأن أدعه يتخلى عن المدرسة، ولكن كنت أمنعه من الذهاب حتى يستقر الوضع ويصبح آمناً نوعاً ما».

مئات آلاف الطلاب في سوريا انحصرت ذكرياتهم الدراسية بالقصف والرعب والدماء، نتيجة المجازر التي خلّفها قصف النظام، وحليفته روسيا، على مدارسهم طوال 12 عاماً. البعض استمر بمحاولة التعلم رغم فترات الانقطاع، ومصاعب النزوح، ونقص الوسائل التعليمية. والبعض الآخر كانت تلك المواقف نهاية لتعليمه وإعاقة لبناء مستقبله.

«مسؤولية» بلا قرار آمن

مع بدء العام الدراسي الحالي في الأول من أكتوبر (تشرين الأول)، تسببت حملة التصعيد العسكري، التي استهدفت عشرات المراكز السكانية في أنحاء إدلب وريف حلب الغربي، في وقف الدوام المدرسي أسبوعاً، تعرضت خلاله 17 منشأة تعليمية ومدرسة للضرر جراء القصف، بما فيها مبنى مديرية التربية والتعليم في مدينة إدلب.

مغادرة الطلاب مدرستهم التي تبدو عليها آثار القصف والدمار بعد انتهاء الدوام في قرية قميناس شرق مدينة إدلب (الشرق الأوسط)

تسبب فترات الانقطاع تلك إعاقة توزيع المنهاج المدرسي، حسبما أشارت المعلمة سلوى الشحاد في حديثها لـ«الشرق الأوسط»، وهو ما يقود بدوره لـ«دمار العملية التعليمية والتربوية»، حسب رأيها.

مدير مديرية التربية والتعليم، أحمد الحسن، قال لـ«الشرق الأوسط»: «هناك تعميم على مشرفي المجمعات لإيقاف الدوام في حال معاودة القصف إن وُجد وضع يستوجب ذلك حفاظاً على سلامة الطلاب والكوادر»، مشيراً لوجود تدريبات عملية على طرق الإخلاء الآمنة.

ثُلث المدارس في سوريا لم يعد صالحاً للاستخدام، بناءً على إحصاءات الأمم المتحدة، التي تُبيّن حرمان أكثر من نصف الأطفال السوريين من التعليم. وأصدر «المركز السوري للعدالة والمساءلة» تقريراً في سبتمبر (أيلول) الماضي يبيّن فيه الاستهداف «المقصود» للمدارس خلال فترات الدوام المدرسي، مع عرضه 47 وثيقة حكومية، 40 منها من إدلب، توضح اختيار المنشآت التعليمية أهدافاً للقصف.

آراء مدرسين

واستطلعت «الشرق الأوسط» آراء عدد من المدرسين في محافظة إدلب، وكلهم أجمعوا على أن قصف المدارس كان متعمداً خلال وجود الطلاب، وفي أثناء الاستراحات، أو عند مغادرة الأطفال المدرسة، ما كان يسبب إصابات ويؤدي لوقوع الضحايا بأعداد كبيرة.

بدأ المعلم أحمد الجرك التدريس خلال الأعوام الأربعة الماضية، وأشار في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن المدرسين يشعرون بـ«الخوف» على طلابهم عند حدوث القصف «لأنهم أمانة».

وأكد المعلم أحمد الحسن أن القصف يؤثر في نفسية المعلمين، ويسبب حالة من التوتر وعدم الاتزان ضمن الفصل الدراسي. وقال الحسن، الذي يملك خبرة 9 أعوام بالتدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن القصف يعني «دماراً شاملاً للتعليم»، لأن الطفل يبقى مشتتاً وهو يفكر بالمكان الآمن الذي سيحميه مفضلاً عدم الذهاب إلى المدرسة.

المدرس جميل الدغيم، الذي يعمل منذ 3 أعوام بتدريس الصف الأول، قال إن مرور الطائرات فوق المدارس يدفع الأطفال للهرب، إما للاحتماء داخل المدرسة أو لمغادرتها ركضاً إلى بيوتهم... «كلما سمعنا صوت قصف نعتقد أنه آتٍ باتجاهنا»، حسبما قال لـ«الشرق الأوسط».

آثار الدمار في مدرسة ضمن مدينة كنصفرة بريف إدلب الجنوبي (الشرق الأوسط)

جيل بلا علم

توقف أحمد (21 عاماً) عن التعلم منذ عام 2012، حينما تعرّض طفلان للقتل نتيجة قصف لقوات النظام على مدرسته الابتدائية. الشاب الذي يعمل مصوراً فوتوغرافياً قال لـ«الشرق الأوسط» إنه حاول العودة للمدرسة مراراً خلال السنوات الماضية لكن الأوضاع الأمنية جعلت من التعليم أمراً ثانوياً، إذ إنه لمس «قلة الاهتمام» ضمن المدارس، إضافة إلى أن اضطراره للعمل دفعه للتخلي عن تلك الفكرة.

تراجع المستوى التعليمي ربطه المعلمون بالقصف بشكل مباشر، إذ إن الانقطاع يصعب على الطلاب التركيز، ويشتت أفكارهم، إضافة إلى المصاعب التي يعيشونها جراء النزوح المتكرر، والانتقال من مدرسة إلى أخرى.

مدرس مادة التاريخ، محمد الحسن، الذي يملك خبرة تصل إلى 18 عاماً بالتدريس، قال لـ«الشرق الأوسط» إن القصف أدى إلى «ظهور جيل أميّ لا يعرف القراء والكتابة»، واصفاً الانقطاع عن التعليم بـ«الجريمة التي تعادل الموت» بالنسبة للطلاب.

تقدر الأمم المتحدة حاجة 1.6 مليون شخص، من أصل 4.6 مليون شخص يقيمون في الشمال الغربي، لخدمات التعليم، وفي حين تعمل 44 منظمة على دعم هذا القطاع فإن خدماتها لا تصل سوى لـ426 ألفاً.

45 في المائة من الأطفال في عمر الدراسة اليوم خارج منظومة التعليم في شمال غربي سوريا، وهو ما يعود للفقر والنزوح، إضافة إلى مخاطر القصف، إذ إن 3 من كل 5 أطفال في الشمال الغربي بحاجة ماسة للمساعدات الإنسانية.

وفي حين أجمع المعلمون على أن خدمات التعليم عن بُعد قد تمثل حلاً لمساعدة الطلاب على متابعة دروسهم، فإنها لا تزال عاجزة عن إحداث فرق فعلي، مع سوء الأحوال المعيشة لدى الأهالي، وعدم توافر الأجهزة المتطورة والمستلزمات التعليمية لدى الطلاب.


مقالات ذات صلة

من منفاهما في روسيا... رئيس سابق للمخابرات السورية وابن خال الأسد يخططان لانتفاضتين

المشرق العربي عنصر من القوات السورية الجديدة بالقرب من صورة للرئيس المخلوع بشار الأسد وشقيقه ماهر في مقر الفرقة الرابعة بدمشق يناير الماضي (رويترز)

من منفاهما في روسيا... رئيس سابق للمخابرات السورية وابن خال الأسد يخططان لانتفاضتين

كشف تحقيق عن أن اثنين كانا ذات يوم من أقرب رجال بشار الأسد وفرَّا من سوريا بعد سقوطه، ينفقان ملايين الدولارات على عشرات الآلاف من المقاتلين المحتملين

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي شابان سوريان يقفان على تلة في داريا مُطلّة على القصر الرئاسي الفسيح للرئيس السابق بشار الأسد في دمشق أواخر أكتوبر الماضي (أ.ف.ب)

في داريا قرب دمشق... سوريون يعيدون بناء حياتهم وأحيائهم المدمرة

لداريا مكانة خاصة في تاريخ الثورة السورية. تقع على مسافة سبعة كيلومترات فقط من العاصمة دمشق، وعلى مرمى البصر من القصر الرئاسي الفسيح للرئيس السابق بشار الأسد.

«الشرق الأوسط» (داريا (سوريا))
شؤون إقليمية قائد قوات «قسد» مظلوم عبدي والرئيسة المشاركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا إلهام أحمد خلال لقاء مع السياسي الكردي التركي عثمان بادمير نوفمبر الماضي (إعلام تركي)

أنقرة ترفض زيارة أي مسؤول من «الإدارة الذاتية» أو «قسد» قبل إلقاء أسلحتهم

رفضت تركيا الحديث عن زيارة أي مسؤول من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا أو «قسد» قبل إلقاء أسلحتها وتنفذ اتفاق الاندماج في الجيش السوري.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
المشرق العربي آلية إسرائيلية في ريف القنيطرة (سانا)

سوريا: 16 آلية عسكرية إسرائيلية تقيم حاجزاً وتفتش المارة بريف القنطيرة

توغلت القوات الإسرائيلية اليوم (الثلاثاء)، في قرية الصمدانية الشرقية بريف القنيطرة الشمالي، بجنوب سوريا.

«الشرق الأوسط» (دمشق)
المشرق العربي مجلس الأمن خلال أحد اجتماعاته الأخيرة في نيويورك (رويترز)

مجلس الأمن يزور لبنان وسوريا هذا الأسبوع

عشية بدء سفراء الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن زيارة بالغة الأهمية للبنان وسوريا، دعا الرئيس الأميركي دونالد ترمب إسرائيل إلى المحافظة على «حوار قوي» مع دمشق.

علي بردى (واشنطن)

قاسم: مشاركة مدني في لجنة وقف النار تنازل مجاني لإسرائيل

أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
TT

قاسم: مشاركة مدني في لجنة وقف النار تنازل مجاني لإسرائيل

أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)
أمين عام «حزب الله» نعيم قاسم متحدثاً في احتفال «تعظيماً للعلماء الشهداء على طريق القدس وأولي البأس» (الوكالة الوطنية للإعلام)

رفع الأمين العام لـ«حزب الله»، نعيم قاسم، سقف خطابه السياسي، مؤكداً أنّ المشاركة برئيس مدني في لجنة وقف إطلاق النار تمثل «إجراءً مخالفاً للتصريحات والمواقف الرسمية السابقة»، التي كانت تشترط، حسب تعبيره، وقف الأعمال العدائية من قبل إسرائيل قبل إشراك أي مدني في آلية التنفيذ.

وفيما أعرب عن تأييده «خيار الدبلوماسية» الذي تتبعه السلطات اللبنانية، رأى أن تعيين السفير سيمون كرم على رأس الوفد اللبناني، هو «تنازل مجاني لن يغيّر من موقف إسرائيل ولا من عدوانها ولا من احتلالها»، مشيراً إلى أنّ «المندوب المدني ذهب واجتمع فازداد الضغط، وأن إسرائيل ومعها أميركا تريدان إبقاء لبنان تحت النار».

وتأتي مواقف قاسم في وقتٍ لم يعلن فيه رئيس البرلمان نبيه بري اعتراضاً على تعيين السفير سيمون كرم رئيساً للوفد اللبناني، إنما أكد على ضرورة حصر دوره بالإطار التقني وعدم توسيعه إلى مستويات تفاوضية أو سياسية، وهو ما يعكس تمايزاً واضحاً حول هذا القرار بين الحليفين.

تقديم تنازلات في لحظة حساسة

ووصف قاسم في كلمة له خطوة تعيين مدني بـ«سقطة إضافية تُضاف إلى خطيئة 5 أغسطس (قرار الحكومة لحصرية السلاح)» معتبراً أنّه «بدلاً من اتخاذ خطوات إلى الأمام تُقدَّم تنازلات لن تنفع مع إسرائيل»، داعياً الحكومة للتراجع عن القرار، وأن «يجري تفاهم داخلي على قاعدة عدم السماح بأي تنازل حتى تطبق إسرائيل ما عليها».

مناصرون يحملون أعلام «حزب الله» اللبناني في بيروت (أرشيفية - رويترز)

«السفينة الغارقة»

واعتبر قاسم أنّ الحزب «قام بما عليه ومكّن الدولة من فرض سيادتها في إطار الاتفاق»، قبل أن ينتقل إلى تشبيه لبنان بـ«السفينة»، معتبراً أنّ «التماهي مع إسرائيل يعني ثقب السفينة، وعندها يغرق الجميع».

وقال إنه يجب مواجهة العدوان الإسرائيلي التوسعي بكل الوسائل والسبل، مضيفاً: «هناك اتفاق لم يتم الالتزام به رغم التزام لبنان، الاعتداءات ليست من أجل السلاح، بل من أجل التأسيس لاحتلال لبنان ورسم إسرائيل الكبرى من بوابة لبنان».

وفي المقابل، أكد قاسم أنّ «الدولة اختارت طريق الدبلوماسية لإنهاء العدوان، ونحن معها أن تستمر في هذا الاتجاه». لكنه شدد على أنّه «لا علاقة لأميركا وإسرائيل بكيفية تنظيم شؤوننا الداخلية، ولا علاقة لهما بما نختلف عليه أو نقرره في لبنان».

وشدّد على أنّ «الحدّ الذي يجب الوقوف عنده هو حدود الاتفاق الذي يتحدث حصراً عن جنوب نهر الليطاني، ولا وجود لما يسمى ما بعد جنوب نهر الليطاني».

وتابع قاسم: «هم يريدون إلغاء وجودنا»، لكن «سندافع عن أنفسنا وأهلنا وبلدنا، ونحن مستعدون للتضحية إلى الأقصى، ولن نستسلم».


الشيباني: نشكر كندا على رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب

وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
TT

الشيباني: نشكر كندا على رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب

وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)
وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (أ.ف.ب)

شكر وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني «كندا على قرارها رفع اسم سوريا من قوائم الدول الراعية للإرهاب». وأضاف، في بيان، اليوم (الثلاثاء): «نثمن دعم كندا لسوريا في مسيرتها الحالية نحو الاستقرار وإعادة الإعمار».

وتابع البيان: «إن هذا القرار يشكل لحظة مهمة لتعزيز العلاقات السورية – الكندية، ويمهِّد لمرحلة جديدة من الشراكات المتعددة... إن سوريا تشدد على استعدادها للعمل مع الشركاء الدوليين كافة والتواصل الإيجابي بما يسهم في دعم جهود التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، ويصبّ في مصلحة الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين».


توافق رئاسي ثلاثي لبناني على الجانب «التقني - الأمني» للمفاوضات

رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
TT

توافق رئاسي ثلاثي لبناني على الجانب «التقني - الأمني» للمفاوضات

رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)
رئيس البرلمان نبيه بري مجتمعاً مع وفد مجلس الأمن في بيروت الجمعة (رئاسة البرلمان)

أكّدت مصادر وزارية أنه لا خلاف بين الرؤساء الثلاثة، مع دخول المفاوضات اللبنانية - الإسرائيلية مرحلةً جديدةً بإدخال مدني إليها، هو سفير لبنان السابق لدى واشنطن، المحامي سيمون كرم، لترؤس الوفد اللبناني للجنة الـ«ميكانيزم»، بغية تفعيل اجتماعاتها للتوصل إلى اتفاق أمني، قاعدته الأساسية تطبيق وقف الأعمال العدائية، بخلاف اجتماعاتها السابقة التي غلبت عليها المراوحة، وتشاركت وقيادة القوات الدولية «اليونيفيل» في تعداد الخروق والغارات الإسرائيلية.

ولفتت إلى أن توافق الرؤساء على إخراج الـ«ميكانيزم» من الدوران في حلقة مفرغة، تلازم مع رسم حدود سياسية للتفاوض، محصورة بوقف الخروق والاعتداءات الإسرائيلية، والانسحاب من الجنوب، وإطلاق الأسرى اللبنانيين، وإعادة ترسيم الحدود وتصحيحها، انطلاقاً من التجاوب مع تحفّظ لبنان على النقاط المتداخلة الواقعة على الخط الأزرق والعائدة لسيادته.

رئيس الحكومة نواف سلام مجتمعاً مع السفير سيمون كرم (رئاسة الحكومة)

وقالت المصادر لـ«الشرق الأوسط» إن لبنان يصر على حصر جدول أعمال المفاوضات ببنود أمنية لا يمكن تجاوزها للبحث في تطبيع العلاقات اللبنانية - الإسرائيلية، والتوصل إلى اتفاقية سلام بين البلدين، وهذا ما أجمع عليه رؤساء «الجمهورية»، العماد جوزيف عون، و«الحكومة»، نواف سلام، و«المجلس النيابي»، نبيه بري، الذي كان أول من اقترح إدخال مدنيين للـ«ميكانيزم»، ومن ثم أصروا على تكرار موقفهم في هذا الخصوص استباقاً لانعقاد الجولة الأولى من المفاوضات، بحضور الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس ومشاركة كرم فيها، بما يتعارض مع جدول أعمالها الذي حدده رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو.

وقالت إن نتنياهو يريد تكبير الحجر لتحريض «حزب الله» على الدولة وإرباكها، فيما يواصل جيشه خروقه واعتداءاته لتأليب بيئته عليه، وهذا ما تبين باستهدافه عدداً من المنازل الواقعة بين جنوب نهر الليطاني وشماله، رغم خلوها من مخازن لسلاح الحزب. ورأت بأنه يواصل ضغطه بالنار لإلزام لبنان بالتسليم لشروطه، وإن كان يدرك سلفاً أنه لا مجال أمام المفاوضات لخروجها عن جدول أعمالها التقني - الأمني، بالتلازم مع إصرار الحكومة اللبنانية على تطبيق حصرية السلاح بيد الدولة، ولا عودة عنه.

وتوقفت المصادر أمام تأكيد بري أنه كان أول مَن اقترح إدخال مدنيين للـ«ميكانيزم»، وسألت، أين يقف الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم من اقتراحه؟ وهل سبق أن اعترض على اقتراح «أخيه الأكبر» في هذا الخصوص؟ رغم أنه في كتابه المفتوح إلى الرؤساء الثلاثة أكّد رفضه للمفاوضات مع إسرائيل، ليعود لاحقاً إلى تصويب ما حمله كتابه هذا، بتكليفه قيادياً في الحزب بأن ينقل رسالة إليه مفادها أنه لم يكن هو المقصود به، لقطع الطريق على افتعال مشكلة داخل البيت الشيعي.

كما سألت قاسم، ألم يوافق الحزب على اجتماعات الـ«ميكانيزم»، ما دام «أخوه الأكبر» هو مَن يفاوض باسمه وكان وراء التوصل لاتفاق وقف النار مع الوسيط الأميركي آنذاك أموس هوكستين؟ وقالت إنه ليس لدى الحزب من أوراق سوى رفع سقف اعتراضه على المفاوضات، ولم يعد يملك ما يسمح له بأن يعيد خلطها في ضوء اختلال ميزان القوى لمصلحة إسرائيل، بعد أن أفقده إسناده غزة منفرداً توازن الردع وقواعد الاشتباك.

الدخان يتصاعد في بلدة المجادل في جنوب لبنان إثر استهدافها بقصف إسرائيلي يوم الخميس (أ.ف.ب)

ولفتت المصادر إلى أن الحزب يفتقد إلى أي بدائل لقلب موازين القوى، ويكتفي بتسجيل اعتراض من العيار الثقيل على المفاوضات، من دون أن يكون في وسعه ترجمته عسكرياً، رغم إصراره على تمسكه بسلاحه واتهامه حكومة سلّام بارتكاب خطيئة بموافقتها على حصرية السلاح التي يُفترض أن تتقدم بدءاً من شمال الليطاني حتى حدود لبنان الدولية مع سوريا، بالتلازم مع تسجيل تقدم في المفاوضات.

ورأت أن الحزب مضطر لوزن موقفه، لأنه ليس وارداً كسر علاقته بعون وتهديد تحالفه ببري، ما يُسبّب انكشافه فيما هو بأمس الحاجة لحماية الداخل، إضافة لما يترتب على «خدش» علاقته بهما من تداعيات سلبية على الطائفة الشيعية، لا يريدها ويتفداها، وما هو المانع من أن يضع ما لديه من أوراق بعهدة بري، كونه الأقدر منه على مراعاته للمزاج الشيعي الذي ينشد تحرير الجنوب، وإفساحاً في المجال أمام عودة أهله إلى قراهم، ولا يرى من منقذ غيره، ويتطلع إليه خصومه على أنه الممر الإلزامي للتوصل إلى تسوية تُعيد إدراج لبنان على لائحة الاهتمام الدولي، وتفتح كوّة لإعادة إعمار البلدات المدمرة، خصوصاً أنه يحظى بعلاقات دولية وعربية، بخلاف الحزب الذي لم يعد له سوى إيران.

وأكدت المصادر أن دخول المفاوضات في مرحلة جديدة كان وراء الضغط الأميركي على إسرائيل لمنعها من توسعتها للحرب، بعد أن استجاب لبنان لطلبها بتطعيم الـ«ميكانيزم» بمدني كُلّف برئاسة وفده، وتمنت على «حزب الله» الوقوف خلف الدولة في خيارها الدبلوماسي، وأن مخاوفه من أن تؤدي إلى ما يخشاه بالتوصل مع إسرائيل إلى اتفاقية سلام ليست في محلها، ما دام أن حليفه بري هو أول من أيد تطعيمها بمدنيين، وبالتالي ما المانع لديه من أن يعطيها فرصة ليكون في وسعه بأن يبني على الشيء مقتضاه لاحقاً، بدلاً من أن يُبادر من حين لآخر إلى «فش خلقه» بسلام، رغم أنه ليس فاتحاً على حسابه، وينسق باستمرار مع عون، ويتعاونان لتطبيق حصرية السلاح التي نص عليها البيان الوزاري للحكومة.

وكشفت أن التواصل بين عون وبري لم ينقطع، وهما قوّما قبل انعقاد الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء الأجواء التي سادت اجتماع الـ«ميكانيزم» في الناقورة، وقالت إن بري كان أوصى النواب المنتمين لكتلته النيابية، والمسؤولين في حركة «أمل»، بعدم التعليق لا سلباً ولا إيجاباً على كل ما يختص بالمفاوضات، وأن توصيته جاءت بناءً على رغبته في حصر الموقف به شخصياً لتفادي إقحام محازبي الطرفين في سجال، سرعان ما يتحول إلى مناوشات في الشارع، فيما الحزب يحرص، كما تقول قيادته، على تحصين علاقته بحليفه الأوحد في الساحة اللبنانية، بعد أن تفرّق عنه شركاؤه السابقون في محور الممانعة بتأييدهم حصرية السلاح.

وقالت المصادر إن الحزب يدرك جيداً أن الأبواب ما زالت مقفلة أمام تصويب علاقاته العربية والدولية، بخلاف بري. وسألت على ماذا يراهن، بعد أن رفضت قيادته المبادرة المصرية إصراراً منها، حسب مصادر دبلوماسية غربية لـ«الشرق الأوسط»، بأن ترهن موقفها بالمفاوضات الأميركية - الإيرانية، ليكون بمقدورها أن تضعه في سلة إيران، لعلها تتمكن من الحفاظ على نفوذها في لبنان بعد تراجع محور الممانعة في الإقليم؟

لذلك، سيأخذ الحكم والحكومة علماً باعتراض «حزب الله»، من دون أن يكون له مفاعيل تصعيدية بتحريك الشارع لتفادي الاحتكاك مع محازبي «أمل»، ما دام أن انطلاقة المفاوضات لا تلقى اعتراضاً من بري، وتبقى تحت سقف تحرير الجنوب تطبيقاً للـ«1701»، إلا إذا ارتأى الدخول في مزايدة شعبوية مع حليفه لا طائل منها، وستؤثر سلباً على حمايته، على الأقل داخل طائفته.